رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 1 نوفمبر 2006
العدد 1748

على آثار باولو كويلو وترجمته الى العربية
الحضارات تبنى بالكلمات

                                                            

 

رنا الصيفي:*

الإنسان باني حضارته، والإنسان جزء من نظام الكون وهو يخضع بالطبيعة لقوانين هذا الكون القائلة بمبدأ التغيّر·

ولأن الحضارات من صنع الإنسان، فهي تتحرك وفقا لحركته، تتعاقب وتتغير، تسطع ثم تخبو، ورغم تمايز الحضارات وتماثُلها، فقد كانت حاجاتها واحدة ولاتزال، واتصفت بالتواصل والتفاعل سعيا الى البقاء والارتقاء· لأن كل انطواء على الذات، وعزلة عن الآخر، إنما هي اندثار حتمي، ولأن التفاعل هو الإطار الأول والأخير، فقد كان لابد من وسائل عدة لتحقيقه، كانت الكلمة·· وكانت الترجمة·

ويقال في الترجمة إنها نقل مرسلة نص واحدة من لغة الى لغة أخرى، ومع أن هذا النص واحد، فهو مُلك اثنين: المؤلف ومترجمه·

وفي الترجمة انصهار كلّي بين مؤلف ومترجمه·· تزواج ثنائي، لغوي وفكري وحضاري·

لكن، أيُعقل أن يغدو هذا الزواج ثلاثيا؟ أن تنتفي الثنائية أمام الثلاثية·· أن يقف المؤلف أمام مترجمه، وهذا المترجم أمام مترجم آخر، مترجمه؟ مستحيل؟

لا، ليس مستحيلا·· فهذه الحال حالي، وهذه الحكاية حكايتي، فقد كان زواجي ثلاثيا!

من خلال ترجمتي رواية باولو كويليو "فيرونيكا تقرر أن تموت"، تزوجتُ من المؤلف والمترجم في آن·

في البداية، وأقولها بخفر، استجذبني المترجم أكثر من المؤلف، وأخذتُ على عاتقي ترجمة الكتاب من الإنجليزية، اللغة التي اعتمدها المترجم، بدل البرتغالية، لغة كويليو·

وبذلك أكون قد خرقتُ كل النظم والقوانين المرعية الإجراء التي تحتمها عليّ الترجمة: فلم أواجه المؤلف مباشرة، ولم أنقل الرواية الى لغتي من لغتها الأصل (أي البرتغالية)، بل من لغة وسيطة (الإنجليزية)، فانتفى وجود النص المصدر مقابل النص الهدف، وانقلبت المقاييس، وبتنا أمام نص هدف مقابل نص هدف آخر، ولم أنطق باسم كويليو بل باسم مترجمه!

غير أن هذا النص الوسيط، هذا النص المترجم، كان بالنسبة إليّ عطر الرائحة، سلسا، لا شوائب أو عثرة فيه، وسرعان ما راح يقرّبني من كويليو، من دون أن أدري، كويليو كما قدّمه لي·· فاستغرق في كويليو في كل كلمة·· أراه بين السطور، أسمع صوته عبر شخصياته، أدرك فكره من خلال أسلوبه الفريد، وأشعر بروحه في الروح التي تنبض بها الرواية·· لدرجة نسيت معها جنسية كويليو وخلتُ أنه يكتب أصلا بالإنجليزية··

ولم أشكك بصدقية النص الوسيط أو مدى أمانته للأصل، فأنا مترجمة وأزعم أني أدرك إدراكا واسعا  مدى سعي المترجم أن يكون حريصا على المؤلف·· أكثر حتى من المؤلف على نفسه·

ومن ترجم الرواية، وهي مارغاريت خول كوستا، مترجمة مشهود لها، تنتمي هي والمؤلف الى ثقافة واحدة، فوثقتُ عندئذ، وقد تكون ثقتي عمياء، بأنه لن يفوتني مثقال ذرة من كويليو، وأن الأمانة ستصلني بلا لوثة·

ومن جهتي، توخيت الأمانة الإنجليزية بقدر ما استطعتُ بحيث تحاكي منحوتتي العربية المنحوتة البرتغالية الأصلية·

ولعل هذه الثلاثية في الترجمة مثال شديد التعبير عن تواصل الحضارات وتفاعلها وانفتاحها، فبتوحدّي مع المترجم، توحدّتُ مع كويليو، حتى كادت الغرابة التي بيننا، التي تفصل بين حضارتينا تتلاشى كليا·

وعندما نقلتُ كويليو "الإنجليزي" الى العربية، لم أنقل ذاك الحبر الأسود من اليسار الى اليمين، بل حاولتُ نقل فكر كويليو، وروحه وذهنيته، وبي توق الحفاظ على أصالته·· وهذا ما سبقني إليه المترجم·· والواقع، أن جل ما فعلناه، هو أن كسونا كويليو حلة جديدة، فألبسه المترجم الأول الزي الإنجليزي وزيّنته أنا بعباءة عربية من دون المساس بكيانه·

أو ليس ذلك كفيلا بالارتقاء بالتفاعل الى ذروة من ذراه؟

والتفاعل لم يكن يوما قائماً على الأحادية أو الفردية أو الانطوائية معه تنتفي العزلة عن الآخر، ويتنحى التنميط لصالح التعددية التي تعمل بها الترجمة ومن أجلها، لأن شعار الترجمة هو التنوع ونقل الكلمة، بمفهومها الواسع الى أكبر شريحة ممكنة من العالم، كما أن في الترجمة استمرارية للمؤلف ونشراً لمؤلفه وديمومة لفكره·

وتأكيدا لتفاعل الحضارات والثقافات عبر الفكر، عبر الترجمة، لا يسعنا إلا الولوج في رواية كويكيو التي تشكل انعكاسا لكل تعددية ممكنة، فيظهر من خلال فحوى الرواية أن كويليو ذاك الكاتب البرازيلي غير منقطع عن العالم القائم خلف حدود بلاده، ولا أقصد بذلك أنه يتتبع مجريات الأمور عبر الصحف والأخبار التلفزيونية، فهو يجاوز هذه الوسائل  الإعلامية البسيطة ليناقش قارئه بصمت في مسائل جوهرية أكثر عمقا، أسئلة يرددها الكل على أنفسهم، أسئلة مشتركة بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الانتماء أو الطبع أو الذهنية· فيبعث قارئه على التساؤل عن معنى الحياة عن وجود الله، عن حقيقة ذواتنا عن حياتنا المقولبة·· المبرمجة وفي روايته يتوجه كويليو الى الإنسان الخالص فينا، الذي يولد في حالة بؤرتها التفاعل ويشير في المقابل الى الإنسان المزيف الذي يتملكنا والذي اكتسب زيفه أو ورثه عن الآخرين من خلال ما يرده من أفكار وقوالب منمّطة "stereotyped" تقصيه عن الآخر وتحجزه داخل أسوار أنانيته·

وفي الرواية ثورة ضد الأنماط الموروثة السائدة  أكانت فكرية أم اجتماعية أم غيرها· تتجلى في "جنون" الشخصيات التي ابتكرها كويليو في قيامها بما نسميه "ممنوع" في عصيانها الأنظمة "المقولبة" التي كثيراً ما نعتبرها صحيحة·

وتحاول هذه الشخصيات شأنها شأن الحضارات أن تتفهم وتتقبل بعضها البعض، أن تتواصل بهدف البقاء·· وهي تتأثر ببعضها كما هي حال الثقافات: الواحدة تطعّم الأخرى وتغذيها وتسهم في تطورها·

وفي الرواية غنى حضاري وثقافي ملحوظ يعيدنا بين الحين والحين الى الماضي القريب بعرض مشاهد من التاريخ "من حروب عالمية لا تنسى من عادات وتقاليد" والى الماضي السحيق، بالاقتباس عن التوراة أو الإنجيل لمناقشة أفكار من زمننا الحاضر وقد تتساءلون لم الكلام عن مغزى الرواية·· الواقع أن مغزاها هذا دليل، ولربما تجسيد لحركة الحضارات والثقافات المتعاقبة المتواصلة منذ الأزل مع بعضها، المتفاعلة في كل حين·

من هنا، أكون بمجرد أن ترجمتُ من فكر كويليو الى العربية، زدت لغتي وحضارتي انفتاحا على انفتاح وإثراء على إثراء·· نقلت الكلمة ولم أنقل الحرف حاولت نقل الجوهر لا المظهر·

وقلمّا يهم اللسان الذي نطق به كويليو في المادة التي وصلتني أو الحلة التي ازدان بها في حضوره كلمات أمام ناظري، المهم أني طلبته سليما معافى بعد أن عبر جسر الترجمة من دون أن يتعثر·

وبمجرد أن أنقل الفكر لغة، أكون قد أضفيتُ جديدا على ثقافتي أكان من حيث الفكر أو الإطار الروائي أو أسلوب الكتابة أو تسلسل الأحداث·· وبوصول هذا الفكر إليها يحدث الارتقاء عن حيز الذات والانطوائية الى مدى مفتوح، ولعل التواصل عبر الأفكار هو أرقى أشكال التفاعل لأنه يترفع عن الحواجز المادية والتوجهات الأحادية الجانب التي تعوق النماء الحضاري·

وهنا تكمن أهمية الترجمة·· في كونها فعل انفتاح يجمع بين الحاضر والماضي يُغني الأول ويحيي الثاني، بين التاريخ والمستقبل، بين غريب وغريب·· وفي كونها جسرا تعبره الحضارات والثقافات·· وأداة تصقل الإنسان·· تهذّب عقله وترشّد فكره وتوسّع آفاق بصيرته·

* جامعية ومترجمة من لبنان (من وقائع ندوة الحوار الثقافي

العربي الآيبيرو- أمريكي- 10-12 ديسمبر 2002 تونس)·

طباعة  

الإنجليزي ييتس يقدم تاجور الى قراء الإنجليزية
هذا عالم حلمت به طيلة حياتي!