رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 20 سبتمبر 2006
العدد 1743

قارئ الكتب التراثية
باحث عن نقطة ارتكاز.. عن حجر يعيد التوازن

                                        

 

محمد الأسعد:

شبه أحد الفلاسفة اليونان الحياة بسوق عام يأتيه البعض للمنافسة وهذا هو اللاعب، ويأتيه البعض للبيع والشراء وهذا هو التاجر، ويأتيه البعض للنظر··· وهذا هو الفيلسوف·

ولو أردنا اعتماد هذه الصورة لوصف حياتنا الراهنة لقلنا إن ذلك السوق القديم لم يعد قائماً وإن سوقا آخر أقيم يشبه سوق معرض الكتاب، يأتيه البعض للبيع وهذه هي دار النشر، ويأتيها البعض للمعرفة وهذا هو الجمهور، ويأتيه البعض للنظر وهذا هو الكاتب·

ومن بين كل هؤلاء حظيت دار النشر بالاهتمام وجاء الوقت للاهتمام بطالب المعرفة، وذلك الجمهور الواسع الاهتمامات، والمتنوع الأهداف في نطاق البحث عن شيء ما·

قد يقال بداية إن البحث عن المعرفة لم يعد بتلك الأهمية التي كانت منذ أزمان، أي إنه لم يعد يوضع على مستوى استشراف الحياة، وهو الأمر الذي يظل افتراضا، ولكن في سياق تأمل ظاهرة النزوع الجماهيري لابد من معنى ولا يخلو هذا المعنى من صلة تربطه بالحياة نفسها مهما كان تقييمنا لها·

لسنا من دعاة فرض الأحكام، والمفاضلة بين قيمة هذا النزوع أو ذاك بل نحن من دعاة الاهتمام بالظواهر التي تفرض نفسها، أي تحقق تجسدها سواء قبلناها، أم رفضناها· لأننا في النهاية نود أن نعرف لماذا؟ وكيف؟ وليس فقط·· ما هذا أو ذاك·

ولهذا السبب نصف هذا التجمع حول دور النشر بالظاهرة الطبيعية، كما هو التجمع حول أماكن اللهو، والتسلية ومحلات بيع بضائع الاستهلاك، وأسواق الخضار والفواكه·

إنه تجمع أناس يبحثون عن شيء ما، عن نقطة ارتكاز، تضيف الى وجودهم حجراً، يعزز التوازن، أو يعيده أو يقلبه، وحتى ما يبدو عابثا من الأفعال لا يعدو أن يكون ذا معنى في سياق الحياة الخاصة بذلك الفرد، أو بتلك المجموعة· وهل يفقد فعل من الأفعال معناه بمجرد أن يكون خاصا بغيرنا؟! بالعكس، إنه قد يكون زاخراً بالمعنى أو فاقداً له·· ولكن دائما بالنسبة الى ذلك الفرد وتلك المجموعة·

من هنا يمكن أن ننطلق لملاحظة إحدى الظواهر المهمة التي لاحظناها في معارض الكتب العربية، تلك هي ظاهرة الإقبال على كتب التراث العربي، حيث تحظى الأجنحة التي تعرض هذه الكتب بالنصيب الأوفر من الازدحام وكثيرا ما تعجز عن تلبية الطلبات على كتب معينة، بل تدفع عددا من الناشرين الى وضع برنامج للعام المقبل في ضوء أسئلة الجمهور·

ومعنى هذا أن الأقبال على نوعية الكتب سيؤثر حتما على توجهات الناشرين بالإضافة الى كونه مؤشراً على نزوع عدد كبير من جمهور القراء، ولهذا يمكن أن نتوقع سيطرة الكتب التراثية في الأعوام المقبلة على الأقل بالنسبة للجمهور الذي شاهدناه وتحركنا في وسطه·

هذا إن لم يكن بالنسبة للجمهور العربي الواسع، وهو ما نظنه على سبيل التخمين·

لن نتساءل هنا عن إيجابية أو سلبية هذا التوجه بل سينصرف اهتمامنا الى فهم هذه الظاهرة والآفاق التي تتحرك نحوها·

 

ضوء من الماضي

 

المعنى الأول لهذا التوجه، هو أن هذه الغالبية من القراء تبحث عن معرفة من نوع معين، هي ليست المعرفة المعاصرة بالتأكيد ولكنها المعرفة التي قدمتها عقول عاشت في العصور الماضية، معرفة من أهم سماتها أنها موصوفة بالأصالة، وذات علاقة بالقارئ العربي وإشكالات حياته·

ومن المستبعد أن نتوقع كون هذه المعرفة مقطوعة الصلة بإشكالات القارئ هذا ونحن نلاحظ الحماس والحمية وهما يأخذان عليه نفسه، على الأقل بالنسبة لهذا القارئ أيضا، فلا شك أنه يمتلك أسبابا لرؤية أن سبل المعرفة التراثية هذه ستضيء جنبات الحاضر·

ومهما كان من شأن لا معقولية هذا التداخل بين الماضي والحاضر وخاصة حين يعطي الماضي سلطة الطريق الدائم ويظل الحاضر مجرد مشاهد تمر على جانبيه·

إلا أن الأمر المهم هو هذه الواقعة، وهي بحد ذاتها جديرة بالتأمل، واقعة أن تصورات عقول عاشت في الماضي بكل إشكالاته وخبراته يمكن أن تقدم المساعدة في حل إشكالات الحاضر وخبراته·

تنشأ هذه الواقعة من فرضية مسبقة، هي أن المعرفة منهج ونتائج  هي عقل كلي معزول عن عالم التغير، ومعنى ذلك أن ما ورثناه من معارف هي تعبير هذا الكلي عن حقيقة التجربة الإنسانية المعطاة مرة واحدة·· والى الأبد·

المعنى الثاني لهذا التوجه هو أن غالبية القراء هذه في اتجاهها نحو التراث، تستجيب لدعوة عدد كبير من المفكرين والباحثين الى اتخاذ موقف من الماضي أو هكذا تبدو لنا هذه الظاهرة، ولكن ما مدى صحة هذا؟ قد يكون هذا صحيحا بالنسبة لباحث يمتلك أدوات منهجية ولكنه بالنسبة للمجموع لا يبدو صحيحا، فهذه الأدوات المنهجية وقيمتها تعتمد على خبرات وتطور المعارف المعاصرة ولا يمكن الرهان على أن الجمهور قد توفر له من العصر الراهن هذا الامتياز المرهق·

ينتج عن ذلك أمر خطر ألا وهو أن قراءة التراث من دون وعي منهجي ستكون ظاهرة تعويضية، بمعنى أنها نوع من التعويض عن مواجهة إشكالات الحاضر وتسميتها وابتكار الموقف الإنساني منها بقبول إشكالات الماضي وكل ما أنتجته من تسمية ومواقف، وهنا يجد الجمهور القارئ نفسه واقعا في مفارقة يصعب حلها، وهي أنه سيمنح التراث سلطة لا يدعيها التراث لنفسه، فالتراث كقراءة إنسانية للعالم، وكواقعة تاريخية ملتصق بخبرات زمنه، لغة وبيانا وتجربة، بينما المطلوب منه في هذا النوع من القراءة الجماهيرية الانفصال عن تاريخيته والالتصاق بزمن آخر مازال بحاجة الى لغة وبيان وتجربة نابعة من هذا القارئ نفسه·

 

أدلة قراءة

 

أخطر ما في هذا النوع من القراءة نتائجها والتصور الذي ترسخه عن العالم وقضاياه، حين يصبح المعاش الراهن مجرد "آخر" و"ظاهر" يتعامل معه الإنسان واعيا أنه لا يحمل حقيقته بذاته بل إن حقيقته سبقت وجوده·

وهكذا يبدو كل شيء جاهزاً يزداد الإغراق فيه كلما ازداد ضغط المعاش وإشكالاته وتعددت المجاهيل في معادلته إذ إننا لا نشك أن هكذا تصور معرفي سيضاعف من عمق المجهول واللا معرفة بشكل متواصل·

على أن هذه الصورة ستختلف مع اختلاف النهج والأداة، فإن قطعنا المسافة بين القبول والنقد، أو بين موقف التلقي وموقف إعادة القراءة لا نكون بذلك قد قطعنا الصلة بالتراث أو دعونا كبعض السذج الى نبذه، بل نكون قد قطعنا المسافة بين ما هو مجرد تعويض وبين ما هو أصالة، وبين ما هو اجترار وخمول وبين ما هو ابتكار وإبداع·

إن الإقبال على كتب التراث ليس انحرافا عن الحاضر بل العكس، إن ما يوجه فاعليات هذا الإقبال هو الحاضر نفسه، ولكن الانحراف يأتي من اتجاهين·

الأول هو اتجاه القطع مع موضوع التراث بينما السليم هو اتجاه القطع مع زاوية نظر الى هذا التراث، أي أن الموضوع يظل قائماً، ولكن كيفية رؤيته هي التي يجب أن تختلف، وهذه الكيفية رهينة بضوء الحاضر، والمستوى المعرفي الذي بلغه·

الثاني هو الاتجاه الى القطع مع موضوع الحاضر، بينما السليم هو اتجاه القطع مع زاوية أو زوايا نظر اليه، أي أن موضوع الحاضر كحقيقة قائمة هو السياق التاريخي الذي نعيش فيه وهو مادتنا وخلاصنا وسقوطنا في وقت واحد·

إذا استبعدنا هذين النوعين من القطع، وهما شائعان بدرجات متفاوتة تبقى المهمة الأصعب، مهمة الأدلة التي تقرأ بها كلا الموضوعين، وهي مهمة بدأت تتكون في السنوات الأخيرة بفضل جهود عدد من الباحثين، أدلة مستقاة من مناهج علوم اللغة والتاريخ والاجتماع والفلسفة الى آخر ما هناك من مناهج نذكر منها قراءة "الطيب تيزيني" للتراث، وقراءة "محمد عابد الجابري" وقراءة "حسين مروة"·· وهي قراءات من المبكر الحكم علي قيمتها خاصة هي لا تدعي وثوقية من أي نوع، بل تطرح نفسها "كمشروعات" للبحث بحاجة الى مواصلة·

السؤال الذي نسأله الآن، هو كم من الزمن تحتاجه هذه الأدلة في القراءة للوصول الى فضاء القارئ العربي؟!

وكم من الوسائط تحتاجه لتصبح نهجا في النظر والمحاكمة إذا حاكمنا الأمور بمنطق الظواهر العامة أي ظاهرة الإقبال عبر المنهجي على كتب التراث ونشرها، نعتقد أن هذا الزمن سيكون طويلا، وإن عدد الوسائط سيكون قليلا، فحيث تتكون قواعد استشراف الحياة وحيث تتأسس القدرات المعرفية، لا نكاد نعثر لهذه الأدلة على أثر وهو مايجعل الهوة واسعة بين عالمين، عالم يبحث عن المعرفة من دون أدلتها، أي مناهجها، وعالم يبحث عن الأدلة عالم التعويض وعالم الأصالة، وعالم الناشرين كما نعرف أكثر ضعفا من أن يكون قادراً على اقتراح شيء بهذا الخصوص في غياب وحدة سوق الكتاب العربي، ووحدة الاتجاهات العامة·

تبرز هنا الحاجة ليس الى إدانة هذه الظواهر بل الى التعمق في فهمها، وكشف فاعليتها، ومعرفة آثارها سلباً وإيجابا بوصفها وقائع صلبة يعتمد عليها كل جهد فكري جاد·

لقد استبعدنا هنا الحوافز الكامنة وراء هذا الإقبال اللامنهجي على كتب التراث وركزنا النظر على ما يمكن أن نسميه واقعا عاماً، أي البحث عن التوازن· وهذه قضية تجري البرهنة عليها يومياً في التشتت والتدافع العامين على صعيد حركة الأفكار في المجتمعات العربية·

ومهما كانت تفاصيل الدوافع، فإن حقيقتها تبرز في أنها تدفع الآلاف الى البحث في الماضي عن ضوء·· مجرد ضوء وفي هذا السياق تكسب محاولة المنهجة أهميتها وتبريرها، ولكن ليس بعيدا عن البحوث الميدانية وعن استكشاف أرضية هذا البحث مشخصة بالقارئ أو الجمهور·

إن انعكاسات الوعي اللامنهجي في التعامل مع الموضوعات وفي غياب أي إدارة علمية، يمكن أن تؤثر تأثيراً سلبياً كبيراً على الأجيال، بل يمكن أن تشوه النسل الفكري الى عقود طويلة مقبلة، ذلك لأن خلق التوازن الوهمي في الشخصية والثقافة أكثر خطورة من الاختلال نفسه، ففي الحالة الأخيرة تظل الإشكالية مائلة في الوعي على الأقل أما في الحالة الأولى فإن هذه الإشكالية قد تنطمس في الوعي·· وتظل ماثلة في العالم المحيط مع ما يجره ذلك من صدامات مؤلمة وعابثة بين البشر وعالمهم·

طباعة  

في حرية الأفراد والجماعات والليبرالية وسواها(2)
ذات أكبر خلال العلاقة بالآخرين