رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 1 نوفمبر 2006
العدد 1748

الإنجليزي ييتس يقدم تاجور الى قراء الإنجليزية
هذا عالم حلمت به طيلة حياتي!

                                              

 

في أول رحلة له الى بريطانيا قام الشاعر الهندي "رابندراناث تاجور" بترجمة مجموعة من أشعاره الى الإنكليزية· لم يكن معروفاً خارج بلده حتى تلك اللحظة، ولكن ما إن نشرت مجموعته الأولى هذه مترجمة الى الإنجليزية حتى اكتشف العالم شاعراً من طراز فريد لم يعتد عليه· ولم يطل الأمر كثيرا حتى حظي طاغور في ثلاثينات القرن العشرين بجائزة نوبل، في هذه المقدمة يتعرف الشاعر الإنجليزي "الإيرلندي الأصل" و·ب ييتس على تاجور ويقدم له في العام 1913!

 

قبل أيام قليلة قلت لطبيب بنغالي أنا لا أعرف اللغة الألمانية ومع ذلك إذا أثارتني ترجمة لشاعر ألماني، سأذهب الى المتحف البريطاني وأفتش عن كتب بالإنجليزية تحدثني عن حياته وتاريخ أفكاره، ولكن رغم أن هذه الترجمات النثرية لرابندراناث تاجور أثارت الدم في عروقي كما لم يفعل اي شيء منذ سنوات فلن أعرف شيئاً عن حياته والتيارات الفكرية التي جعلت هذه الكتابة ممكنة إن لم يخبرني مسافر هندي·

 وبدا لهذا الطبيب من الطبيعي أن تحركني هذه الكتابة لأنه أجابني: "أنا أقرأ اشعار رابندراناث يوميا فقراءة سطر واحد من سطوره تنسيك كل متاعب العالم"·

قلت: "لو أن إنجليزيا يعيش في لندن في عهد ريتشارد الثاني اطلع على ترجمات لاشعار "بيترارك" أو "دانتي"  فلن يجد كتابا يجيب على اسئلته إلا  أنه سيسأل مصرفيا من فينسيا أو تاجراً من لومبارديا كما أسألك الآن، لأن كل ما أعرفه في ضوء غنى وبساطة هذا الشعر، هو أن عصر نهضة جديد يولد في بلدك، ولن اعرفه أبداً إلا سماعاً"·

فقال الطبيب: "لدينا شعراء آخرون ولكن لا أحد يماثله، إننا نسمي هذا العصر عصر رابندراناث، ويبدو لي أنه لا يوجد  شاعر في أوروبا يمتلك شهرة تماثل شهرته بيننا، إنه عظيم في الموسيقى كما هو في الشعر وتتردد أغانيه من غرب الهند وصولا الى بورما وفي كل مكان تنطق فيه البنغالية،  لقد حقق شهرته سلفا في القرن  التاسع عشر حين كتب أول رواية له والمسرحيات التي كتبها حين نضج لا تزال تعرض في كلكتا· إنني معجب جدا بحياته المكتملة فقد كتب في صباه عن الطبيعة وكان يجلس طيلة اليوم في حديقته، وكتب بين سن الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين ربما أجمل أشعار الحب في لغتنا"·

ثم قال بصوت ينم عن عاطفة عميقة: "لا يمكن أن تعبر الكلمات أبداً عما أدين  به وأنا في السابعة  عشرة من عمري لأشعار الحب التي كتبها· بعد ذلك أصبح فنه أكثر عمقا وأصبح دينيا وفلسفيا· إن في أناشيده كل طموحات الإنسانية، وهو الأول بين قديسينا الذي لم يرفض أن يعيش بل جاء حديثه نتاج الحياة ذاتها وهذا هو السبب الذي جعلنا نحبه"·

وأضاف الطبيب الذي ربما غيرت ذاكرتي كلماته المختارة بعناية وليس أفكاره: "قبل زمن قليل جاء ليقرأ تراتيل دينيه في أحدى كنائسنا "أننا البراهمة الساماجين نستخدم كلمة كنيسة الإنجليزية ذاتها" وهي الأكبر في كلكتا فلم تزدحم الكنيسة ووقف الناس عند النوافذ فقط بل ضاقت الشوارع بالناس"·

 

جمال مرئي

 

جاء بعض الهنود لرؤيتي وبدا توقيرهم لهذا الإنسان الشاعر غريباً في عالمنا حيث نخفي الأشياء العظيمة والضئيلة تحت الحجاب نفسه من لهو فاقع وانتقاص نصف جدي· حين كنا نبي الكاتدرائيات هل كنا نوقر رجالنا العظماء بالقدر نفسه؟

قال لي أحدهم: "في الثالثة من صباح كل يوم، وأعرف هذا لأنني رأيت المشهد، يجلس غارقاً في التأمل ولا يصحو طيلة ساعتين من تأملاته في الطبيعة التي خلقها الله، وكان أبوه رجل الدين الكبير يجلس هناك طيلة اليوم التالي، وذات يوم غرق في تأمل نهر بسبب جمال المشهد وانتظر حملة مجاديف الزورق ثماني ساعات قبل أن يواصلوا رحلتهم" ثم حدثني عن عائلة السيد تاجور وكيف نشأت في أحضانها أجيال من الرجال الكبار وقال: "واليوم هناك فنانان من هذه العائلة هما جوجونيندراناث و"أبانيندراناث" وأخ له هو "جويندراناث" وهو فيلسوف كبير تهبط السناجب من بين الأغصان وتتسلق ركبتيه وتحط الطيور على راحة يده"·

لقد لاحظت في أفكار هؤلاء الناس إحساسا بجمال ومعنى مرئي كما لو انهم يؤمنون بمبدأ "نيتشة" بأن علينا ألا نؤمن بالجمال الفكري أو الأخلاقي الذي لا يطبع نفسه عاجلاً أم آجلا على الأشياء المادية·

قلت: "أنتم في الشرق تعرفون كيف تعلون من شأن العائلة، أمين متحف في أحد الأيام لفت نظري الى رجل أسمر ضئيل الحجم كان ينظم لوحات صينية مطبوعة وقال، هذا هو الشخص الرابع عشر من عائلته الذي يحتل هذا المنصب"، فأجاب: "حين كان رابندراناث صبيا كان كل ما حوله في البيت محتشداً بالأعمال الأدبية والموسيقى" وفكرت بثراء وبساطة القصائد وقلت "هل يوجد في بلدكم الكثير من الكتابات الدعائية والنقد"·

علينا أن نبذل جهداً كبيراً وبخاصة في بلدي الى درجة أن عقولنا تتوقف عن الإبداع تدريجيا، ومع ذلك لا نستطيع إيقاف هذا ولو لم تكن حياتنا، حروباً متواصلة لما امتلكنا ذوقا ولا عرفنا ما هو جيد ولا وجدنا مستمعين وقراء· إن أربعة أخماس طاقتنا تنفق في الشجار مع الذوق الرديء سواء كان في عقولنا أو في عقول الآخرين"·

قال "أنا افهم هذا، فنحن أيضا لدينا كتاباتنا الدعائية ففي القرى يرتلون قصائد اسطورية طويلة مستعارة من السنسكريتية من القرون الوسطى وغالباً ما يزجون فيها فقرات تقول للناس أنه يجب عليهم القيام بواجباتهم"·

 

كما في حلم

 

لقد حملت معي مخطوطة هذه الترجمات عدة أيام، أقرأها في القطار أو في الحافلات والمطاعم، وكان علي في أغلب الأحيان أن أطوي الصفحات حتى لا يشاهد أحد القراء كم كانت تثير انفعالاتي· هذه القصائد الغنائية التي هي في الأصل، كما أخبرني زواري الهنود، ممتلئة بالإيقاعات الرقيقة، وتلوينات مرهفة لا يمكن ترجمتها، وابتكارات وزنية، تعرض أفكارها عالما حلمت به طيلة حياتي· إنها عمل من أعمال ثقافة رفيعة، ومع ذلك تبدو نتاج تربة مشتركة تشبه شبها كبيرا العشب والأسل، إنها تراث بلد الشعر والدين فيه شيء واحد، انتقل عبر القرون، وجمع عواطف واستعارات المتعلمين وغير المتعلمين، وأعاد مرة أخرى إلى الجماهير الواسعة فكر الباحث والنبيل· لو أن حضارة البنغال تظل كما هي غير متقطعة، ولو أن ذلك العقل المشترك امتد إلى الكل ولم يتوزع على عشرات العقول كما يحدث عندنا التي لا يعرف أحدها عن الآخر شيئا، فإن شيئا ما حتى الاكثر شفافية في هذه الأشعار، خلال بضعة أجيال، سيصل الى الشحاذين في الشوارع·

حين لم يكن في إنجلترا إلا عقل واحد، كتب "تشوسر" مغناته "تروليوس وكريسيدا"، ورغم أنها كتبت لتقرأ أو تتلى، لأن زمننا كان يتقدم بسرعة، فقد غناها المتنفذون لفترة بسيطة·

رابندراناث تاجور وضع، مثل أسلاف "تشوسر"، موسيقى كلماته، ويفهم المرء في كل لحظة أنه كان ثرياً وعفويا وجريئا في شعوره، ومفاجئا، لأنه كان يقوم بشيء لم يبد غريبا أبدا أو غير طبيعي أو بحاجة إلى من يدافع عنه· هذه القصائد لن تستقر في كتب صغيرة جيدة الطباعة على طاولات سيدات يقلبن صفحاتها بأيد كسولة، وربما يتنهدن آسفات على حياة بلا معنى، ذلك الذي مع ذلك هو كل ما يمكن أن يعرفن عن الحياة، أو يحملها طلبة في الجامعة لتلقى جانبا حين تبدأ مشاغل الحياة، ولكن بمرور الأجيال سيترنم بها مسافرون على الطرق، ورجال يجذفون في الأنهار· وسيجد المحبون، وأحدهم ينتظر الآخر، وهم يتمتمون بها في هذا الحب إلالهي خليجا سحريا ربما تستحم وتجدد فيه شبابها أكثر مشاعرهم مرارة· في كل لحظة ينطلق قلب هذا الشاعر إلى هذه المشاعر من دون انتقاص أو كياسة، لأنهم سيفهمون أنها ملأت نفسها بظروف حياتهم· إن صور المسافر بملابسه المتواضعة، والفتاة الباحثة في فراشها عن بتلات الأزهار الساقطة من إكليل حبيبها الملكي، والخادم أو العروس المنتظرة قدوم سيد البيت الخالي، هي صور القلب الذي يتضرع إلى الله· الأزهار والأنهار والقواقع ومطر الصيف الهندي الغزير، أو الحرارة المحرقة، هي صور أمزجة ذلك القلب في اتحاده وانفصاله، إن رجلا يجلس في زورق يعزف على نايه مثل شخوص تلك الرسوم الصينية الغامضة، لهو إنسان مقدس· الناس كلهم، الحضارة كلها، تبدو، هي الغريبة بالنسبة لنا، وكأنها موجودة في هذه المخيلة· ومع ذلك ليس ما يؤثر فينا غرابتها، بل لأننا نلتقي فيها بصورتنا، كما لو أننا سرنا في غابة صفصاف الشاعر "روسيتي"، أو سمعنا، ربما لأول مرة في الأدب، صوتنا كما لو في حلم·

منذ عصر النهضة، توقفت كتابات القديسين الأوروبيين، مهما كان من شأن ألفتنا لاستعاراتها وبنية أفكارها العامة، عن الاستيلاء على انتباهنا· نحن نعرف أن علينا أن نتخلى أخيرا عن العالم، ونحن معتادون في لحظات الإرهاق والنشاط على تدبر أمر تخل طوعي، ولكن كيف نستطيع، نحن الذين قرأنا الكثير من الشعر، وشاهدنا الكثير من اللوحات، واستمعنا إلى الكثير من الموسيقى، حيث يبدو نداء الجسد والروح واحدا،أن نتخلى عنها بقسوة وفظاظة؟

ما الذي يجمع بيننا وبين القديس برنارد الذي يغطي عينيه حتى لا تقع على جمال بحيرات سويسرا، أو البلاغة العنيفة لكتاب رؤيا يوحنا؟

في هذا الكتاب سنجد إن استطعنا كلمات ممتلئة باللطف: حان موعد مغادرتي، ودّعوني يا إخوتي! إنني أنحني أمامكم جميعا وأغادر ها أنا أعيد مفاتيح بابي، وأتخلى عن كل مطالبي ببيتي·

إنني لا أطلب إلا آخر كلمات لطيفة منكم· لقد كنا جيرانا لزمن طويل، ولكنني تسلمت أكثر مما أعطيت· والآن بزغ الفجر، وانطفأ المصباح الذي أضاء زاويتي المظلمة· ها هي الدعوة قد وصلت، وأنا مستعد لرحلتي"·

ونجد أيضا مزاجنا ذاته الذي عبر عنه بعض متصوفة الغرب هو الذي يصرخ هنا: "ولأنني أحب هذه الحياة، أعرف أنني سأحب الموت أيضا"·

رغم هذا، ليس أفكارنا وحدها عن الافتراق ما يسبر هذا الكتاب، فليس من المعروف عنا أننا لا نحب ما هو سماوي، وإننا بالكاد نؤمن به، ومع ذلك فحين نرجع إلى حياتنا وننظر فيها نكتشف في مسيرنا على طرق الغابات، وفي متعتنا بأماكن التلال المتوحدة، وفي وعودنا الغامضة التي أطلقناها المشاعر بلا جدوى التي خلقت هذه العذوبة المغرية: "حين دخلت قلبي بلا دعوة، حتى مثل أي واحد من العامة، لا أعرفك، يا مليكي، طبعت علامة الخلود على اللحظات الهاربة"·

هذه السطور لم تعد قداس الصومعة والسوط، إنها ترتفع بنا كما يقال إلى كثافة أعظم لمزاج رسام يرسم الغبار وضوء الشمس، ونسمع خلالها صوتاً شبيهاً بصوت القديس فرانسيس أو صوت وليم بليك، الصوت الذي يبدو مغتربا في تاريخنا العنيف·

 

أطفال أم قديسون؟

 

اننا نكتب كتبا ذات حجم كبير ليست لصفحة فيها ربما أية خاصية تجعل الكتابة ممتعة، لأننا مؤمنون ببعض من تصميم عام، تماما مثلما نحارب ونحصل على المال ونملأ رؤوسنا بالسياسة (وكلها أعمال غبية) بينما السيد تاجور مثل الحضارة الهندية ذاتها، قانع باكتشاف الروح ومسلم نفسه لعفويتها· أنه يبدو في غالب الأحيان كأنه يحدث تباينا بين حياته وحياة اولئك الذين يعيشون وفق طراز حياتنا ويمتلك ثقلا ظاهرياً في العالم متواضع دائما كما لو أنه واثق فقط من أن طريقه هي الأفضل بالنسبة له·

"الناس وهم عائدون الى بيوتهم يختلسون النظر الى ويبتسمون ويملأونني بالخجل، اجلس مثل شحاذة وقد غطيت وجهي بردائي، وحين يسألونني ماذا أريد، اخفض عيني ولا أجيب"·

في قصيدة آخرى يقول متذكراً كيف كان لحياته شكل مختلف: "قضيت ساعات عديدة في صراعي مع الخير والشر، ولكن الآن، متعة رفيق لعبي في الأيام الخالية، هي التي تجعل قلبي يهفو اليه، ولا أعرف لماذا في هذا النداء المفاجئ لما هو منطقياً لا جدوى منه·

إنها براءة وبساطة لا يجدها المرء في أي مكان آخر في الأدب تجعل الطيور وأوراق الشجر تبدو قريبة اليه مثل قربها من الأطفال، وتظهر تغيرات أحداث الفصول الكبرى كما لو أمام أفكارنا بينهم وبيننا·

أحيانا اتساءل هل استمد هذا من الأدب البنغالي أو من الدين، وأحيانا أتذكر الطيور التي تحط علي راحة يدي أخيه، فأجد متعة في التفكير انه أمر متوارث، سر كان يتنامى عبر القرون·

وبالفعل فإنه حين يتحدث عن الأطفال وهو ما يبدو خاصية في نفسيته، لا يمتلك المرء يقينا في أنه يتحدث أيضا عن القديسين، "أنهم يبنون بيوتهم برمال الشاطئ ويلهون بالقواقع الفارغة وينسجون من الأوراق الذابلة زوارقهم ويدفعونها مبتسمين الى العمق الشاسع· للأطفال لهوهم على شاطئ العوالم، لا يعرفون كيف يسبحون، لا يعرفون كيف يلقون شباك الصيد· ويغوص صيادو اللؤلؤ بحثا عن اللؤلؤ ويبحر التجار في سفنهم، بينما يجمع الأطفال الحصى وينثرونها مرة ثانية· أنهم لا يبحثون عن كنوز خفية، ولا يعرفون كيف يلقون شباك الصيد"·

طباعة  

على آثار باولو كويلو وترجمته الى العربية
الحضارات تبنى بالكلمات