
سيد يوسف:
نتفهم أن يكون بعض الحكام مستبدين وظالمين، أما أن تكون مواد القانون أو بالأحرى الدستور هي التي تصنع مستبدين وظالمين فهذا ما يدعو للريبة والدهشة، ويخفف من هذه الريبة والدهشة أن يقاوم ذلك الأحرار في كل الأوطان·
وحين ينادي بعض الغيورين الى تغيير ما في بعض مواد الدستور أو تعديل ما في بعض مواد القانون فإنه من المفترض بالداعين امتلاك بعض الحجج التي تؤيد موقفهم·
والحق أن هناك أصواتا متعددة تدعو لتعديل الدستور بل بلغ الأمر أن وضعت اللجنة الشعبية للإصلاح (1991) بالفعل مشروع دستور، طبع تحت عنوان "الدستور الذي نريد· ويؤكد بعض القانونيين على أن المشكلة لا تقع في النصوص وإنما تظل رهن الواقع الذي أنتج هذه النصوص والذي تتحرك النصوص من خلاله، حيث تخلفت نصوص الدستور كثيرا عن حركة الواقع·
ويرى الأستاذ أحمد عبدالحفيظ أن الدعوة الى دستور جديد لا تقتصر فقط على الاستجابة لما تتطلبه الحالة الواقعية من دعم وتأكيد بل تلمح الى ملامح خطر داهم يهدد هذه الحالة بالانتكاس ويهدد ما وصل اليه الحال المصري بالتراجع·
والحق أنه كلما زادت سلطات رئيس الجمهورية على حساب سلطات السلطة القضائىة وغيرها كلما تهددت الحريات في البلاد، ولقد أعطيت لرئيس الجمهورية في الدستور المصري صلاحيات واسعة يستمدها من الشعب ولا يكون للمجلس النيابي حق محاسبته ولا إقالته من منصبه بشكل محدد واستثنائي، كما أنه يتولى السلطة التنفيذية بنفسه، والوزراء هم مجرد معاونين له وينفرد بحق عزلهم، وأعطاه سلطات واسعة طبقا للمادة 74، في حين قيد من سلطات البرلمان في تقرير مسؤولية الوزراء وسحب الثقة منهم بقيود كثيرة·
وحين نعمل النظر في بعض مواد الدستور على سبيل المثال لا الحصر ونطابق ذلك بما عليه واقع الحال المصري فإن السخرية بله التعجب سوف تطل برأسها ها هنا:
المادة 73 تنص على أن "رئيس الدولة هو رئيس الجمهورية ويسهر على تأكيد سيادة الشعب وعلى احترام الدستور وسيادة القانون وحماية الوحدة الوطنية والمكاسب الاشتراكية، ويرعى الحدود بين السلطات لضمان تأدية دورها في العمل الوطني"·
حيث نجد ما يلي:
المادة تجعل الرئيس هو المرجعية العامة لسائر سلطات الدولة، لا سيما فيما يطرأ من خلاف بين السلطات المختلفة للدولة·· وهو الأمر الذي بات مفتقدا وظيفيا وواقعيا·
وبات واضحا أن مصر بفعل سياسات الخصخصة وغيرها بعيدة تماما عن المحافظة على المكاسب الاشتراكية·· وهو الأمر الذي بات مفتقدا وظيفيا أيضا وواقعيا·
المادة 74 تنص على "لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن دورها الدستوري أن يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر، ويوجه بيانا الى الشعب، ويجرى الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها"·
وهنا نجد ما يلي:
هذه المادة تمكن رئيس الجمهورية من الانفراد بالسلطة تماما إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن، في حين أن الواقع الذي يعيشه المصريون يعزو انهيار البلاد سياسيا واقتصاديا وأمنيا الى النظام الحاكم وهو ما يعد ازدراء وإهمالا للدستور ووعد المحافظة عليه وفقا لقسم رئيس الجمهورية··· كما هو في المادة 79 من الدستور والتي تنص على:
"يؤدي الرئيس أمام مجلس الشعب قبل أن يباشر مهام منصبه اليمين الآتية:
"أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصا على النظام الجمهوري، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وأن أحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه"·
وهذه المادة - أقصد - 74 مطلقة تماما بلا قيود وبلا شروط لكل خطر حتى لو رآه النظام بسيطا، في حين رآه الشعب جسيما أو العكس، فمثلا يرى الغيورون أن مثلث أم الراشراش المصرية مسألة تخص الأمن القومي وهي أرض مصرية منسية يمثل وجودها خطرا في تغيير هويتها من قبل الكيان الصهيوني في حين لا يرى النظام الحاكم ذلك، وفي المقابل لا يرى المصريون أن هناك حاجة لتجديد قانون الطوارىء لكن النظام الحاكم لا يرى ذلك!!
هذا فضلا عن مواد أخرى تكرس صناعة حاكم يتولى السلطة التنفيذية مادة (137) ويضع بالاشتراك مع مجلس الوزراء السياسية العامة ويشاركه الإشراف على تنفيذها مادة (138) ويجوز له تعيين نائب أو أكثر ويحدد اختصاصاتهم ويقوم بعزلهم مادة (139) ويعين رؤساء الوزارات ونوابهم ويعفيهم من مناصبهم مادة (141) ويعين الموظفين المدنيين والعسكريين والممثلين السياسيين ويعزلهم مادة (143) وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة مادة (150) ورئيس مجلس الدفاع الوطني مادة (182) والرئيس الأعلى للشرطة مادة (184) وتتبعه المجالس القومية المتخصصة مادة (164)، وله حق اقتراع القوانين مادة (109) وحقق إصدارها أو الاعتراض عليها مادة (112) وأن يعلن حالة الطوارىء مادة (148)، وغير ذلك، وبناء عليه فإن الحاجة ماسة لتقليص سلطات رئيس الجمهورية دستوريا بأن تتوزع تلك السلطات على أهلها دون أن تتركز في يد فرد مهما كان هذا الفرد صالحا، فإن كان صالحا اليوم فلا نظلم الأجيال القادمة إن جاءها ظالم·
لقد ظهرت محاولات جادة لصنع دستور للبلاد نذكر منها على سبيل المثال:
وثيقة أحزاب المعارضة حول الإصلاح الدستوري تقديم د/محمد حلمي مراد·
محاولة الدكتور إبراهيم شحاتة (نشرت بعضها مكتبة الأسرة في كتاب معنون بـ (وصيتي لبلادي)·
محاولة الدكتور محمد عصفور·
محاولة الدكتور على جريشة·
ترى هل يأذن واقعنا بإعادة التأمل في شؤوننا حتى ننعم بحياة نيابية / واجتماعية سليمة تسود فيها الحريات أم أن تشرذم الفاقهين، وتناطح الإيديولوجيين، واستثمار الطغاة لهذا الواقع سوف يسهم في زيادة محنتنا؟!
عن موقع مفكرين: www.mafakren.com