رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 4 اكتوبر 2006
العدد 1745

نفكر ببيت للطفولة.. ولكن ما هو البيت؟

                                       

 

·       ليس بالكتاب وحده ولا بالمسرحية ينمو الطفل

·         المجتمع العاجز عن حل مشكلات تنميته لن يكون قادرا على تربية طفل!

 

محمد الأسعد:

هل هنا ثورة موضوعها عالم الطفولة؟ ثورة من خارج عالمه تطمح الى تشكيل هذا العالم المحايد والبريء والسادر في لهوه؟ إن الأموال التي ترصد لمؤسسات تتخذ من الطفولة العربية موضوعا تكاد تكون خرافية مقارنة بما يرصد لأنشطة ثقافية أخرى· ويكفي أن نعرف أن دراسة ما عن الأطفال مثلا كلفت ما يقارب ربع مليون دولار· وأن ندوات عُقدت ومكافآت دُفعت تصل ضخامة تكاليفها حدا محيرا فعلا·

هي ثورة إذن بمعنى من المعاني· واستعداد لاقتحام عالم الطفولة، أو عالمنا نحن الذين نفكر بالطفولة، وكلا الأمرين واحد، والنتائج المتوخاة واحدة، مادام أطفال اليوم هم كبار الغد، وما دام تغيير أفكارنا عن الطفولة يستتبعه حتما تغيير عالم الطفولة والعكس صحيح·

الكبار إذن يطمحون الى تشكيل عالم الطفل، الى مدّه بمقومات وشروط حياة يعتقدون أنها مثالية، وربما حلموا بها ولم تتحقق، أو ربما اعتقدوا أنهم حققوها، وعليهم أن يحققوها لهؤلاء القادمين·

هو نوع من الاهتمام بالمستقبل إذن·· ذلك الموضوع الغامض الذي نادرا ما نفكر فيه أبعد من سنوات قليلة، والمثير أن هذا التفكير يتخذ منحى استراتيجيا يوازي في أهميته التسميات المختلفة، ويكاد يتقدمه الآن، حين تبادر عدة عواصم عربية الى تشكيل مؤسسات لا تكتفي بالعمل على صعيد قطري بل على صعيد قومي، وتبحث عن وسائل للتنسيق، وتشكيل مؤسسة عليا تتخطى الحواجز الإقليمية! فالطفل العربي هو محور الاهتمام، ومن وراء ذلك نلمح، المستقبل العربي نفسه، ومقارنة باهتمامات الماضي القريب، تبدو هذه الاهتمامات الماضية ضحلة وفقيرة وفردية الى حد بائس، ولكنها لا تخلو من نزاهة القصد، وعلو المثال، بينما تتميز الاهتمامات الراهنة بالعمق والثراء والجماعية الى حد كبير·

الكبار يعبرون عن أنفسهم، ولكن هذا التعبير تختلط فيه الدوافع التربوية والتجارية، والسياسية، وهي أمور لا يمكن إغفالها، فليس الأمر أمر الإصغاء الى تلقائية الطفولة في ضوء متطلبات محددة ومتفق عليها، بل هو أمر مقاصد وأهداف تود استثمار هذا الحقل الذي تنبهت اليه العقول قديما·· وبدأت تخطط له العقول حديثا·

إن صناعة أي شيء للطفل، وليكن كتابة أو لعبة ليس مسألة تربوية بحتة، بل هي أيضا مسألة تخالطها دوافع المتاجرة، وفي غالب الأحيان تدخل أساليب التسويق والاستهلاك الحديثة في هذا المضمار، فتعامل حاجة الأطفال الى المعرفة والنمو، كما تعامل حاجات المستهلكين والأسواق، بل، ويحدث أن تتشكل (كارتلات) للسيطرة على السوق وطرد السلع المنافسة، وينظر الى الطفولة والأطفال من وجهة نظر المنتج الباحث عن أكثر السلع رواجا·

ولعل هذا الجانب هو الأكثر دلالة على مدى ما يتعرض له أدب الأطفال من تحديات·· فليس هذا النوع من الأدب وحده بقادر على تقديم خدمة للطفل مهما كان نوعها أو مستواها· والذين يركزون على حدوث المعجزة أي ولادة أدب للأطفال صحي، يتجاهلون مبدأ أساسيا من مبادىء استهلاك السلعة، وهو مبدأ البيئة نفسها، بوصفها الوسط الذي يخلق الرغبة والحاجة قبل كل شيء·

نضرب مثلا برواج تماثيل (أبطال المصارعة)، فهذا الرواج نلاحظ أنه لم يكن بدون مقدمات أو مجاورات من برامج تلفزيونية مخصصة لعرض مباريات من هذا النوع· وكذلك الأمر لو ضربنامثلا بأبطال القصص الخرافية (أفلام الرسوم المتحركة) فهذه تنتشر في السوق، وحين يشير إليها الطفل ويرغب في اقتنائها، إنما هو ينطلق من المعرفة المسبقة التي استقاها من أفلام هذه الرسوم المتحركة·

وهذه المجاورات أو الممهدات عنصر أساسي في تهىئة المناخ (الاستهلاكي) لدى الطفل، ودفعه الى استهلاك البضاعة·

البيئة هنا تلعب دورا أساسيا في تشكيل الميول، بل وفي خلقها إن لم تكن موجودة، والبيئة هنا هي شتى المؤثرات التي تتضافر لخلق الروح الاستهلاكية، لاستهلاك كتاب·· أو لعبة أو صورة·

وقبل أيام أثار نجاح مسرحية للأطفال نجاحا ماديا أحد الأصدقاء المسرحيين فبدأ يفكر بإنتاج مسرحية للأطفال· وتحدث عن العنصر الذي سيعتمد عليه لإنجاح هذه المسرحية·· وهو الروح الاستعراضية (الرقص والغناء)، ولكنني نبهته أن هذا العنصر ليس هو الرئيسي، بل هناك جملة عناصر تتشابك معها، لتؤدي الى الحصيلة المطلوبة والتي يمكن حسابها بلغة النقد (بالطبع لم يكن تفكيره ينصرف الى نتائج أكثر أهمية)· من هذه العناصر أن سهولة الوصول الى الطفل تفترض أن تكون لديه فكرة عن المسرحية مسبقا· وهو أمر لا يميز الطفل، بل إن هذه الروح المحافظة تميز الكبار أيضا، فقصة المسرحية المعروفة أو الشائعة تشكل عنصرا ماديا، وهو أمر لاحظه شاعر إغريقي كان يغبط شعراء الدراما المؤثرين الذين كانوا يمتلكون جمهورا واسعا، وتفسيره هو أن هؤلاء يعتمدون في مسرحياتهم على قصص معروفة بين الناس· فيكفي أن يرسم شاعر الدراما نصف القوس، ليكمل الناس نصفه الآخر!

لهذا السبب تبرز أهمية المجاورات في البىئة لإحداث أثر مطلوب في رواج سلعة أو فكرة، أو قصيدة أو مسرحية، وبما أن العالم المقصود هو عالم الطفولة، فإن إحداث هذه المجاورات أو الاعتماد عليها·· يكاد يكون الوسيلة الأكثر منفعية ونجاحا·

التوجه إلى الطفل من هذه الزاوية يصطدم بموقف أمام خيارين، فهو إما أن يستغل الممهدات الشائعة ليحقق رواجا، وبالتالي تأثيرا، أو ينقلب على هذه الممهدات، فلا يكون ناجحا بالمعيار السوقي أو النفعي·

والسبب هو أنه ليس بالكتاب وحده، ولا بالمسرحية وحدها، هو أنه ليس بالفكرة وحدها، ينمو الطفل، أو الإنسان بشكل عام، إنه ينمو بشبكة من الوسائط تصنع مناخا، إنه ينمو في بيئة يتعرض فيها لمؤثرات شتى· ولا يستطيع الإنسان أن يتجاهل هذا المحيط الواسع من دون مخاطرة أن يكون لا واقعيا·

البيت الفضاء

وحين تناقش نظرية تربية الأطفال، يتطرق البعض بإلقاء المسؤولية على البيت بوصفه الحاضنة الأولى والأساسية للطفل، وقد يتطرف البعض الآخر فيلقي بالمسؤولية على المدرسة أو البيئة·· ولكن ما هو البيت؟ لا يستطيع أحد الزعم بأن البيت مجرد شخصية الأب والأم والأخوات والإخوة، فثمة ما يشكل مفهوم "البيت" أكثر من هذه العناصر، ونحن على أي حال بعيدون عن مفهوم ذلك "البيت" الذي يفكر فيه الكثيرون، أي ذلك البيت التقليدي القديم الذي يمكن تحصينه بسهولة، لأنه جزء من خلية أكبر، هو نتاجها وهي نتاجه· لقد تغير مفهوم "البيت" منذ زمن طويل، والقليلون يشعرون بهذا، فهو فضاء أوسع مما نتصور، إنه لا يضم العائلة فقط، أو الأقرباء·· بل يضم غرباء من كل نوع، ومن شتى الأعمار والتوجهات·· وقد تدخل في عضويته (مؤسسات) و (هيئات)· إنه يضم في فضائه المعارف والأصدقاء والتلفزيون والكتاب والشارع والمدرسة·· وبضعة استراتيجيات دولية! أي كل ما يمكن أن نتخيله·

وما الطبيعة التي ينظر اليها الطفل من النافذة أو مسارح الكبار التي يشاهدها في التلفزيون إلا الجزء السري من هذا البيت·

والبيت بالمفهوم المعاصر فضاء لإمكانات لا نهائىة أيضا، من مؤثرات يصطدم بها جهاز الطفل العصبي فتتدخل في تكوينه وتشكيله برغبتنا أو عدم رغبتنا· إلى ردود أفعال من الصعب التنبؤ بها أو حسابها بدقة·

ولهذا لا يكون الإنسان منطقيا حين يتحدث عنه (تربيته) لابنه·· فليس هنالك مرب واحد لهذا الكائن الصغير· هذا إذا استثنينا قدراته الخاصة و(ميكانزم) إدراكه اللذين ينبثقان فجأة، ويعدلان في الطرائق·· والنتائج·

ما الذي نستنتجه من كل هذا؟

إن محاولات التأثير في عالم الطفل بخلق أدب أو سلعة أو وسيلة ما، تكون مؤثرة وفعالة ووفق أهداف مرسومة أو تستجيب في الحد الأدنى لطموحات التربويين ليست إلا جزءا من قضية أوسع، هي قضية السيطرة على هذا الكائن الذي يتشكل من مئات الوجوه والألسنة والتصرفات، أي (المربي) الخفي الذي لا نستطيع تبين ملامحه الكلية· وكل ما نعرفه عنه أنه قد يكون فيلما أو شركة إنتاج لعب، أو ذوقا رائجا، أو مستويات ثقافية متفاوتة، وباختصار هو ذلك الكائن الذي نبسطه وندعوه بالبيئة: أعني (البيت - الفضاء) الذي يُلقى فيه الطفل مباشرة·· رغم مقاومتنا·

أهداف بلا وسائل

مثل هذا البيت - الفضاء كثيرا ما يظل غامضا ومغيبا، في أجواء الحديث عن تربية الطفل وثقافته، وتؤخد الأمور بجزئىاتها، فيمثل الجزء الكل ويختصر الكل إلى هذا الجزء وذاك·

إننا نرفض بالطبع مفهوم السوق ومبادئه من زاوية أننا نملك إدارة للتقويم والتوجيه وأهدافا ولهذا لا نكف دائما عن الإشارة الى ما هو شائع من سلبيات في التوجه الى الطفل ولكن لسوء الحظ فإن ما يصور أنه سلبيات ليس الا تفاصيل هامشية ليست هي الأساس أو الجوهر المطلوب اكتشافه ولن يستفيد مهذبنا في العمل من هذا النقد السطحي سنقول يجب بث الإحساس بالتاريخ العظيم للأمة في وجدان الطفل وسنقول ان إحدى طرق ربط الطفل ببيئته هي استغلال القصص الشعبية·· وسنقول أشياء كثيرة عما يجب أن يكون أو لا يكون ولكن هل تساءلنا عن الجدوى النهائية لمثل هذا الأفكار؟! أنها قد لا تكون مجدية في وسط لا يعيش هذه العظمة حقا وقد لا تكون مجدية في وسط قطع علاقته بيئته أصلا·

إننا هنا نمارس التمني·· أو نفكر بالهدف دون الشروط والوسائط فكأننا نريد للطفل أن ينشأ كاملا في حين أننا نفتقر الي الكمال أو الى القليل  منه·

وهكذا فإن بيئة لا تحتفل بالكلمة مثلا، ولا بالصورة·· ولا تمارس علاقة يومية بواقعها الطبيعي والإنساني لا تستطيع ان تخدع أطفالا وتجعلهم يبذلون جهدا عقليا لاحترام الكلمة والصورة·· والعلاقة بالوسط الذي ينشأون فيه، وهي إن خدعتهم في سن مبكرة·· لا تستطيع أن تستمر في هذه الخدعة طويلاً·

هي ثورة إذن ولكن من الخارج تعتريها النواقص في تقرير الوسائط والشروط أما الأهداف فهي مبذولة وتستطيع ساعة من التأمل وضع قائمة طويلة وجميلة بالأهداف· إن عالمنا المعاصر يعيش ويدفعنا للعيش في مفارقة عجيبة فنحن نعايش ونلمس أشياء ومواد وموجودات في الوقت الذي نحتفظ فيه بمفاهيم عنها لا تطابقها وفي الوقت نفسه نطلق عليه أسماء ومسميات لا تمت إليها بصلة هذا على صعيد ما نسميه بالبيت أو الطفل أما على صعيد المجردات فإننا ما زلنا سجناء فكرة أن كل شيء يمكن أن ينتقل ويؤثر بالكلمة أو أن ينشأ عن الكلمة، وكأن الكلمة هي الكل الكبير الذي يختصر المشكلة ونتجاهل أن هذا الاختراع الصوتي والمركز الكتابي مجرد وسيط بين مئات الوسائط أو هو رمز بين مئات الرموز التي تصلنا بالعالم·· وتجعل حياتنا فيه ممكنة انها ليست سيدة الموقف وليست  هي وحدها صانعة الخيال والرؤى والنظم·

كيف يؤثر الجهد التربوي إذا لم يكن في سياق متطور أوسع منه يشمل البيئة كلها؟! وهل مسألة تربية الطفل هينة وسهلة كما يتصور البعض؟ أنت لكي تربي طفلا أي تنمي إنسانا بحجم نفسه كإنسان لابد أن تكون قد حللت اشكالية وجودك نفسه  وشعرت بالتغير الكبير الذي يلم بك في تعاملك مع عالم الطفولة·

وهكذا أستنتج أن مجتمعا غير قادر على حل معضلاته الكبرى: معضلات نموه وتقدمه وتحرره سيكون أعجز من ان يربي طفلا·

طباعة  

الكويت قبل 74 عاما:
صور نادرة في أرشيف رحالة عابرة