رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الاربعاء 8 نوفمبر 2006
العدد 1749

كل الجدران بيضاء...

                                                                    

 

فاطمة المزروعي*

المدينة هادئة في هذا المساء الدافئ، لا حركة، لا همس، فقط أضواء باهتة هنا وهناك في بعض البيوت، تقف أمام مرآتها تتطلع إلى الأضواء المنعكسة، تحاول اختراق الظلمة، والنظر إلى ما وراء كل هذه البيوت، يبدو العالم كبيرا، تحاول تخيل مساحته في رأسها، تضحك في حزن، حينما تكتشف بأنها لن تنجح أبدا في تخيل كم سوف تكون هذه المساحة، أحاط خصرها بذراعيه، بدا مصطنعا في أسلوبه، كل شيء واضح أمامها، لن تحاول أن تكذب على نفسها، فحركاته كلها واضحة، أرادت أن تخبره بذلك، ولكنها آثرت الصمت، جدلها العقيم لن يفيدها في شيء، هو لا يفهمها، لأنه وبكل بساطة لا يتعامل إلا مع لغة الجسد، تتذكر سهره الطويل أمام شاشة الكمبيوتر، يتعمد أن يريها صور كثيرة لنساء في أوضاع مختلفة، يذكر جمال هذه، ويسب تلك، ويضحك على شكل أخرى، إنه يتظاهر بذلك أمامها، ويصطنع كل هذا العالم الذي تعيشه معه، عادت تنظر إلى المرآة، وحملقت في عينيه، أكثر فأكثر، ولم تنبس ببنت شفه، وضع شفتيه على خدها، واحتضنها أكثر، استسلمت لدفء جسده، سوف أذهب لرؤية والدي؟ إنه يحتضر·· قالتها بتوتر وانفعال، وراحت تنظر إلى المرآة، تتأمل وقع الخبر عليه، ولكنه بدا هادئا كعادته، اذهبي وحاولي ألا تتأخري، سوف أشتاق إليك· كاذب، إنه يكذب، يستطيع أن يتدبر أموره دون الحاجة إليها، تعلم بأنه لن يأتي معها، فهو دائم الشجار مع والدها، يرى بأنه شديد التعنت وجاهل، لا يفهم في شيء، سوى في الشرب، وتضييع أمواله على رفاقه، وكانت هي توافقه على ذلك، فقد كانت حياة والدها في الآونة الأخيرة، قد ازدادت سوءا، ولم ينفع معه أي شيء ولذلك قررت أن تمتنع عن زيارته، رغم حبها له، فلم تكن تستطيع رؤيته وحالته تسوء كل يوم، تخلت عن حضن زوجها، وطبعت قبلة جافة على وجهه، اعتن بنفسك، لن يطول غيابي طويلا، سوف أتصل بك إن حدث شيء، الطعام في الثلاجة، وقد قمت بترتيب ملابسك وأغراضك، نظر إليها، احتضنها في صمت، تأمل ذلك المنديل الذي وضعته حول رقبتها، أعجبه لونه، واستغرب من هذا الطقس الذي اعتادت عليه زوجته منذ فترة بإرتدائها هذه المناديل ولكنها بدت جميلة، هل يشعر بجمالها لمجرد مغادرتها البيت، طرد هذا الشعور من مخيلته، حملت حقيبتها الصغيرة في يديها، بينما سارع هو بحمل حقائبها، وانتظر معها حتى وجد لها سيارة أجرة، تمنت لحظتها لو أنه يلتفت إليها، يتحدث، يضع يده في يديها، أي حركة منه قد تعيد الحياة إليها، وتشعرها بأنها لا تزال أنثى، وفي داخلها بركان من العاطفة والشهوة، ولكن في لحظة، بدت أسرع من البرق، عاد إليها كبرياؤها، وهي تستقل في السيارة، احتضنت حقيبتها إلى صدرها، لو تلتفت لتودعه، أو حتى لتنظر إليه، ولكن لا، إنه رجل لا يستحق مني التضحية ولا حتى الالتفات سنتمترا واحدا، استغرقت رحلتها ساعة كاملة، وهي جالسة صامتة في السيارة، رغم النظرات التي كان يسرقها السائق أحيانا، ليحملق فيها من خلال مرآته الصغيرة، كان الحزن الذي تشعر به في داخلها كبيرا تجاه والدها، وقد أثر على حياتها الزوجية كثيرا، رغم إنه كان يراودها دوما شعور بموته الوشيك الذي لا مفر منه، رغم إنها ليست من هؤلاء النساء اللواتي يتشاءمن أو يؤمن بالفأل السيء، وفي ذلك اليوم لم تحس بأية رعشة في جسدها ولم تتضايق، سوى صداع مفاجئ ثقيل، داهمها فجأة ربما بسبب تفكيرها في زوجها المراهق·

نفضت رأسها، لقد وصلت قرية والدها، انتفض جسدها فجأة دون أي شعور منها، لقد غرقت في أحلام اليقظة، وهي تحمل حقيبتها، بعد أن نقدت السائق أجرته، كانت الشوارع خالية، وكان المنزل بعيدا، هكذا يبدو لها، حاولت أن تتذكر اللحظات التي قضتها هنا، ولكن كان يبدو وكأنها فقدت الذاكرة، كان الصوت الطفولي، يشق عنان ذاكرتها، بين ذلك الضباب الكثيف، هناك أحلام، ولكن يبدو وكأنها انحصرت بين الخيال والواقع، وبدت صورة مجسدة من لحظات مضت، كانت تريد أن تعيش من جديد، وأن تحب من جديد، اقتربت من المنزل، الضباب الذي شعرت به في البداية، بدأ يتلاشى، البوابة الكبيرة أمامها، وضعت حقيبتها على الأرض، تأملت الحديقة الذابلة، لم تكن هكذا، يبدو أن مرض والدها خطير، وقد أقعده عن رعايتها، كان يقدس هذه الحديقة، ولم يتخيل يوما أن يموت فيها عود أو غصن، جففت دموعها، نظرت إلى المكان، كل شيء بدا صامتا، بلا حراك، وظهرت أمها أمامها، كان وقوفها أمام الباب، مفاجأة لها لم تكن تتوقعها وقد أصابها بالدهشة، إنها تزداد جمالا كل يوم، اقتربت منها، احتضنتها بروتينية باردة كعادتها، وقالت لا مبالية وهي تسير أمامها:

"إنه يحتضر، لقد حاولنا كثيرا، لقد كان الطبيب معه منذ الصباح" لم تعلم كيف نطقت والدتها هذه العبارة؟ هل حقا تمتلك في داخلها قلبا ككل النساء والزوجات في العالم؟

سارت معها في هدوء إلى غرفة والدها، وهالها المنظر، لقد شعرت بالخوف، وكادت أن تفر من الغرفة وتتركها، كان إحساسها بالبرد والحزن والجوع، شعرت بهما وهي تقف أمامه، إنه الموت، الذي يختبئ وسط هذه العتمة··

"أبي" هل أنت بخير؟

"ابنتي حبيبتي، الحمد لله! إنني لا أريد أن أموت وحيدا"

"لا تقل هذا يا والدي، كلنا معك"

وكان يعلم أنها تكذب، كيف سوف تكون معه؟ وهي حتى الآن لم تشعر بالاستقرار بينها وبين نفسها، عادت تنظر إلى والدها، جسد متيبس، وعينان فقدتا بريقهما، بلا أسنان، ضئيل في فراشه الضخم، حتى في أيامه الأخيرة، لا يريدها أن تشاركه، أرادت أن تتحدث معه عن زوجها، وعن تصرفاته وخياناته العديدة، ولكنها آثرت الصمت الحزين، كانت تدرك بأنه لا يريدها أن تشعر بالألم لألمه، ولكنها تريد أن تكون معه، وتجتاز حاجز الموت بكل ثقة وهدوء، تريد أن تكون معه في كل شيء، في ذكرياته وأفراحه، وأحزانه، وألمه وحتى حياته العاطفية السابقة، ومغامراته الطفولية التي يستمتع وهو يرويها لها، وكانت هي تستمع في صمت، وتنظر إلى والدتها، كانت تعلم في قرارة نفسها، بأن هذه الأم قد فقدت كل الأحاسيس، ولا يهمها زوجها، لقد تعبت من نزواته، فآثرت أن تعيش حياتها دون تدخل من أبيها، فكانت تخرج وتدخل كيفما تشاء، ولم يمنعها، إنها قوية، وكل يوم تزداد جمالا وتوهجا، تمنت لو كانت كأمها في قوتها، لما كانت تشعر بهذا الألم الهائل في أعماقها، الذي يجرح قلبها، تحولت الأيام بالنسبة إليها، إلى أيام روتينية، كانت تعتني به، وأحيانا يقص عليها حكاياته القديمة، وكانت تنظر في استغراب إلى توهج وجهه، إنه يبدأ استعادة عافيته، كلما تذكر حكاياته مع نسائه اللواتي عاشرهن، كان يضحك في استهتار وهو يريها صور كل النساء اللواتي لمس أجسادهن، كانت تحملق فيه بصمت وإشفاق، كفى يا والدي ، أنت بحاجة إلى الراحة، إنك تتعب نفسك، فلا يجيبها، إنما يحملق في السقف، ولكن سرعان ما يتحول صوته إلى شهقات بكاء متقطع، عندما يعاوده الألم، ويجد نفسه على حافة الموت الوشيك، فيأخذ الصور ويمزقها ويرميها على سريره، كانت تشعر بأنها مشتتة بين مشاعره، ولا تفهم أي شيء من أحاسيسه، كانت تفكر في زوجها، وتتمنى لو كان هنا، حتى تضع صدرها على رأسه، وتخبره بأنها تحتاجه، وإنها قد سئمت كل هذا الجو، الموت والرهبة والإحساس القادم بالخوف···

كانت أمها دوما صامتة، لم تسألها عن زوجها، أو عن حملها، لقد أجهضت ثلاث مرات، ربما أن رحمها لم يتهيأ لاستقبال الأطفال، هذا ما كانت تقوله صديقتها، كانت عبارتها تجرحها، ولكنها تعودت مع الوقت، كل شيء تافه في العالم، لا يستحق منا كل هذا العناء····

صرخة أيقظتها، أنه يحتضر، لا تعرف ماذا تفعل؟ ركضت في زوايا كثيرة، ركضت حاولت أن تختبئ عن تلك اللحظة التي لا تريدها رغم حقيقتها، شعرت بذهول حقيقي، كانت كمن يختنق، هناك شيء يقف في حلقها، إنها تريد أن تصرخ، سنوات منعها الحياء أن تصرخ، والآن لقد جاءت هذه الفرصة، سوف تصرخ بكل ما لديها من خوف وحزن وهم وضيق وألم، ركضت، ولم تعلم إلى أين تذهب؟ كل الجهات بدت أمامها متشابهة، كل الجدران بيضاء، لا فرق بينها، هناك الفرق بين ذلك الحزن الذي تشعر به لفراق زوجها ووالدها؟ هل حقا تريد رؤيته في اللحظات الأخيرة، وهو يمد يده إليها، يطلب منها أن تقترب منه، حتى لا يموت وحيدا، يريدها أن تبقى معه وتشاركه وحدته في هذا الظلام، لا تعرف كيف وصلت إلى سريره؟ رغم الشعور الذي انتابها، والذي كان مسيطراً على عقلها، كان الليل قد حل، والغرفة بدت تشبه المدفن، رغم الأثاث الفخم، ولكن كل شيء كان باهتا، وثمة جو كئيب يحيط بالسرير، مد يديه إليها، اقتربت منه، احتضنته وبكت، لا تبكِ، لن أموت وحيدا؟ أنت معي" ولم تحتمل، لا لا لا تريد كل هذا الألم، حتى بعد موته سوف تحمل في داخلها كل هذا الكم من الوحدة والحزن والجبن والضآلة، كانت تجهش بالبكاء، وهي ترمقه وهو يحتضر، لحظتها لم تستطع احتمال كل هذا، غادرت الغرفة، وإحساسها أن روح والدها قد حلت فيها، بكل شيء، قصصه وحكاياته ومغامراته، حياته وموته، أحلامه، وصوره الغرامية، ورسائله وكان الألم في أعماقها كبيرا، لم يختلف عن زوجها في شيء، وراحت تدور في القرية حاملة ذكريات والدها، منتظرة لحظة تستعيد فيها توازنها مع نفسها·

 

قاصة من الإمارات

عن موقع:  www.ofouq.com

طباعة  

ملف مجلة "بانيبال" أثار ضجة في الصحافة الأدبية
الكتابة الجديدة في مصر تحت الضوء مرة أخرى

 
القضايا العربية في مجلس الأمة الكويتي