· تصميم إسرائيل على إحداث خلل في التوازن اللبناني مخطط قديم·· في انتظار اللحظة المناسبة
عزمي بشارة*
أية مقارنة بين خطاب أولمرت وخطاب نصر الله لابد أن تصل بنا الى أن الثاني أكثر عقلانية، فخطابه أكثر انسجاما مع الوقائع، ويعتمد أقل مما يعتمد خطاب أولمرت على التعابير والتلميحات الدينية، فنصر الله لا يمكن أن يختتم خطابا أمام البرلمان بصلاة طويلة، كما فعل أولمرت في آخر خطاباته أمام الكنيست·
إن السياسيين الإسرائيليين لا يمتلكون مستوى ثقافيا أو أخلاقيا يتفوق عما يمتلكه قادة المقاومة، فارتباط قادة المقاومة بإيران أقل بكثير من ارتباط السياسيين الإسرائيليين بالولايات المتحدة الأمريكية، وجمهور حزب الله الانتخابي أقل ارتباطا بإيران من ارتباط الجماعة اليهودية المنتشرة في الخارج بإسرائيل، وهؤلاء الذين أطلقوا الحرب الوحشية على لبنان لا يمتلكون الشجاعة ولا الذكاء·
بل على العكس هم جبناء وعامة وانتهازيون، ولكن يتصادف أنهم امتلكوا تفوقا عسكريا، وأنهم يمتلكون مفاتيح الى آلة الدولة، دولة حقيقية، مؤمنة في هويتها، ولها أهداف أمنية واضحة وقنوات للتعبئة الوطنية، في الجانب الآخر هناك حركة مقاومة تعمل في سياق مجتمع منظم تنظيما طائفيا، ودولة لبنانية محايدة في كل شيء إلا في النزعة الطائفية، وأجزاء نظام عربي أعطت لإسرائيل أن تفعل ما تعجز هي عنه، أو أكثر رهبة من أن تفعله بنفسها، وهو التعامل مع المقاومة كميلشيا، لأنها تكشف افتقارها للشرعية الوطنية والشعبية - إسرائيل ليس لديها ما تعرضه بعد عشرة أيام من التخريب البربري والاستهداف المتعمد للمدنيين، ولا تستطيع أن تزعم تحقيق نصر عسكري واحد على المقاومة اللبنانية، ومع ذلك تستطيع الإشارة باعتزاز إلى كل الأحياء السكنية التي حولتها الى انقاض، وإحراق وتقطيع الطرق والجسور والأنفاق والمصانع ومولدات الكهرباء ومباني الدفاع المدني، إن إسرائيل بتعابير قوة التفجير والتخريب أسقطت على لبنان قنبلة نووية، وحولته الى هيروشيما لبنانية، صحيح أن إسرائيل عانت من قصور مخابراتها في معرفة أين أعضاء حزب الله، وهو السبب الذي جعلها تستهدف بيوت عائلاتهم، ولكن هذا لا يبرر القصف المنظم للمجتمع اللبناني، ومحاولات تدمير اقتصاده، إن هذه صورة مصغرة للإرهاب، إثارة رعب في أوساط المدنيين بإطلاق عنف وتخريب هائلين ضدهم في محاولة لإجبار القادة السياسيين على التحرك ضد المقاومة اللبنانية أو تغيير مواقفهم·
وهجوم إسرائيل الحالي على لبنان لا شأن له بإطلاق سراح جندييين معتقلين، فهذا أمر ثانوي، ومن المحتمل أن توافق إسرائيل على تبادل أسرى حين يحين الوقت، الهم الأول هو جدول أعمال ذو شأن بالداخل اللبناني كما له شأن بجدول الأعمال الأمريكي تجاه السياسة الإقليمية·
القضية ليست لماذا اختارت المقاومة هذا الوقت المحدد لعمليتها، فالتوقيت هنا يصبح ذريعة أخرى لإنهاء المقاومة وتبرير العدوان· الحقيقة هي أن طيلة الشهور القليلة الماضية، قامت المقاومة بعدة محاولات لاعتقال جنود إسرائيليين، والفرق هو أن محاولتها الأخيرة نجحت، ويضاف إلى هذا أن الجنود الإسرائيليين الذين قتلوا في هذه العملية، لم يقتلوا في معركة بل لأن دبابتهم مرت على لغم أرضي وهي تطارد رجال المقاومة· السؤال الأكثر أهمية هو "لماذا اختارت إسرائيل هذا الوقت لتطلق هجوما واسعا؟ التوقيت هو توقيت إسرائيلي - أمريكي· ويكمن الجواب في العرب وأمريكا وعدم قدرتهم على تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1559 وتقويض المقاومة اللبنانية بأدوات عربية، ومن هنا تقدمت إسرائيل، والفرق بين اليوم وإحداث القصف السابقة بين عامي 1993 و 1996 هو أن القوات السورية لم تعد موجودة في لبنان، وبدلا من ذلك هناك مشروع ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية للبنان، ينخرط فيه بقية العرب، والذي هو تغيير بنية الحكومة في لبنان، وتحويلها الى حليفة للولايات المتحدة الأمريكية، وجارة طيبة لإسرائيل، ومساهمة في التحالفات الأمريكية في المنطقة·
وقد انطلق هذا المشروع في أعقاب اغتيال الحريري، إلا أنه تجمد على الأرض في الأشهر الأخيرة مع تزايد وضوح أن العرب لا يمتلكون وسائل عملية لجعله ينطلق في الفضاء· وما جعل المحادثات في بيروت لاتنهار انهياراً تاما كان حقيقة أن البديل الوحيد كان اندلاع العنف الداخلي والحرب الأهلية· ولكن في الوقت الذي كان فيه واضحا أن المحادثات كانت مفيدة في إبعاد العنف، ومن هنا توفير موسم سياحي جيد، فهي لم تكن تساعد على تقدم المشروع الأمريكي في لبنان، وكان واضحا بالقدر نفسه أن أولئك الذين يريدون الدفع بهذا المشروع كانوا يتوقعون حدوث شيء ما، ضربة أمريكية لإيران على سبيل المثال، أو ضربة إسرائيلية للبنان، وفي ضوء أن خيار ضرب إيران يظل راهنا خارج الإمكان، عرفت إسرائيل أنها يمكن أن تعتمد على ضوء أخضر خفيف من القوى العربية الرئيسية لهجومها على لبنان، ولم تخيب ظنهم· وما كان مفاجأة هو مدى واتساع الهجمات الإسرائيلية في لبنان فقط· هذه ليست حربا سورية ولا إيرانية، فالأولى كانت قد بدأت لتوها حوارا مع الأمريكيين، والثانية كانت تحاول تجنب حرب مع إسرائيل منذ عقود·
هدف إسرائيل هو تغيير قواعد اللعبة بين إسرائيل ولبنان، ومن ثم في داخل لبنان ذاته، وهذه هي نقطة التشابه الوحيدة بين الحملة الراهنة وحرب العام 1982، والاختلاف الكبير، في الجانب السلبي، هو أن الظروف الدولية والإقليمية لصالح إسرائيل، بينما من الناحية الإيجابية، أن المقاومة التي هي ليست فلسطينية بل لبنانية في هذا الوقت، أكثر قوة وأفضل تنظيما، ويمكن أن نضيف إلى هذين عاملا آخر، وهو أن اللبنانيين ليسوا منقادين الى اتفاقية 17 مايو أخرى، فتلك التجربة وضعوها وراءهم بإصرار، ولا أحد يريد أن يعيشها مجددا، وحتى بعد الانسحاب السوري فقد امتلك المجتمع اللبناني سلوكا تجاه المقاومة اللبنانية أكثر إيجابية من سلوكه تجاه المقاومة الفلسطينية، ففي تلك الأيام من العام 1982 حارب جزء من اللبنانيين الى جانب الإسرائيليين، المبادرة الآن هي في يد الشعب اللبناني والمقاومة، وهما وحدهما يمتلكان القدرة على تعطيل المؤامرة·
بعد قليل ستظهر الوفود الدولية في لبنان لجني ثمار العدوان، وسيقدمون للبنانيين وعدا بإيقاف إطلاق النار إذا طبقوا قرار رقم 1559، قائلين إنه لم يعد هنالك عذر لتأخير التطبيق الآن، وأن الجيش الإسرائيلي قد قدم عرضا لما سيحدث من تبعات لعدم التطبيق·
ولم تكن زيارة "رود لارسن" مهمة بحث عن وقائع، فإرسال لارسن كان بحد ذاته بيانا سياسيا، فهو ليس فقط رجل حزب العمل في الصراع مع الفلسطينيين، بل هو أيضا الناطق باسم الموقف الإسرائيلي فيما يتعلق بالمقاومة اللبنانية· إنه الشخص الذي يقف وراء أموال الدم لتعويض خسارة باراك لهيبته بعد الانسحاب من لبنان، والشخص الذي استدعى ليشرف على تطبيق القرار 1559، ولم يرسم "لارسن" فقط خطا أحمر على تجاوز الخط الأزرق، بل هو يعتبر المقاومة اللبنانية "ميلشيا" محلية وهو أيضا أكثر المتحمسين للمصطلح العتيق الآن "الشرق الأوسط الجديد"، والذي يعني في أفضل الأحوال تطبيع علاقات العرب مع إسرائيل كأولوية تتقدم على أولوية تطبيع العلاقات العربية الداخلية، وكان "لارسن" العدو اللدود لياسر عرفات، الذي أفسد وصفة اوسلو ورفض التصرف كما يفترض، وهو ممتلئ بمزيج من الكراهية والمرارة تجاه من يسميهم "المتطرفين" العرب، ولا يثق بالمعتدلين منهم، الذين يفترض أن عليهم تلبية متطلبات إسرائيل·
هذا هو الأمر كله، وما تبقى مجرد ديكورات، وسنشاهد "لارسن" في لباس الوسيط الذي بالكاد يلائمه مادام ليس حكما، وليس قريبا من الوسط حتى وستمطرنا تفاصيل عن إيقاف إطلاق النار والهدنة، والتحضيرات لتطبيق 1559، المقاومة لا تلعب دور الضحية، فهي لم تطلب التعاطف الدولي مع الضحايا، ولكن التضامن بين الشعوب الساعية الى الحرية· وهذه هي قواعد لعبة أخرى، لغة نسيتها الأنظمة العربية، هذا إن كانت قد عرفتها حقا، رغم أنها تدين بوجودها لخطاب مثل هذا، إنني أتحدث عن لغة حركات التحرير التي تنتزع حقوقها من المستعمرين، فحركات التحرير تسعى الى انتزاع ثمن لا يستطيع خصومها تحمله، ولا ترغب مجتمعات خصومها في دفعه، وهي تحاول أن تعيق خصومها بأسلوب يحمل استخداما كاملا للقوة، وهذه هي الطريقة التي تحاول فيها حركات المقاومة تحييد التفوق العسكري·
لم تكن المقاومة مستعجلة، بل هي حتى لم تختر التوقيت، وإسرائيل هي التي اختارت فتح جبهة معركة واسعة ضد المقاومة، فقد خشيت أن تأجيل معركة حتمية مع المقاومة اللبنانية لن تعطي للمقاومة سوى وقت لتصبح أكثر قوة وتزيد ترسانتها، وأحد أسباب اختيار إسرائيل لهذا التوقيت بشكل خاص، هو أنها عرفت سلفا كيف سيكون رد فعل الأنظمة العربية الرئيسية، لهذا السبب فإن الوضع هو على العكس مما يتم تصويره: فالتهمة بأن المقاومة جلبت كارثة يفضح وجود معسكر عربي ينظر الى المقاومة الصلبة في لبنان وفلسطين نظرته الى مغامرة·
في هذه الأثناء تحاول الولايات المتحدة عبثا إعادة تنظيم الهجوم الإسرائيلي الجبان على المدنيين وتدميره للبنية التحتية المدنية، إنها تريد من إسرائيل استهداف المقاومة والمجتمع الذي يدعمها من دون أن تعرض المشروع الأمريكي في لبنان للخطر· إنها تريد من إسرائيل أن تبتز حلفاء أمريكا من دون سحقهم، تغريبهم تماما أو دفع أنصارهم ضد المقاومة، الفرق بين إسرائيل هنا والولايات المتحدة الأمريكية ربما هو فرق ضئيل، ولكنه مهم· إنه فرق في الدرجة، حول دفع الناس عن الحافة أو عدم دفعهم·
وفي الوقت الذي تريد فيه أمريكا من إسرائيل أن تعزز المشروع الأمريكي في لبنان لا أن ترمي بالمولود مع ماء الاستحمام، تريد إسرائيل من أمريكا، وحلفائها وكل العناصر الدولية طوع يدها، أن تتفاوض مع الحكومة اللبنانية حول وقف إطلاق نار يحقق بضعة شروط، الأول، نزع سلاح حزب الله، والثاني نشر الجيش اللبناني في الجنوب، واستبدال قوات الناتو بالقوة الدولية، والثالث إطلاق الأسرى الإسرائيليين، ولكن الشرط الأول هو المهم، فتلبيته ستكون كافية لتوافق إسرائيل على وقف إطلاق النار، وسينظر النظام السياسي الذي ينبثق عن هذا في البقية، إسرائيل بعبارات أخرى، قررت تسوية الحوار الداخلي اللبناني بقوة السلاح·
وقبول الحكومة لقوات الناتو من دون موافقة الشعب سيعتبر قوات احتلال وستكون الهدف التالي للمقاومة، فتخلق بذلك عراقا جديدا، لبنانا ممزقا، فإذا وافقت الحكومة اللبنانية على التسوية، المقترحة التي تتضمن تفكيك حزب الله، فستبدأ عملية إنهاك أيضا من الداخل هدفها جعل المجتمع اللبناني يضغط على المقاومة للخضوع، وهذه هي الطريقة لإشعال الصراع الداخلي والتي هي جزء من الخطة·
لقد قررت إسرائيل أن هذا ليس فقط الوقت الملائم للمضي في عدوانها، بل إن المعركة ستكون حاسمة، فإذا لم يهيمن مشروع الإرهاب الإسرائيلي، فلن يكون السبب هو صلابة المقاومة، فقط بل ستكون أيضا وحدة اللبنانيين أمام العدوان الإسرائيلي وأهدافه السياسية·
عن "الأهرام ويكلي" عدد 804 الصادر 26/7 /2006