رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 20 سبتمبر 2006
العدد 1743

في حرية الأفراد والجماعات والليبرالية وسواها(2)
ذات أكبر خلال العلاقة بالآخرين

                                                            

 

·       في الحرية الداخلية تصير الذات  شيئاً أكبر من ذات فردية

·       قوة الوعي وفعاليته  في لا تحدديته

·         الثقافة مشتركة ولكنها متعددة المعاني والوجوه ولهذا تتطور وتتغير

·         النزعة الفردية الليبرالية تفصل الإنسان عن الآخرين وتسحبه من شبكة الممكنات الشخصية والاجتماعية

 

في الحلقة الأولى (عدد الطليعة 1742) بدأت "دانازوهار" صاحبة كتاب "المجتمع الكوانتمي" موضوعها حول علاقة الأفراد بالمؤسسات والنظم، وحللت إحدى الظريات الشهيرة التي تقول عكس ما هو شائع، إنه كلما كان موقع الفرد في المؤسسة أو النظام مرنا وأقل ثباتا، كلما كانت علاقته به أشد تأثيرا وانتماء، وكلما ازداد هذا الموقع إحكام وتضييقا كان أشد اغترابا وعطالة· في هذه الحلقة متابعة للموضوع·

 

لا يمكن أن تزدهر جماعة حقيقية، لا في مجتمع فردي ليبرالي ولا في مجتمع جماعوي، وكذلك لايمكن أن تزدهر فيهما، كما أذهب، حرية ٌ مفعمة  بالمعنى ثرية ثراء روحيا· فكلتا النزعتين، الفردية والجماعية، نموذج اجتماعي آلي· ينظر النموذج الفردي إلى الأفراد (جسيمات أو ذرات) بوصفهم الأساس، ويختزل جميع الكليات الاجتماعية إلى مجموع هذه الإجزاء، بينما يظل النموذج الجماعي أقرب مايكون إلى نموذج مجتمع موجي، يُصنف الجزء ُ فيه لدى ذي النزعة الجماعية ضمن الكلِّ دائما· الأساس هو النسق أو الموجة· ولا يستطيع، لا نموذج مجتمع شبه جسيمي ولا نموذج مجتمع شبه موجي، منحنا تشكيلة من أفراد أحرار يتغلبون على اغترابهم (ويزيدون ذواتهم ثراءً ) عبر مشاركة أعظم في الكل·

من أجل إحساس خلاق بالجماعة، نحتاج إلى نوع من خصائص ثنائية  مرنة بين شبه الجسيم (الفرد) وشبه الموجة (العلائقية)، إلى نوع من توليف بين ما يدعوه "توماس نيجل" وجهات نظرنا الشخصية ووجهات نظرنا اللاشخصية· ولا يستطيع أي نموذج اجتماعي آلي إعطاءنا هذه الثنائية أو هذا التوليف· واعتقادي هو أن نموذجا كوانتميا  يستطيع هذا، ولكن علينا العودة الى "مبدأ اللايقين" لكي نفهم بالضبط  كيف (أي أن نعود الي الوجه  الكوانتمي  لنظرية  فون فاورستر) وإلى اللا تحددية الكوانتمية، فنرى كيف يمكن أن يمتد هذان المبدآن ويصبح لهما تطبيق اجتماعي·

 

علاقة حلول

 

إننا نتذكر ما يقوله لنا "مبدأ اللايقين " من أنه إذا تحدّد نظام كوانتمي تحددا كليا في جانب، يكون لا متحددا بالكلية في الجانب المتكامل معه· فنحن نستطيع معرفة إما موقعه أو زخمه، إما طاقته أو وقته·· الخ، ولكن تعيين جانب منه في مكان يفقدنا الجانب الآخر· وأيضا يمكن أن تكون بعض جوانب النظام الكوانتمي محددة "جزئيا" ولا متحددة "جزئيا" في وقت واحد معا· وكمثال مناظر لهذه الوضعية نذكر أننا إذا وجهنا وجهنا في اتجاه واحد أيا كان هذا الاتجاه، فسنرى أمامنا مشهدا في غاية الوضوح (جانبا محددا) ولن نرى مشهدا وراءنا على الإطلاق (جانبا لا متحددا) وسيكون المشهد على الجانبين غائما  جزئيا  (جانبان محددان جزئيا  ولا متحددان جزئيا)، وفي الفيزياء ذاتها، على سبيل المثال، يمتلك أي كهيرب في أي مدار ذرّي طاقة ً محددة، ولكن موقعه وزخمه كلاهما يكون في وضعية لا محدّدة جزئيا· فكلاهما منتشر في حلقة غائمة تشبه الكعكة الحلقية حول النواة· وفي نموذجنا الاجتماعي، الزوج الذي يكمل أحد طرفيه الآخر·

 والمهم لنموذجنا هو زوج الجسيم - الموجة· الجانب الجسيمي هو الفرد أو الجانب المتعين الواقع في الزمان والمكان· ولكل نظام كوانتمي منفصل عن غيره عدد ثابت من الكوانتات (كمّات الطاقة) لاتشاركه فيه أنظمة أخرى· وللجسيمات خصائص ثابته وخارجية، علاقة تقابل علاقة· بينما الجانب الموجي هو اللامتحدد والعلائقي المنتشر فوق المكان والزمان· وتتراكب الموجات وتتوالف، ولها آثار تداخل حلولية، إذ تدخل كل واحدة منها في الاخرى· إنها تدخل في علاقات متبادلة لا موضعية وتمتلك علاقات داخلية· وقد وجدنا في تجربة الشقين (الفصل الثاني) أننا إذا قسنا جانب شبه الجسيم، ندمر جانب شبه الموجة، والعكس بالعكس· وعلى نحو يشابه هذا، إذا كان أحد أفراد فريق كرة قدم مهتما  بأدائه فقط (جانبه شبه الجسيمي) فسيكون لديه اهتمام ضئيل بأداء الفريق ككل (جانبه شبه الموجي)· ونشاهد في اللغة التمييز نفسه بين قيود إما /أو المحكمة في النثر المقيد بالقواعد أو الروتين وبين استخدام الاستعارة أو الشعر لـ ··· كليهما/ و··· المحرضة  للعواطف حيث يتم توصيل عدد من المعاني توصيلا متزامنا·

التوازن

في سياقات مختلفة وتحت ظروف مختلفة، يمكن أن تتذبذب "أشياء" كوانتمية بين خواص شبه الجسيم وخواص شبه الموجة، أو يمكن أن تتوازن في الوسط بين الطرفين· وفي المجال الإنساني كما سنرى في العديد من الأمثلة التي ستأتي بعد قليل، نذهب الى القول إن هذه الحالات هي توازن وجهات النظر الشخصية ووجهات النظر اللاشخصية التي تحدث عنها "نيجل"، فهي تمتلك كلا الوجهين· ولكن حين نقلق هذه الثنائيات، أي حين نركز عليها ونقيسها، لانستطيع أن نرى إلا هذا الجانب أو ذاك، وهذا هو لب "مبدأ اللايقين" حين نقيس كينونة كوانتمية فإن ما نفعله هو استخلاص واحد من ممكناتها·

وإذا ماكان لنا أن نقيم تماثلا بين تأثير القياس على نظام كوانتمي وبين تأثيره على العلاقات المحتملة بين الفرد والمجتمع، فسنجد أن الوضعية المقاسة قريبة الشبه بالتجاذب بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية· فإذا ركزنا على كينونة كوانتمية واحدة، فنحن نجبرها على الدخول في وضعية "فردية" متطرفة هي وضعية جسيم مغترب عن شبكة العلاقات الداخلية· وإذا ركزنا على خصائص المجموعة، فنحن نجبر الكينونة على الدخول في وضعية "جماعية" متطرفة هي وضعية تكون فيها العلاقة كل شيء والفردية مفقودة· ولاتحافظ أي واحدة من الوضعيات المتطرفة المقاسة على توازن الجسيم - الموجة (توازن الفردي - الجماعي أو الشخصي - اللاشخصي) الذي يميز الواقع الكوانتمي·

ونرى الأمر نفسه يحدث في التواصل الشخصي· إذا استجوبنا بعض الناس بأسلوب مقنن، فإن ما نفعله يكافئ قيامنا بقياسهم: إننا نثبتهم في إفادة إما / أو شبه الجسيمية، ولكن إذا قمنا على العكس من هذا بمجرد الإصغاء اليهم إصغاء ً متعاطفا، تاركين لتداعياتهم كلها أن تتدفق من دون تدخل، فسيضعهم هذا في حالة أقرب ما يكون الى الحالة شبه الموجية· في كلتا هاتين الحالتين المتطرفتين نفقد شيئا ثمينا: في الحالة الأولى نفقد التداعي الحر والفوارق الدقيقة، ونفقد في الحالة الثانية المعلومات المحددة· ويبدو أن حالة من حالات اندلاع أفكار بارعة مفاجئة تسيطر على المنطقة الوسطى ما بين الحدين المتطرفين· فحين تفاجئنا فكرة من هذه الأفكار تبعد عنا كل الأفكار ذات العلاقة التي تنتابنا، إلا أننا نركز أيضا على بعض منها بوصفه أفضل من الأفكار الأخرى· هنا توجد موضوعة محددة لهذه الحالة الفكرية رغم عدم وجود قيد محكم·

إننا لا نعثر على ممكن "جماعة" كوانتمية انبثاقيه إلا حين يكون كلا جانبي الجسيم والموجة لا متحدّدا إلى حد ما· هنا في هذه الحالة نجد كلتا القدرتين: القدرة على "تعبير فردي" حر والقدرة على "انتماء" خلاق، يصاحب وجود إحداهما وجود الأخرى في الكينونه الواحدة· إن الفرد في نوبة من نوبات اندلاع الأفكار البارعة يحقق مساهمته بوصفه فردا، إلا أن طاقة الجماعة الفكرية الشاملة تلهمه  فعل َ هذا في غالب الأحوال·

 

حرية داخلية

 

إذن تعتمد إبداعية أي نظام كوانتمي، شأنها في ذلك شأن إبداعية شكل الراقصين الحر في الفصل السابق، على ثنائيته· إنها تعتمد على واقعة أنه لا جميع الخصائص الفردية (ممكن شبه الجسيم) ولا جميع الخصائص العلائقية (ممكن شبه الموجة ) ثابتة في موقع متطرف· ومعنى ذلك أن الحرية التي يمتلكها نظام  مثل هذا هي حرية "داخلية"· إن النظام بمجمله، بهويته و"سماته الشخصية" وتعبيره عن نفسه وانفتاحيته، غير ثابت تقريبا، لا في العمق ولا على السطح· إنه في حالة فيض وصيرورة مثل الرقصة ذات الشكل الحر التي استخدمناها كصورة مركزية، أو مثل الموسيقى التي تتولد في حفلة من حفلات الجاز الحرة· وتقوم هذه الحرية الداخلية بـ "الضغط على" النظام وتحويله الى "جماعة" (تحويله الى الرقصة أو الموسيقى) حيث يكتسب الجانب العلائقي اللامتحدد هويته ذات الصلة به·

أما بالنسبة للذات الإنسانية فإن الحرية الداخلية تعني أن تصير الذات شيئا أكبر من ذات فرد خلال علاقة بالآخرين أو خلال تجربة· الذات الإنسانية الكوانتمية في وضعية صيرورة دائمة، بينما لاتستطيع الذات الليبرالية أن تصير أكبر مما هي عليه أبدا، ولا تؤثر عليها ارتباطاتها أو علاقاتها أو مؤسساتها أو مهنتها أبدا (لأنها لا تمتلك إلا حرية خارجية)· حرية الصيرورة الداخلية هذه تباطن حافز الذات الكوانتمية على الدخول في علاقة أو جماعة أو امتلاك تجربة· إننا لا ننمو إلاخلال أمثال هذه التجارب والعلاقات المتبادلة، فنحقق وندرك المزيد من ممكناتنا·

 

المعاني الممكنة

 

العلاقة "تبادلية" كما يقول الفيلسوف اليهودي "مارتن بوبر" في حديثه عن الخواص التي تحدّد علاقة ً من علاقات أنا - أنت، فـ "أنت" العائد لي يؤثر علي مثلما تؤثر "أناي" عليه· إن تلاميذنا  يقومون بتشكيلنا، وأعمالنا تنهض ببنائنا وتفسر قابلية التأثر الكامنة هذه لماذا يبحث الرجل ذو الثقافة الذهنية  المفرطة عن امرأة ذات مشاعر، أو تبحث امرأة فوضوية عن رجل عملي منظم· ويفسر هذا لماذا يصبح الناس الذين يجدون التواصل مع الآخرين صعبا كتّابا على الأرجح، ولماذا يصبح الناس ذوو المشاكل الشخصية المستعصية مستشارين أو أطباء نفسيين أو رهبانا في أغلب الأحيان· إن لدينا ميلا عاطفيا نحو تلك العلاقات أو المهن أو التجارب التي تتيح لنا أن ننمو في الاتجاه الذي يجعلنا فيه ممكننا الكامن اللامعبّر عنه نشعر بالحاجة الى أن ننمو فيه· وما يجعل هذا ممكنا  هو حريتنا الداخلية، أي لا تحدّديتنا·

ويقوم كثير جدا مما نمنحه قيمة  ونفعله في حياتنا الاجتماعية اليومية على منظومة واسعة من علامات دالة وعلاقات اجتماعية لا متحدّدة أو ملتبسة· إن ابتسامة ً أو إيماءة ً بالرأس أو مزحة ً أو عرضا بالمساعدة أو دعوة ً إلى نشاط ما، قد تكون لها جميعا سلسلة واسعة من المعاني الممكنة ونتائج ممكنة مختلفة· فحين تختار امرأة ارتداء ثوب معين في مناسبة من المناسبات، لا يعني هذا بالضرورة أنها تنوي إحداث تأثير أخذته في حسبانها مثل الإغواء· قد لا يكون لديها سوى "شعور" تجاه المناسبة أو نوع من شعور غير معبر عنه تجاه ذاتها· وإذا دعا ابني صديقا  من أصدقائه للعب معه، فمن النادر أن يكون لديه جدول أعمال في ذهنه، بل ليس مطلوبا  شيء من هذا· إن العائلات التي تحاول المبالغة في تنظيم لعب أطفالها لا تفعل على الأغلب سوى إعاقة قدراتهم الإبداعية·

وبسبب كون علم النفس الفرويدي الكلاسيكي آليا في نموذجه الكلي لشخصية الإنسان، يبحث دائما  عن الـ··· معنى المختبئ في الإيماءات والملحوظات الملتبسة،  ويتصرف المحلل النفسي مثل مخبر سري يحاول الكشف عن هذه المعاني المختبئة أو نزع أقنعتها· ولكن الكثير من معانينا ملتبس التباسا متأصلا، إننا نخلقها ونحن ماضون في طريقنا· ولو لم يكن الأمر كذلك، فلن يكون هناك مجال لاستجابة خلاقة أو لانبثاق العلاقات الاجتماعية الخلاقة·

 

الوعي قوة توحيد

 

الجدير بالذكر هنا أن غالبية مؤسسي فيزياء الكوانتم (ديراك وبور وباولي ودي بروجلي وشرودنجر ··· الخ) اعتقدوا بأن الجسيمات الأولية تُظهر في سلوكها نوعا من قوة خفية أو "خيارا" وهو ما عبر عنها عالم الفيزياء "فريمان دايسون" الحائز على جائزة نوبل في قوله:  "تختلف عمليات الوعي الإنساني بالدرجة لا بالنوع عن عمليات الأوضاع الكوانتمية التي ندعوها" تصادفية "حين تقوم بها الكهيربات" . ولكن "ديفيد بوم" أضاف تبصرا  نافذا  مفاده أن قوة ً مثل هذه لا تستطيع التأثير على المحيط إلا عند الدرجة التي تكون فيها الكينونات الكوانتمية في وضعية شبه الموجة، أي بالقدر الذي تظل فيه حتى تلك اللحظة في وضعية لا متحدّدة (في موقع غير محدد زمانيا - مكانيا، ولكن بطاقة وزخم محددين)·

زبدة هذا الكلام هو أن الوعي مدين بصفات شبه قوته الموحدة الخفية والمميزة (أي إرادته الحرة ومسؤوليته) لامتلاكه قواما فيزيائيا لا متحدّدا وشبيها بالموجة· ومتضمنات هذا بالنسبة لمجتمع كوانتمي هي أن أفراده سيظهرون أعلى درجة من درجات الفعالية الخلاقة (أدنى درجة من درجات الاغتراب) إذا لم تقيدهم القواعد والإجراءات تقييدا بالغا· إن "تثبيت" أفراد مؤسسة من المؤسسات بالقواعد البيروقراطية يحرمهم من أي قوة أو سلطة على ناتج أفعالهم ، ومن هنا يحدث "الاغتراب"· وقد تسمح مؤسسة أقلّ إحكاما  وأكثر مرونة ً بانبثاق "قوة مجموعة" أو إحساس بالهدف· هذه هي الخلاصة التي نصل اليها من زاوية كوانتمية حين نفسر نظرية "فون فاورستر" في ضوء "مبدأ اللايقين"·

(يتبع)

طباعة  

قارئ الكتب التراثية
باحث عن نقطة ارتكاز.. عن حجر يعيد التوازن