كتب محرر الشؤون العربية:
تحت عنوان "هل يستطيع بلير تقديم سلام" نشرت صحيفة الأوبزرفر البريطانية مقالة بقلم "نيد تيمكو" الخبير بشؤون منطقة الشرق الأوسط، كشف فيها عن جهود دبلوماسية سرية للمجيء بالسلام أخيرا الى المنطقة (6/8/2006)·
جرت هذه المحادثات السرية حول هذه الخطة "الدبلوماسية" في أواخر شهر يوليو، في الأيام الأخيرة من المواجهة العسكرية بين المقاومة اللبنانية والعدو الإسرائيلي، حين كانت الجهود الدبلوماسية الغربية (مترافقة بالدعم العسكري والسياسي لإسرائيل) تعمل على فرض قرار وقف إطلاق النار الفرنسي - الأمريكي·
تشكلت الخطة الجريئة على طاولة غداء في أواخر يوليو الماضي في جناح بوش الخاص في البيت الأبيض، مع رئيس الوزراء البريطاني بلير قبل دقائق من خروج الاثنين من المكتب البيضاوي لعقد مؤتمر صحافي مشترك·
التقى بلير وبوش لوحدهما، وبدأت المحادثات بلبنان، وكانت رؤيتهما المشتركة أن الدعوة لوقف إطلاق النار ستقدم جائزة لحزب الله، وتجرَّىء إيران وسورية، وتترك لب الأزمة بلا حل· ولكن "بلير" تحرك بسرعة الى أرض أخرى· القتال في لبنان سيتوقف، إن لم يكن اليوم فغدا، ويجب أن يتم عمل كل شيء لتحجيم مداه وضحاياه· ولكن كان في المطاف النهائي مجرد مناوشة في حرب أوسع وضعت الغرب ضد مد الحالة النضالية في أرجاء العالمين العربي والإسلامي ذلك الذي يجب رده بهذه الطريقة أو تلك· وحث بلير على أنه لا يجب تضييع الوقت· وحالما نجد طريقة لإنهاء القتال في لبنان، حتى قبل أن تتجمع القوة الدولية وتصل الى لبنان، عليه وعلى بوش تزعم جهود لإعادة إحياء مفاوضات الأرض مقابل السلام بين إسرائيل والفلسطينيين·
كان بوش متشككاً، فكيف، بوجود حماس التي تدير الحكومة الفلسطينية، وحزب الله يحرض على الحرب في لبنان، والسوريون والإيرانيون يحركون الطبخة، يمكن أن توضع محادثات السلام على السكة·
وقال "بلير" لن يكون الأمر سهلا، ولكن لا يوجد بديل آخر· كان مصمما على وضع كل "أونصة" نفوذ واستثمار سياسي في دفعة أخرى نحو حل دولتين قابل للنجاح، وداعيا بوضوح أن الناتج سيشكل ليس مستقبل المنطقة فقط، بل على صعيد أكبر، سيحدد تركتها، ولكنه بحاجة الى ضمان أن يكون بوش على المركب نفسه وبثبات أيضا·
بناء على أقوال مساعدي "بلير" المقربين وافق بوش· وجاءت إحدى نتائج وجبة الغداء علنا يوم الثلاثء الماضي (1/8/2006) في خطاب مطول أمام مجلس العلاقات الخارجية في لوس أنجلوس· وفي هذا الخطاب تحدث بلير بلهجة قوية وبإلحاح عن طريقة لوضع حد للحرب في لبنان، ولكن موضوعه الرئيسي كان أوسع بكثير· فقد تحدث عن ما سماه "قوس التطرف" من غزة وجنوبي لبنان عبر سورية وإيران وصولا الى أفغانستان· وقال إن الجواب يجب أن يكون "قوس الاعتدال" والمفتاح هو "إعادة إحياء" عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية بأسلوب "دراماتيكي وعميق"·
ومع عودة "بلير" إلى بريطانيا، غاصت رسالته الى إسرائيل والفلسطينيين تحت تقارير وسائط الإعلام عن التمرد المفتوح والمتزايد في أوساط حزب العمل حول التعامل مع قضية لبنان، وتعامل نقاد "بلير" مع رؤيته الجديدة للشرق الأوسط، بوصفها مجرد محاولة خطابية فارغة أخرى لبلير الذي أضعفه مارأوا أنه دعم صاغر لرؤية أقدم صنعها الأمريكيون والإسرائيليون سوية، لكي يفعلوا ما يشتهون في المنطقة· أما أولئك الذين رأوا فيها شيئا جديدا في حديثه السياسي فقد استحسنوها بوصفها اعترافا بالهزيمة، وإدراكا منه أن رؤيته الأولى لتلك التي قادت الى حرب كارثية في العراق قد فشلت فشلا ذريعا في نهاية المطاف·
عدوى السلام
حقيقة الأمر إن الهمة التي اندفع إليها "بلير" أمس (5/8/2006) في التخطيط لمبادرته الإسرائيلية - الفلسطينية كانت جديدة في الواقع، ولكن جذورها تعود الى أكثر من عقد من الزمن، إلى رحلة جوية أخرى حين كان يومها زعيم المعارضة في الطائرة مع رئيس الوزراء "جون ميجور" إلى إسرائيل للمشاركة في جنازة اسحق رابين· وحسب أقوال مقربين منه إنه في تلك المناسبة، وبرؤيته لكلينتون والملك حسين والآخرين الحزانى على رابين وهم يعيدون تكريس أنفسهم للسلام، أصابته عدوى التصميم على إنجاح السلام، إلا أن هناك أمرا آخر أيضا لا يحب "بلير" الحديث عنه علنا، هو إيمانه الديني العميق! فهو شخص يحتفظ بجوار سرير نومه بالتوراة، وقرأ المصادر اليهودية والقرآن، ويبدو أن كل هذه جاءت بتأثيرها معا··!
وكانت له لقاءات خاصة أيضا في غرفته في الفندق مع الكثير من قادة إسرائيل، وكان مقتنعا بأن عليه أن يجعل الشرق الأوسط جزءا شخصيا من سياسته·
ولكن بعد وصوله إلى رئاسة الوزارة، ثم وصول بوش الى البيت الأبيض، ظهر أن هناك القليل من الرغبة الأمريكية في تقديم مبادرات أمريكية كبرى، وبخاصة بعد فشل إدارة كلينتون في تحقيق أي تقدم في عملية السلام·
ثم جاءت أحداث 11/9 في نيويورك، التي كما يقول أحد أصدقاء "بلير" أحدثت "تغييرا في حياته"، وبدأ يفكر بأنهم "قتلوا في أبراج نيويورك 3 آلاف" وبإمكانهم أن يقتلوا 30 ألفا· إنهم ليسوا "القاعدة" فقط، بل "رجعيون" آخرون، وأعداء للحداثة وأعداء للغرب وأعداء للتسامح متعصبون في أرجاء العالمين العربي والإسلامي"!
وهؤلاء يمثلون في نظر "بلير" كلهم عدوا جديدا يشن حربا من نوع جديد· وهذه هي الكلمات نفسها، أو الرؤية نفسها التي استخدمها بلير في خطاب لوس أنجلوس بعد اتفاقه مع بوش على إطلاق مبادرته أو "رؤيته الجديدة" وقد احتاجت هذه البذور التي ولدت في 11/9 الى عدة حروب، أولا في أفغانستان ثم في العراق·· ثم في لبنان بالطبع لتثمر·
وحسب قول محرر الأوبزرفر، فإن "بلير" لم يتخل عن قناعته أنه يجب حل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي طيلة تلك السنوات، بل وحتى في دعمه لحرب بوش في العراق، كان يلح على بوش بأن يرفقها بخطوة واضحة نحو المشكلة الفلسطينية - الإسرائيلية· ولم يتحرك بوش إلا بتردد، بوضع خريطة الطريق ثم بإعطاء الضوء الأخضر لشارون للاحتفاظ بمعظم أراضي الضفة الغربية· مع دعوة الى إقامة دولة فلسطينية مستقلة!! وتداعت الأحداث من إقامة الجدار العازل، إلى وصول حماس الى السلطة، وصولا الى حرب لبنان، ثم جلوس بلير وبوش وجها لوجه على طاولة الغداء·
قيادة في آخر أيامها
ويشير كاتب تقرير الأوبزرفر الى التباين الصارخ بين اللقاء الخاص لزعيمي دولتين كبيرتين، كلاهما في نهاية فترة حكمه، وكلاهما سقط في أعين الجمهور وفي استطلاعات الرأي، وبين الثقة المتنامية بالنفس التي يعبر عنها جيل جديد من قادة الشرق الأوسط السياسيين المصميين على سد الطريق عليهما·
والإشارة بالطبع هي إلى الرئيس السوري بشار الأسد والإيراني أحمدي نجاد، وقبل كل شيء إلى قائد حزب الله حسن نصر الله، الذين ظهروا كل منهم بطريقته بطلا جماهيريا·
المقربون من "بلير" وهو يعكف على إجراء الاتصالات بشأن لبنان، ويحبك خلال ذلك أيضا آخر فصل وربما الأخير في السعي الشخصي لصنع سلام شرق أوسطي أوسع، يقولون إنه كان رغم تركيزه وتصميمه، محبطا أيضا، ولم يكن منشأ الإحباط في جانب منه النقد المتزايد والمعلن لاستراتيجيته في لبنان، بقدر ما كان منشؤه عدم قدرة أو عدم رغبة الكثير من منتقديه على رؤية المدى والخطورة اللذين تمثلهما مشكلة لبنان، فقد ترابطت أمام عينيه، صورة حزب الله وحماس وسورية وإيران، وهو يعتقد أن الكثير من نقاده والكثيرين في الغرب يرفضون رؤية هذه التحديات المترابطة كجزء من "صراع عالمي على قيم عالمية" يجب كسبه! وتقديره كما يقول محرر الأوبزرفر هو أنه حتى لو نجحت الهدنة في لبنان، فستكون في أفضل حالاتها إطارا يجمد "العنف"· وهناك هول أن يبدأ فيلم الرعب مرة أخرى إذا فتح طرف النار، ويقول مساعدو "بلير" إنهم يحسون تغيرا جوهريا في طريقة تعامله مع آخر مبادراته، أي مشكلة الشرق الأوسط الجوهرية· ويفترض هؤلاء أن أي مبادرة جديدة لبلير، ستتضمن بالضرورة اقترابا جديدا وعالي المستوى من كلا النظامين السوري والإيراني، إلا أن الرهان في الحكومة البريطانية هو أن "بلير" سيقاوم مثل هذه التحركات، فقد تعلم درسا من التعامل مع بشار الأسد كما يقول مصدر حكومي، فرؤيته كانت دائما أن عليك أن تتقدم، ولكن إذا وجدت يدك تم إبعادها، فستفترض أن الأمر لا يستحق التقدم، وتبدأ بالاعتقاد أن اللغة الوحيدة التي يفهمونها هي الضغط· وبالنسبة لإيران بدأ الأمر نفسه· وفي خطاب لوس أنجلوس أرسل رسالة الى الرئيسين نجاد والأسد، بأن لديهما خيارا أن يكونا جزءا من ما سماه "قوس الاعتدال" أو أن يختارا "مواجهة" غير محددة· ويعتقد "بلير" أن الإيرانيين والسوريين تسلما الرسالة، ولكن يبدو أنهم مازالوا يعكفون على حسابات خاطئة، فقد توصلوا خطأ الى أن "بوش والأمريكيين يريدون المواجهة معهما" ولكن المخاطرة الآن لا تجبر واشنطن وحدها بل آخرين في المجتمع الدولي على الدخول في اختبار القوة· و"بلير" يشك بحدوث مثل هذا الاختبار، قبل أن يجرب خطوته من أجل دفعة جديدة لسلام عربي - إسرائيلي، في ذهن بلير أن "أولمرت" أكثر مرونة من سلفه في مسألة مبادلة الأرض بالسلام، ومن جانب آخر، يعتقد أنه بدعم وتقوية محمود عباس، وتمكينه من تخفيض الروح القتالية عند حماس بوعود بمستقبل أفضل للفلسطينيين المنهكين في الضفة الغربية وغزة يمكن أن يتقدم· سيستغرق الأمر وقتا، وستبدأ الخطة بالبناء على اتصالات على مستويات دنيا وحديث مباشر مع عباس·
ولكن الدفعة الرئيسية الأولى، ما أن يجعل إيقاف التصعيد في لبنان أي مبادرة ناجحة عمليا، ستكون عرضا واضحا بأن الاستراتيجية التي تم الاتفاق عليها على مائدة الغداء في البيت الأبيض ستكون جادة وثابتة، وقد أخبر "بلير" مساعديه، بأنه بعد معالجة وضع لبنان، لا يمكن أن تكون هناك عودة الى الوراء الى الوضع القديم في المسألة الفلسطينية - الإسرائيلية"·
هل سيكون مؤتمر في لندن؟ هل سيكون هناك كامب ديفيد جديد؟ مكوك خريطة طريق؟ هذه التفاصيل سينثرها "بلير" خلال هذا الشهر عبر دبلوماسيته اللبنانية" وكما يقول مساعدوه، إنه سيقول علنا بأنه إذا لم يجد طريقا لتقديم أمل جديد لسلام إسرائيلي - فلسطيني، فسيكون الأمر إخفاقا لشخصه·