رمزي بارود:
تصل الولايات المتحدة الأمريكية الآن وهي تسعى الى النظام الإقليمي الذي تريده الى مستويات دنيا في موقفها المضلل والماكر تجاه الفلسطينيين، فقد قامت وزيرة خارجيتها كونداليسا رايس بدءا من 3 أكتوبر برحلات بين مختلف العواصم العربية، وتشاورت مع القادة العرب، ثم قامت برحلات مكوكية بين المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين قبل أن تنضم أخيرا الى عدد من نظرائها في لندن في السادس من أكتوبر في مؤتمر لدول ست استهدف نشر لهب العداء ضد إيران·
ويبدو أن رايس مصممة تصميما جارفا على كبح إيران، وتأمين إخفاق حكومة حماس، وعلى إعادة هيكلة مشهد لبنان السياسي بطريقة تحرم حزب الله من فرصة استثمار منجزاته العسكرية الكبيرة، ويمكن للمرء أن يهمل جهود رايس بوصفها جهودا غير مجدية، واندحارا ذاتيا بالفعل، والمنطق وراء هذا بسيط : فهي تمثل كل ما هو ماكر في ما يتعلق بنظام بوش، أحد أكثر الإدارات الأمريكية إثارة للاشمئزاز في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر، هذا إن لم يكن في العالم·
وزياراتها للمنطقة، رغم نفخ الأبواق الرسمية لها الذي ينتظرها عادة في العواصم العربية متزاوجا مع ابتساماتها العريضة الكريهة والتي ليست في محلها، رافقتها في غالب الأحيان سياسة حكومتها الخارجية الكارثية ومؤامراتها السياسية وجهودها المعادية للديمقراطية·
ومع ذلك، فإن رايس تمتلك قدرا من الذكاء يجعلها تتوصل الى مثل هذه الاستنتاجات، وكل ما عليها أن تفعله هو رؤية صورها الكاريكاتورية في الصحف اليومية، فقد حول سلوكها المتغطرس وتنبؤاتها الطامحة التي لا تراعي حقا لأحد الأكاديمية السابقة الى شيطان المنطقة، ذلك الذي يرتبط، ظهوره ارتباطا قويا بانعدام الاستقرار السياسي والاختلال·
الحقيقة هي أن رايس ليس بمقدورها أن تمنح الرأي العام العربي أدنى اهتمام، ولا أي رأي عام آخر، فتعريفها للتحول الديمقراطي لا يتطابق على الإطلاق مع رغبة الناس الجماعية· إنها ببساطة تقف موقفا متعارضا مع طموحات الناس الى حرية أكبر والى تغيير أعظم، ولا شك أنها تعرف هذا·
فتصريحها الذي جاء إثر حرب إسرائيل التدميرية على لبنان في يوليو (تموز) 2006 "بأنه حان وقت الوصول الى "شرق أوسط جديد"، ودعمها الكامل للمغامرة العسكرية الإسرائيلية، منحها مكانة "عدوة البشر" تلك التي تجاوزت الى حد بعيد مكانة وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت التي اكتسبت هذه المكانة سابقا·
ولم تجعل منها جهودها المتوالية لمعاقبة إيران وفرض عقوبات عليها (مع ترك كل الخيارات الأخرى مفتوحة) تحت ذريعة سعيهاالمزعوم لامتلاك قدرات نووية لتصنيع أسلحة دمار شامل، وفي الوقت نفسه التعامي عن قدرات إسرائيل التدميرية الشاملة بصنوف أسلحتها النووية والجرثومية، سوى حاملة سياسة خارجية أخرى منافقة ذات وجهين·
بل حتى وعدها الذي أطلقته خلال مؤتمرها الصحافي المشترك (4 أكتوبر) مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بأن الولايات المتحدة الأمريكية "ستضاعف" جهودها لمساعدة الفلسطينيين الجائعين، سرعان ما رفضته بازدراء وسائط الإعلام الفلسطينية، وتجمع كبير احتشد في غزة بعد يومين من زيارتها للضفة الغربية·
الفلسطينيون يفهمون جيدا أن غرض زيارتها كان دعم عصبة الرئيس عباس، فتح، ضد حماس التي هي الآن الحزب الحاكم، ففي غضون ثلاثة أيام سبقت زيارتها، قتل 10 فلسطينيين في صدامات بين الطرفين، وتواصل فتح نشر الفوضى معطلة العمل الحكومي، وتعبيد الطريق لقرار رئاسي لحل الحكومة، في الوقت الذي تحارب فيه حماس للحفاظ على ما يعتبر عن حق إنجازها السياسي الذي أنتجه خيار الشعب الفلسطيني الديمقراطي خلال انتخابات يناير·
المفارقة الأعظم في زيارة رايس هو أنها دعمت القوى المعادية للديمقراطية في المنطقة، لقد بدا أن دمقرطة الشرق الأوسط، على الأقل طيلة بضعة أشهر، هي التذكرة الرابحة التي حصلت عليها حكومة بوش من العراق، وكان التظاهر الوحيد الممكن بأنه سيشفي حكومة بوش من إخفاقها في اكتشاف أسلحة الدمار الشامل العراقية، التي لا وجود لها، إلا أن هذا الوهم سرعان ما تبدّد حين جاءت حماس الى السلطة على متن موجة الديمقراطية ذاتها التي أثارها الأمريكيون، وفتحت الأفق أمام طموح جماعات المعارضة العربية سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية، للضغط على أنظمة عربية جامدة ونخبها ورعاتهاالمتخندقين في سدة الحكم·
رايس الآن عائدة، تدفع باتجاه إجهاض العملية الديمقراطية ذاتها التي زعم رئيسها أنه بطلها، ونتذكر في هذا السياق كلامه عن "رؤيته" لشرق أوسط في 24 حزيران "يونيو" 2002، حين اعتبر أن الانتخابات العادلة والحرة في المناطق الفلسطينية مفتاح نجاح ما أطلق عليها لاحقا مبادرة خريطة الطريق للسلام·
مشاكل رايس أعظم بكثير من مشاكل صورتها الشخصية وفرص أن تكون مقبولة، فقد استبعد الفشل العسكري الإسرائيلي في لبنان، على الأقل في المدى القصير، رغبة دعاة الحرب في حكومتها، واللوبي الموالي لإسرائيل في واشنطن، والحكومة الإسرائيلية، في تحدي إيران عسكريا، إذ صلبت هذه الانتكاسة في لبنان موقف سورية وإيران على حد سواء، في تحدي حكومة بوش بصراحة أكثر من ذي قبل·
حتى الآن، يتركز لب معركة الشرق الأوسط الأمريكية على فلسطين، فإذا فازت الديمقراطية الفلسطينية، وصمدت أمام الضغوط الإسرائيلية - الأمريكية - الفتحوية المكثفة، فستعاني سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية من خسارة هي الأكبر بين خسائرها حتى الآن، والتي ستحدث نتائجها اهتزازات في مختلف أنحاء المنطقة، ولهذا السبب، من وجهة النظر الأمريكية، يجب أن تسقط التجربة الفلسطينية الديمقراطية، حتى لو كان ثمن دعم الرئيس عباس وأتباعه الذين يستعدون للمعركة باهظا سياسيا، وهؤلاء يستميتون على النحو نفسه حتى لا يخسروا هذه المعركة الحاسمة ضد حماس·
لم تكن زيارة رايس للمنطقة تستهدف، لا "إعادة إحياء" عملية السلام، ولا دعم صوت "الاعتدال" في المنطقة، لقد كانت معنية بضمان ثبات حلفائها، وتوسيع وضمان العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني إلى أن يندم ويطيح بحكومته المنتخبة ديمقراطيا، وهو سيناريو تمت تجربته بنجاح في "نيكارغوا" في السبعينات رغم أن ثمنه كان باهظا·
ولسوء الحظ فإن الرئيس الفلسطيني وبطانته، ومعه مختلف الحكومات العربية والدول الأوروبية، منسجم مع أهداف رايس الشريرة، وهذا هو الذي أشاع على وجهها تلك الابتسامة العريضة الكاذبة·
*عن موقع: www.globalresearch.ca
(13 أكتوبر 2006)