رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الاربعاء 18 ا كتوبر 2006
العدد 1747

الذات الصهيونية أمام لغزها الوجودي
لم تحدث النكبة الفلسطينية·· ومع ذلك كان لابد من حدوثها!!

                                 

 

إيتان برونشتاين:

قام في مارس من العام 2004 تجمع بالقرب من سينما سيتي في مستعمرة هرتزليا، إحياء لذكرى القرية الفلسطينية "اجلل" التي كانت قائمة في هذا الموقع حتى العام  1948، أي حين غادرها سكانها حين وصلتهم أخبار المذابح التي ارتكبتها القوات الصهيونية ضد الفلسطينيين في المنطقة، ونشر بالمناسبة تقرير مفصل عن القرية ولاجئىها الذين اقتلعوا وعن مصيرهم في الصحيفة المحلية "شارون تايمز" وبعد أسبوع نشرت الصحيفة ذاتها رسالة حانقة من قارىء وجهها الى رئيس تحريرها، جاء فيها أن الصحيفة "قدمت خشبة مسرح لبعض العرب الذين يدعون أنهم عاشوا ذات يوم في موقع سينما سيتي الناشىء حديثا"· وفوجىء أحد المدرسين العاملين في "ناتانيا" حين سمع من طلبة مدرسة ثانوية "أن البريطانيين كانوا في البلد قبل أن يكون اليهود"·

هاتان الواقعتان، الرسالة والمفاجأة، هما واقعتان عرضيتان معبرتان عن إنكار حدوث النكبة الفلسطينية من قبل يهود إسرائيل، ومع أن من الممكن بالتأكيد العثور على أمثلة أكثر قوة، إلا أن الحاجة تبدو نافلة للبرهنة على أن الجمهور اليهودي في إسرائيل ينكر حدوث النكبة، فإنكار النكبة قائم في دروس التاريخ والجغرافيا التي تعلم في المدارس، وقائم في خرائط البلد والعلامات الدالة على الأماكن والطرق· وكل هذه تتجاهل تماما الى حد بعيد الحدث الذي جعل قيام الدولة اليهودية كدولة ممكنا، دولة ذات أغلبية يهودية وأقلية فلسطينية، بعد إجلاء غالبية سكان البلد الأصليين وتدمير ممتلكاتهم ومصادرة أراضيهم لصالح الدولة الجديدة·

كيف نفهم هذا الإنكار؟

هل يمكن تفسير هذا الإنكار بالتعابير النفسية بوصفه إنكارا لحدث لا يمكن قبوله بارتياح؟ وهل يمكننا القول أيضا إن الاعتراف بالمصيبة التي حلت بالفلسطينيين "ستزيح" اليهود في إسرائيل عن مكانتهم بوصفهم الضحية الوحيدة، تلك التي تبرر كل فعل شرير تقريبا؟ أم أن الإنكار هو نتيجة جهل مطبق؟

قد تكون هناك تفسيرات متنوعة صحيحة لهذه الظاهرة، ولكن هذا المقال سيحاول إلقاء الضوء على جانب واحد من جوانب هذه الظاهرة، وهو الخطاب المتداول في إسرائيل (قبل وبعد إنشائها) حول النكبة وسيظهر في هذا الضوء أن النكبة تمثل بالنسبة للصهاينة حدثا لا يمكن أن يكون قد حدث، وفي الوقت نفسه هو حدث كان لابد أن يحدث·

لقد تجاهل الصهاينة منذ وقت مبكر وجود سكان فلسطين العرب، ولهذا ليس من الممكن أن يكون قد تم "تطهير عرقي" ضد ما يقارب 800 ألف إنسان، وأنه تم تدمير أكثر من 500 قرية فلسطينية· ومن جانب آخر فإن طرد الغالبية الفلسطينية قسرا من بلدها كان أمرا حتميا بالنسبة للصهيونية التي استهدفت إنشاء دولة يهودية، أي وطنا قوميا للشعب اليهودي في العالم على أرض تحكمها أغلبية يهودية على أساس قانوني·

النكبة واقعة لم تحدث؟

بنيت الهوية الصهيونية منذ البداية على نفي ذي شعبتين: فهي تنفي زمان ومكان اليهود خارج "صهيون" (نفي المنفى)، ذلك النفي الذي يمتد الى ما بعد مجال الديانة، وتنفي زمن ومكان أولئك السكان الأصليين في أرض "صهيون"، وأفضل وصف لهذا النفي الأخير ورد عند "إسرائيل زنجفيل": "شعب بلا أرض يعود الى أرض بلا شعب" ووقع نهج قادة الصهيونية وبناتها تجاه السكان الأصليين بين تصورهم كحراس مؤتمنين أو حائزين على الأرض من جهة، وبين لا وجودهم المطلق بوصفهم عنصرا لا علاقة له بالأرض من حيث الأساس· وفي هذا الجانب تماثل الصهيونية المشروعات الاستعمارية الأخرى·

يكتب إدوارد سعيد في "الاستشراق": "لا يوجد بالنسبة للمستشرق أثر دال على أفراد عرب ذوي تواريخ شخصية يمكن سردها·· العرب لا عمقا وجوديا لهم ولا حتى في علم الدلالات· الشرقي هو شرقي أولا ومن ثم هو إنسان ثانيا"·

والأهالي العرب سكان البلد الأصليون، بالنسبة للصهيونية كحركة استشراقية نمطية، موجودون ويعيشون فيه ولكن لا دلالة لوجودهم، بمعنى أحقيتهم بعلاقة بالأرض تماثل علاقتها بالبشر "الأوروبيين": وهم بالتأكيد لا يكونون شعبا أو جماعة قادرة أو معنية بتجسيد نفسها كشعب أو جماعة، أو تماثل الجماعة اليهودية القومية"!

فإذا كان الفلسطينيون غير موجودين "واقعيا" مقابل "واقع" الوجود الصهيوني، لا يمكن عندها أن يكون قد حدث طرد لهم، إذاً لا يمكن طرد ما ليس موجودا! أما أحداث العام 1948 العنيفة فهي بالنسبة للصهيونية قد حدثت في الواقع، ولكن فقط كأحداث ناجمة عن رد فعل لا يمكن تجنبه على الاضطراب الذي سببه "الأهالي المحليون" الذين لم يقبلوا قيام الكينونة الجديدة، أي الدولة اليهودية· ومن هنا، فإن ما هو مهم فهمه وتعليمه وقوله حول هذه الفترة، هو قصة "تحرير" و"استقلال" الشعب اليهودي في وطنه· ووفقا لهذا النهج، لم تكن هناك بالتأكيد نكبة أو مأساة لطرف آخر، لأن الآخر لم يكن له وجود على الأقل أبدا، ولم يتم إخلاء مئات القرى في المناطق الساحلية، في الجنوب والوسط، بل نشأ "اتصال أراض" وفقا لخطة "الهاجاناه" المسماة "داليت"، وبهذا فإن المكان "يهودي" بالطبيعة، ويجب أن يتجسد وتنقل السيطرة عليه الى الصهيونية·

اتصال المناطق اليهودية والانسجام الديموغرافي اليهودي في فلسطين يمثلان لب المشروع الصهيوني، لهذا لا تستطيع الذات الصهيونية أن تفهم أو ترى الكارثة الملازمة لهذا المشروع، وبخاصة أن ما يتضمنه ويعنيه هو التجسيد التاريخي لفكرة  مستمدة من التوراة وقومية معاصرة تحولت الى ديانة من عدة جوانب، والذات الصهيونية لا تستطيع أن ترى النكبة أو تناقش ظروفها بجدية·

وعليها أن تجردها من جوهرها كي تبدأ برؤيتها كارثة شكلت المكان الذي جسدت فيه الصهيونية ذاتها·

منذ العام  1948 تم إقصاء النكبة من وعي الذات الصهيونية، وكان يجب أن تقصى، لأن وجودها يتحدى الأساس الذي قامت عليه، شعب بلا أرض لأرض بلا شعب· إن في الاعتراف بالنكبة الفلسطينية إشارة دالة على دمار الأرض تحت أقدام هذه الذات التي تفهم نفسها كوحدة مستقلة أو مغلقة (مونادة)· لهذا فإن أي اعتراف من هذا النوع، أو حتى محاولة النظر الى هذه المأساة كشيء حدث لآخرين هنا، مثير للحنق وغير مفهوم· من الممكن الاعتراف بأن بعض المذابح حدثت هنا وهناك، نتيجة لمعارك وقتال محلي، ومن الممكن الاعتراف بأن كل الجيوش العربية حاولت تدميرنا، لتدمير الذات التي أرادت تشكيل نفسها، ولكن من المحال النظر الى النكبة ككارثة ارتكبتها هذه الذات كي تشكل نفسها، أو كعملية ضرورية بالنسبة للذات الصهيونية·

النكبة، واقعة كان يجب أن تحدث:

من جانب آخر، وهنا المفارقة، النكبة (الطرد القسري والعنيف لأهالي البلد، وتحويل الذين ظلوا الى لاجئين في وطنهم، أو الى مواطنين ناقصين)، واقعة ضرورية، لأنها أسهمت في تجسيد الذات الصهيونية النقية عرقيا والمغلقة والمستقلة المكتفية ذاتيا، والتي بنت نفسها في إطار دولة تحقق هدف هذه الذات حصرا، من دون النكبة كان من الممكن أن تصبح الذات الصهيونية ملوثة ثقافيا بسبب الأفكار والممارسات الأجنبية، مثل نزعة الثنائية، القومية، أو حتى ملوثة ماديا بسبب العيش في مكان لا تملك عليه الذات الصهيونية سيطرة حصرية ومطلقة·

يصف المؤرخ "بني مورس" على سبيل المثال بذلاقة كيف أن فكرة الإبعاد قامت وترسخت بقوة في رؤوس وكتابات القادة الصهاينة منذ العقود الأولى للقرن العشرين، على أساس فهم عميق بأن إنشاء ووجود دولة يهودية سيتطلب "إجلاء" "السكان الأصليين لأرض إسرائيل"، ثم يمضي "مورس"، فيظهر أن قادة الصهاينة اتخذوا مباشرة قرارا صائبا في رأيه حتى خلال أحداث النكبة، بأن لا يسمحوا بعودة اللاجئين حتى لا ينتهكوا إمكانية إنشاء دولة يهودية·

قرار الحكومة الإسرائيلية هذا، بمنع عودة اللاجئىن الفلسطينيين يشير بوضوح الى أن أعضاءها كانوا واعين بقدرتهم على القيام بتطهير عرقي وتبريره أيضا بطريقة غير مباشرة، بعض القرى العربية كانت لها علاقات جوار طيبة مع اليهود حتى العام 1948، وقد تدخل بعض هؤلاء لإبقاء العرب في البلد، ولكن حتى هذا لم يساعدهم على البقاء في بيوتهم، فلم تكن الصهيونية مهتمة بهذه القرية، أو تلك اعتمادا على سلوكها ونهجها تجاه الدولة الجديدة، ويرى "مورس" أن بقاء بعض العرب في البلد رحمة بهم كان غلطة، وكان على المشروع الصهيوني إجلاء سكان البلد كي يجسد نفسه·

ويقدم "يوسف فايتز" أحد رؤساء الصندوق القومي اليهودي آنذاك، دليلا مدهشا على أمانته فهو يتحدث عن تدمير قرية "زرنوقة" بعد طرد سكانها بالقوة، رغم مطالبات عديدة من يهود بالامتناع عن طردهم، ويصف كيف وقف في القرية يراقب الجرافات تدمر البيوت التي كانت حتى وقت قريب آهلة بسكانها من دون أن يشعر بشيء· تدمير حياة الفلسطينيين لا يثير أية شكوك أو مشاعر قلقة، بل إنه فوجىء بحقيقة، أنه لم يشعر بشيء، كما لو أن التدمير كان متوقعا ومتعمدا·

النكبة مستمرة الوجود كواقعة لم تحدث وتسبب قلقا حين تظهر:

إذا كانت المناقشة التي عرضنا خطوطها العريضة أعلاه صحيحة، فيمكنها أن تفسر عمليتين متصلتين بالنكبة، إحداهما موقعها في واقع الأزمة العنيفة، والأخرى في وعي اليهود الإسرائيليين الذين أصبحوا معرضين للتعرف على النكبة·

النكبة كواقعة لم تحدث في الماضي ويتواصل إنكار حدوثها حتى اليوم، وتفهم الذات الصهيونية اغتيال القادة الفلسطينيين غير الشرعي، ومصادرة الأرض، ومنع المزارعين الفلسطينيين من العمل في أراضيهم بسبب الجدار الذي تجرى إقامته، والتنكر لأبسط حقوقهم الإنسانية، على أنها وسائل الحرب على الإرهاب، وأفعال دفاعية ضرورية لمحاربة إرهاب الشعب الفلسطيني المتعصب وغير الشرعي، الشعب الذي ينظر إليه، حسب تصريح قريب العهد لأحد القادة الإسرائيليين، ككائنات شاذة غير طبيعية لأسباب تتعلق بجيناتها! وإذا كانت النكبة، وفق هذا المنطق، لم تحدث، فمن المحال أن توجد هناك ملايين اللاجئين الفلسطينيين اليوم المطالبة باستعادة حقوقها، ومن المحال أيضا أن يطالب الفلسطينيون بالسيطرة على خمس فلسطين على الأقل، لأنهم لم يكن لديهم شيء هنا من قبل أيضا، كل ما يحدث اليوم في عيون الذات الصهيونية مقطوع الصلة تماما بسياق النكبة التاريخي، ولا تتم الإشارة الى ماضي العام 1948 إلا بما ينسجم مع الرواية الصهيونية التي تتمسك بأنهم "مثلما لم يقبلوا بنا في الماضي (مشروع الأمم المتحدة للتقسيم) يواصلون اليوم محاولة رمينا في البحر أيضا"·

ويفسر هذا أيضا اللامبالاة في إسرائيل تجاه قضية عودة اللاجئين· إذ لا يوجد هناك إجماع على قضية يماثل الإجماع ضد عودة الفلسطينيين، بل الحقيقة أنه لا توجد حاجة لمواجهة العودة، أو معارضتها، لأن مناقشة هذا الموضوع ذاتها تدرك على أنها تهديد وجودي·

ولهذا فهي مستبعدة من أجندة النقاش العام بوصفها إشارة بلا معنى، وتشترك كل الأحزاب اليهودية الصهيونية في النهج الذي يستجيب لمنطق الحجة القائلة بأن النكبة لم تحدث أبدا، ولم تنتج وضعا يظل التنكر فيه لحقوق ملايين الناس قائما حتى اليوم أبدا·

لو كانت الذات الصهيونية قد أدركت النكبة كواقعة حدثت فعلا، لأمكن أن يدرك بعض الإسرائيليين على الأقل في أوساط اليسار الصهيوني أن نوعا من المسؤولية يجب أن يتحملها الجانب الإسرائيلي عما حدث في العام 1948، ولكن إذا لم تكن هناك نكبة، فلا وجود لشيء يمكن تحمل مسؤوليته·

هناك أمر آخر يتصل بإنكار حدوث النكبة، هو ما يحدث لليهود الإسرائيليين الذين تعرضوا الى معرفتها للمرة الأولى سواء عبر الأنشطة التي نظمتها جماعة "تذكري" أو غيرها·

في هذه العملية يمر الفرد اليهودي الإسرائيلي بتجربة مواجهة النكبة الفلسطينية كلطمة مفاجئة علي الوجه، ومن دون إنذار مسبق أو استعداد (نتيجة سنوات من الإنكار)، ويواجه الفرد هنا مأساة حدثت للجيران الفلسطينيين، في الوقت الذي يشعر فيه أنه جزء من الطرف الذي تسبب بها، ويخلق هذا شعورا بالذنب والعجز لا يحتمل، ربما يكون من السهل نسبيا التعايش مع الذنب لأنه يمكن الاعتراف به ويمكن طلب الصفح· فإذا كنا مستعدين للإصغاء لصوت النكبة، ستكون المشكلة الكبيرة عندئذ تحدي كل  مانشأنا عليه، الذات الصهيونية تقف على أرضية مهتزة الى حد ما، لقد أسست نفسها بوسائل عملية عنف يتم التنكر لها كواقعة لم تحدث، وحين تظهر الروح الشبحية لهذه العملية (على يد "تذكري" مثلا) فإنها تثير الدهشة والغضب، ولكن إذا ارتفعنا فوق هذه المشاعر نحو منظور أكثر موضوعية إلى هذا الماضي المهدد، ربما نكون قادرين على إيجاد مفتاح للمصالحة بعد ستين عاما تقريبا على النكبة·

*لكاتب يرأس جماعة تدعى "تذكري" في فلسطين المحتلة، تعمل على تذكير الإسرائيليين بالنكبة الفلسطينية·

عن موقع: www.palestineremembered.com

 

 

طباعة  

الأمريكيون بالأرقام··· رقم واحد··؟
بلد هو الأعلى والأول فقط في الأسلحة والإنفاق الاستهلاكي والديون والوهم!