رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الاربعاء 8 نوفمبر 2006
العدد 1749

صفحات من تاريخ المخابرات الأمريكية في تجنيد المثقفين
ولا زال هناك من يدفع للزمار.. ولازال هناك من يعزف اللحن المطلوب!

                                       

 

خلال سنوات اشتداد الحرب الباردة، خصصت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية موارد كبيرة لبرنامج دعاية ثقافية سري في أوروبا الغربية·

وكانت السمة المركزية لهذا البرنامج هي تعميم إدعاء بأنه لا وجود له، وأدار هذا البرنامج بسرية تامة ذراع أمريكا التجسسي، أي وكالة المخابرات المركزية، وكانت مركز هذه الحملة الخفية "منظمة حرية الثقافة" وأدارها عميل المخابرات المركزية "ميشيل جوسلسن" من سنة 1950 وحتى سنة 1967، وكانت منجزاتها ذات شأن كبير لا تقل أهمية عن أمدها الطويل، وفي ذروة نشاطها، امتلكت "منظمة حرية الثقافة" مكاتب في 35 بلدا، وعمل فيها عشرات الأشخاص، ونشرت أكثر من 20 مجلة شهيرة، وأقامت معارض، وامتلكت وسائل خدمات إخبارية وتغطيات صحافية، ونظمت مؤتمرات دولية ذات سمعة عالية، وقدمت جوائز ومكافآت للموسيقيين والفنانين والمسرحيات الجماهيرية· كانت مهمة هذه المنظمة هي سحب نخبة أوروبا الغربية الثقافية بعيدا عن افتتانها القائم بالماركسية والشيوعية، نحو نظرة أكثر تكيفا مع "الطريقة الأمريكية"·

منذ البداية، في العام 1947، بدأت وكالة المخابرات المركزية، استنادا الى شبكة واسعة بالغة التأثير من الشخصيات الثقافية، ومخططي الاستراتيجيات السياسية، ومن النظام القائم، والروابط القديمة بين الجامعيين، بإنشاء "اتحاد" أو كونسرتيوم، مهمته المزدوجة هي تلقيح العالم ضد تأثير الشيوعية، وتمهيد الطريق أمام مصالح السياسة الأمريكية الخارجية في العالم· وكانت النتيجة قيام شبكة مترابطة ترابطا وثيقاً من الأفراد يعملون جنبا الى جنب مع الوكالة لتعزيز فكرة مفادها أن العالم بحاجة الى "سلام أمريكي" أو "باكس أمريكانا" بالمفهوم الإمبراطوري الروماني الذي فرضته روما على العالم القديم، وإلى عصر تنوير جديد، وسيدعى كل هذا "القرن الأمريكي"·

وكان هذا الاتحاد الذي أنشأته وكالة المخابرات الأمريكية، ويتضمن ما وصفه "هنري كسينجر": "أرستقراطية مكرسة لخدمة هذه الأمة باسم مبادىء تتجاوز المشايعة"، السلاح الخفي في صراع أمريكا في الحرب الباردة وهو سلاح كانت له في المجال الثقافي نتائج محققة ذات تأثير واسع·

 

كسب العقول

 

قلة من الكتاب أو الشعراء أو الفنانين أو المؤرخين أو العلماء أو النقاد، في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، سواء أحبوا هذا، أم لا، وسواء عرفوا به أم لا، لم ترتبط أسماؤهم بطريقة من الطرق بهذا المشروع الخفي، وأدارت مؤسسة أمريكا التجسسية، بلا تحد من أحد، وغير مكشوفة طيلة أكثر من عشرين عاما، جبهة صراع ثقافي معقدة وموقوفة على هذا الأمر من حيث الأساس في الغرب، ومن أجل الغرب، تحت شعار حرية التعبير، وبنظرتها الى الحرب الباردة كمعركة "لكسب العقول" أقامت ترسانة هائلة من الأسلحة الثقافية احتوت علي صحف وكتب ومؤتمرات ومنتديات ومعارض فنية وحفلات موسيقية وجوائز·

وضمت عضوية هذا الاتحاد مجموعة متجانسة من المثقفين الراديكاليين واليساريين السابقين الذين حطمت ثقتهم بالماركسية والشيوعية دلائل على النزعة الاستبدادية الستالينية، وبظهورهم من عقد الثلاثينيات "الوردي" الذي رثاه "أرثركوستلر" بوصفه "ثورة الروح المجهضة، ونهضة مخفقة، وفجر تاريخ زائف"، انطوى تحررهم من الوهم على استعداد للانضمام الى إجماع جديد، وتثبيت نظام جديد سيكون بديلا لقوى الماضي الضائعة، وتم تعليق تقاليد المنشق الراديكالي، حيث كان المثقفون يأخذون على عاتقهم فحص الأساطير ومساءلة الامتيازات التي تزعمها لنفسها المؤسسات، وإقلاق راحة السلطة، لصالح دعم "المقترح الأمريكي"·

وأصبحت هذه الجماعة اللا- شيوعية، بعد أن حظيت برضا وهبات مؤسسات نافذة، أشبه بتجمع احتكاري، كارتل، في حياة الغرب الثقافية مثلما كانت الشيوعية قبل ذلك بسنوات قليلة (وضم الكارتل كثيرا من شخصيات الكارتل الشيوعي نفسها)·

يقول "تشارلي ستيرن" الراوي في رواية "موهبة همبولت" للأمريكي "سول بيلو": "حين يبدو أن الحياة تفقد قدرتها على تنظيم نفسها، يجيء وقت يتوجب فيه أن يتم تنظيمها· ويأخذ المثقفون هذه المهمة كعمل لهم· فمنذ، ولنقل، عصر "ميكيافيلي" وحتى عصرنا، كان هذا التنظيم أحد المشروعات الكبرى المعذّبة والكارثية والمعرضة للضلال، إن رجلا مثل "همبولت"، ملهما وقاسيا وغريب الأطوار، كان مأخوذا باكتشاف أن المشروع الإنساني بتنوعه اللانهائى واتساعه البالغ، يجب أن يقوم على شؤونه أشخاص استثنائيون، وكان هو شخصا استثنائيا، ولذا كان مرشحا مؤهلا لتسلم السلطة· طيب·· ولماذا لا؟"· وشأنهم في ذلك شأن العدد الكبير من أمثال "همبولت" وجد هؤلاء المثقفون الذين خانهم صنم الشيوعية الزائف، أنفسهم يتطلعون الى إمكانية بناء "فايمار" جديدة، فايمار أمريكية (جمهورية فايمار كانت الجمهورية التي خرجت من حطام هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ولم تعش إلا مدة قصيرة) فإذا كانت الحكومة الأمريكية، وذراع عملها الخفي، وكالة المخابرات المركزية، مستعدة لدعم هذا المشروع، طيب·· فلماذا لا؟·

ولكن أن يكون على اليساريين السابقين هؤلاء أن يصبحوا مربوطين سوية في المشروع نفسه بالمخابرات المركزية الأمريكية، لهو أمر غير قابل للتصديق بدرجة أقل مما يبدو· لقد كان هناك تجمع مصلحي أصيل وعن قناعة بين الوكالة وهؤلاء المثقفين المأجورين، حتى وإن لم يعرفوا به، لخوض الحرب الباردة الثقافية· كتب المؤرخ الأمريكي البارز "أثر شليسنجر" إن وكالة المخابرات المركزية لم تكن "دائما" أو في غالب الأحيان رجعية وشريرة، وأضاف "حسب خبرتي، كانت قيادتها مستنيرة سياسيا وذات مستوى ثقافي رفيع"، ولعبت هذه النظرة الى الوكالة بوصفها ملاذا لليبرالية دور الباعث القوي على التعاون معها، أو إن لم يكن التعاون، الإذعان على الأقل للأسطورة القائلة بأن حوافزها خيرة· ومع ذلك، فهذا الإدراك لا يتلاءم تلاؤما مريحا مع شهرة الوكالة كمتدخلة لا ترحم في شؤون البلدان الأخرى، وأداة للسلطة الأمريكية في الحرب الباردة غير قابلة للمحاسبة الى حد مخيف·

فقد كانت هذه المنظمة هي العقل المدبر للإطاحة برئيس الوزراء "مصدق" في إيران في العالم 1953، وإسقاط حكومة "اربنز" في جواتيمالا في العام 1954، وعملية خليج الخنازير الكارثية في العام 1961، وبرنامج فونيكس السيىء السمعة في فيتنام·

لقد تجسست على عشرات الآلاف من الأمريكيين، وتولت على التوالي مهاجمة ومضايقة القادة المنتخبين ديمقراطيا في البلدان الأخرى، وخططت لاغتيالات، وأنكرت هذه الأنشطة أمام الكونغرس، وفي سياق هذه العملية رفعت مستوى فن الكذب الى مستويات جديدة عالية·

 

مركبة ذهبية

 

بأية كيمياء سحرية غريبة إذن استطاعت وكالة المخابرات المركزية تقديم نفسها لعقول مثقفين من طراز رفيع مثل "أرثر شليسنجر" بوصفها المركبة الذهبية لليبرالية الزاهية؟

إن المدى الذي بلغه امتداد مؤسسة التجسس الأمريكية في قضايا حلفائها الغربيين الثقافية، وهي تعمل كمقدمة تسهيلات من وراء ستار لنطاق واسع من النشاط الإبداعي، واضعة المثقفين ونتاجاتهم مثل قطع شطرنج تلعب بها في اللعبة الكبرى، يظل واحدا من أكثر موروثات الحرب الباردة إثارة للاهتمام·

ومع ذلك لازال من الواجب تقديم تحد جدي للدفاع الذي يرفعه حرس تلك المرحلة الذي يقوم على زعم بأن استثمارات وكالة المخابرات المركزية المالية جاءت بلا شروط، فمازال قائما هناك في الدوائر الثقافية في أمريكا وأوروبا الغربية استعداد للقبول، كحقيقة، بأن الوكالة كانت مهتمة فقط بتوسيع إمكانيات التعبير الثقافي الحر والديمقراطي·

ويمضي السطر التالي الدفاعي الممنوح كشيك على بياض للوكالة الى القول: "نحن ساعدنا الناس مجرد مساعدة على قول ما كانوا سيقولونه على أية حال"· ويضيف أصحاب هذه الحجة: "إذا كان المستفيدون من أموال الوكالة يجهلون الواقعة، وإذا كان سلوكهم تبعا لذلك غير متكيف، فإن استقلالهم عندئذ كمفكرين نقديين لا يمكن أن يتأثر" ولكن الوثائق الرسمية ذات الصلة بالحرب الثقافية الباردة تهدم هدما منظما أسطورة نزعة الخير هذه· كان يتوقع من الأفراد والمؤسسات التي تمولها وكالة المخابرات المركزية التصرف والعمل بوصفهم جزءا من حملة إقناع أوسع، حملة دعاية حرب تعرّف فيها "الدعاية" بوصفها "أي جهد منظم أو حركة لنشر معلومات أو تعاليم معينة بوسائل الخبر أو الحجج الخاصة أو تصاميم جذابة للتأثير على أفكار وأفعال أية جماعة معنية"·

وأحد مكونات هذا الجهد الحيوية كان "الحرب النفسية" التي تم تعريفها بوصفها: "الاستخدام المخطط من قبل أمة لدعاية وأنشطة غير المعركة، ذلك الذي يوصل أفكارا ومعلومات هدفها التأثير على آراء ومناهج ومشاعر وتصرفات جماعات أجنبية بطرق ستساند تحقيق الأهداف الوطنية"·

بالإضافة الى هذا، تم تعريف "أكثر أنواع الدعاية تأثيرا" بوصفه ذلك النوع الذي يتحرك فيه الشخص الخاضع للدعاية في الاتجاه الذي ترغبه لأسباب يعتقد أنها أسبابه هو"·

ولا جدوى في الاختلاف حول هذه التعريفات، فهي منثورة في مختلف الوثائق الحكومية، في "مخلفات" الدبلوماسية الثقافية الأمريكية التي جاءت بعد الحرب العالمية الثانية·

 

أية حرية؟

 

من الواضح أن وكالة المخابرات الأمريكية، بتمويها لحقيقة، استثماراتها، كانت تتصرف بناء على فرضية أن عروضها المتملقة سيكون مصيرها الرفض إذا قدمتها بشكل مكشوف· فأي نوع من الحرية يمكن أن يتعزز بخداع مثل هذا؟ من المؤكد أن حرية من أي نوع لم تكن على الأجندة في الاتحاد السوفياتي حيث ربط الكتاب والمثقفون الذين لم يرسلوا إلى معسكرات الإبعاد بخدمة مصالح الدولة·

لقد كان من الصواب بالطبع معارضة انعدام حرية من هذا النوع، ولكن بأية وسائل؟

هل هناك مبرر حقيقي للافتراض بأن مبادىء الديمقراطية الغربية لا يمكن أن تبقى على قيد الحياة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية بناء علي نوع من الآلية الداخلية؟ أو هل هناك مبرر لعدم افتراض أن الديمقراطية يمكن أن تكون أكثر تعقيدا مما كان مطبقا على يد المسبحين بحمد الليبرالية الأمريكية؟ الى أية درجة كان من المقبول بالنسبة لدولة أخرى التدخل بالخفاء في الصيرورة الأساسية للنمو الثقافي العضوي، وفي النقاش الثقافي وتدفق الأفكار غير الممنوع؟ ألا يهدد هذا بدلا من إنتاج الحرية، بإنتاج حرية زائفة، يعتقد الناس في ظلها أنهم يتصرفون بحرية، بينما هم مقيدون في الحقيقة بقوى لا سيطرة لهم عليها؟

ويثير انخراط وكالة المخابرات المركزية في الحرب الثقافية أسئلة مقلقة أخرى، هل تشوه؟ المساعدة المالية العملية التي يتقدم بوساطتها المثقفون وأفكارهم؟ هل المنصب هو الذي يختار الناس، أم أن الاختيار يتم بدلا من ذلك على أساس المميزات الثقافية؟ ماذا كان "إرثركوستلر" يعني حين سخر من "دائرة الفتيات تحت الطلب الأكاديمية الدولية للمؤتمرات والمنتديات الثقافية؟"·

في العام 1966 ظهرت سلسلة من المقالات في صحيفة "نيويورك تايمز" تفضح مدى واسعا من عمل خفي تقوم به أوساط المخابرات الأمريكية، وفيما كانت قصص المحاولات الانقلابية والاغتيالات السياسية تتدفق على صفحات الصحف الأولى، أصبحت وكالة المخابرات المركزية توصف على أنها فيل منفلت، يندفع ساحقا في مزارع السياسة الدولية، منفلت من أي إحساس بأنه قابل للمحاسبة، ووسط هذا جاءت تفاصيل أكثر درامية من فضائح مؤامرات العباءات والخناجر، عن كيف أن الحكومة الأمريكية تتطلع الى براهمة الغرب الثقافيين من أجل أن يمنحوا ثقلا ثقافيا لأفعالها، وأثار ما قيل من أن الكثير من المثقفين قد بثت فيهم الحياة إملاءات صُناع السياسة الأمريكية لا معاييرهم الثقافية المستقلة شعورا واسعا بالغثيان·

لقد تقوضت السلطة الأخلاقية التي تمتعت بها النخبة المثقفة خلال تعاظم الحرب الباردة الآن بشكل خطر، وكثيرا ما تعرضت للسخرية، وانهارت "جماعة أهل الحل والعقد" أو "الإجماع الارستقراطي" ولم يعد المركز متماسكا·

ومثلما تفككت النخبة، كذلك حدث للقصة نفسها إذ أصبحت شظايا وأجزاء ومعدلة على يد قوى من اليمين واليسار رغبت في تحريف مسار حقائقها الخاصة نحو نهايات لصالحها· المفارقة هي أن الظروف التي جعلت الكشوفات ممكنة، ساهمت في جعل دلالتها الحقيقية غامضة، ومع حملة أمريكا الموسوسة بالعداء للشيوعية في فيتنام التي أوصلتها إلى حافة الانهيار الاجتماعي، ومع الفضائح اللاحقة بحجم "أوراق البنتاغون" و"ووترجيت" صار من الصعب صعوبة بالغة الحفاظ على مصلحة أو بهجة في أشغال "المعركة الثقافية" والتي بدت بالمقارنة مع الفضائح شىئا نافلا·

التاريخ، كما كتب "أرشيبالد ماكليش" يشبه قاعة حفلات موسيقية سيئة الإنشاء ذات زوايا استماع صماء لا يمكن فيها سماع الموسيقى"·

وهذا الكتاب يحاول تسجيل تلك الزوايا الصماء، إنه يبحث عن نظام صوتي جديد، نغمة غير تلك التي عزفها فضلاء تلك المرحلة الرسميون· إنها تاريخ سري، يتحدى ما وصفه "جور فيدال" بقوله "تلك الروايات الخيالية الرسمية التي اتفقت عليها سوية الكثير والكثير من الأطراف، وكل طرف مع أيامه الألف ليقيم فيها أهرامه المضللة ومسلاته لحساب الزمن الشمسي"·

 

*ترجمة لمقدمة كتاب "من يدفع للزمار: المخابرات المركزية الأمريكية والحرب الثقافية الباردة" للباحثة فرانسس ستونر سوندرز، جرانتا بوكس، لندن، 1999

طباعة  

آراء
 
هكذا صنع الشرق مرة.. ومازال يصنع في ورشة لا تهدأ