روبرت ولكنسون:
"فن الحرب" واحد من الكلاسيكيات الصينية السياسية وهو نتاج زمن من الاضطراب الكبير في التاريخ الصيني، ويعد أفضل ما في هذا التراث في موضوعه أي تحليل طبيعة الحرب، وتقديم تصور عن كيفية ضمان النصر، وعلى العكس من كتب الأبراج العاجية والتأملات النظرية في الاستراتيجيات يعتبر هذا الكتاب جاداً ورداً عملياً واستجابة للظروف التي سادت في وقت كتابته، وكان له تأثير هائل في الصين، وخارج الصين أيضا·
الفكر الصيني مثلما هو دائما وكما يظهر في هذا الكتاب، ذو جذور عميقة في الواقع بأوسع معاني هذه الكلمة، ومثلما هو معروف عن أعمال الفكر الصيني الكبرى يتصف هذا الكتاب باستجابته الشمولية للمأزق الإنساني· وحتى في قلب وصايا مؤلفه "صون تزو" العسكرية فإن الروحية الصينية بشكلها "الطاوي" ليست بعيدة أبداً عن محتوى الكتاب، فهذه الفلسفة ذاتها التي هدفها إحداث تحول شخصي في مواجهة الواقع المطلق يمكن وتستطيع توفير معرفة بكل جانب من جوانب الحياة بدءا من طقوس الرهبنة وحتى الفنون العسكرية وعدم الوعي بهذا معناه فقدان مستويات المعنى الأعمق لمثل هذا المؤلفات·
ومثلما هو الحال مع أعمال الفكر الصيني الكبرى فإن تاريخ تأليف كتاب "فن الحرب" ليس مؤكداً· هنالك سيرة شخصية للمؤلف "صون تزو" في أكثر كتب التاريخ الصيني أهمية، كتاب "السجلات التاريخية" لمؤلفه "سيما كيان" من القرن الأول قبل الميلاد حيث وصف "صون" كأحد مواطني "كي" الذي عمل في خدمة ملك "ويو" وأثار إعجابه بمهاراته العسكرية، فإذا صح هذا فمعناه أن "صون عاش حوالى 500 عام ق·م" مع نهاية الفترة التاريخية المعروفة باسم مرحلة الربيع والخريف في التاريخ الصيني، ولكن هناك سبب معقول للاعتقاد بأن هذا التاريخ ليس دقيقا فقد ظل موضع خلاف في الصين منذ القرن الحادي عشر على الأقل وأسباب هذا الشك تعود جزئياً الى غياب إشارات الى شخصية "صون" في أعمال هذه المرحلة الكبرى، وإلى أن الشواهد المتعلقة بالحروب الواردة في الكتاب لا تعكس ظروف الأزمنة القديمة·
إن أي شخص كتب هذا الكتاب يفترض وجود جيوش كبيرة وضباطا محترفين وهي أمور لم تكن متوافرة في مرحلة الربيع والخريف، ففي ذلك الزمن كان حجم الحرب صغيراً وبدائياً وفوضويا وشكلا مختصرا لمغامرات فردية ينغمس فيها الحكام لا هذه المهنة الجادة المحترفة التي يصورها هذا النص· ومن المعتقد الآن أن هذا النص تم تأليفه على الأرجح خلال مرحلة الدول المتحاربة في التاريخ الصيني الممتد ما بين 403 و 228 ق·م وهو يحمل بصمة فكر فرد متميز· ومهما كان من شأن هذا الفرد فمن الواضح أنه امتلك تجربة حربية مباشرة·
إن تسمية مرحلة الدول المتحاربة تسمية دقيقة فخلال قرنين وربع القرن من استمرارها لم تظهر الصين كدولة موحدة، فمع نهاية مرحلة الربيع والخريف، التي تميزت هي ذاتها بحروب متواترة تكوّن مما ستصبح الصين أخيراً من سبع دول قوية وخمس عشرة دولة أقل قوة، وكما توحي تسمية مرحلة الدول المتحاربة، فقد كانت هذه إحدى المراحل التي تنافست فيها أكثر الدول قوة على الهيمنة مبتلعة جيرانها الاصغر كلما كان الأمر ضروريا، وبناء على هذا فإن تاريخ المرحلة هو تاريخ حروب متواصلة أحلاف وأحلاف مضادة ومعاهدات تعقد ومعاهدات تنتهك ولذا ليس من المفاجئ أن تتغير طبيعة الحرب مع انتهاء المرحلة· كما أصبح واضحاً أن الاستقرار السياسي لا يمكن تحقيقه بسهولة، فقد توقفت الحرب عن كونها مجرد مغامرات وأصبحت قضية جادة·
وتنامى حجم الجيوش وأصبحت الحملات أطول زمناً وأصبح هم الحفاظ على اقتصاد الدولة لدعم النزاع المسلح موضع اهتمام ومن هنا لا عجب إن ظهرت فئة من الضباط المحترفين الذين كرسوا حياتهم لإدارة حرب ناجحة لقد أصبحت الحرب كما تقول الملحوظة في افتتاحية الكتاب من دون مبالغة، أكثر مهمات الدولة جدية ومفتاح البقاء أو الخراب وكان شرطاً للبقاء ان تمتلك الدولة جيشا فعالاً ذا قيادة ممتازة، ومن المحتمل أن مؤلف الكتاب جاء من طبقة المقاتلين المحترفين هذه· إنه يلخص في هذا الكتاب ثمرة تجربة ويقص علينا في ثلاثة عشر فصلا قصيرا كيف نكسب الحرب·
مفتاح النجاح الأول هو خداع العدو: "كل حرب تقوم على أساس الخداع ولهذا حين تكون قادراً على الهجوم تظاهر بعدم القدرة، وحين تقوم بتحريك القوات تظاهر بانك لا تقوم بأي فعل" ويحتل منع العدو من سبر مقاصد المرء المرتبة الأولى في الأهمية وبخداع العدو فأنه لن يعرف متى يُهاجم أو يدافع وما إذا كان عليه أن يهاجم أو يدافع، وهكذا فإنه سيستعد على كل الجبهات وستكون قوات هكذا عدو منتشرة وضعيفة لذلك في كل مكان وستندحر بالتأكيد·
وإذا كان من الجوهري أن يحافظ المرء على تحركاته سراً فمن الحيوي على نحو مشابه معرفة أكثر ما يمكن عن خطط عدوه·
المخابرات الجيدة هي الأمر الجوهري الثاني في الحرب، ويقف هذا وراء قول "تزو" إن شبكة تجسس موسعة ليست موضع خيار، بل هي ضرورة أساسية· إن كسب الحرب هو نتيجة "معرفة مسبقة" أي مخابراتية وهذه المعرفة لا يمكن أن تأتي عن طريق استشارة الأبراج والأرواح ولا بالبناء وفق أحداث الماضي بل يجب الحصول عليها من الناس الذين يعرفون أوضاع العدو، ويعتمد الجيش على المعلومات التي يجمعها الجواسيس من أجل كل حركة من تحركاته، وليس هناك من مكان، كما يقول "تزو" يمكن أن يستثني من التجسس· وشبكة واسعة من الجواسيس الذين يتلقون أجوراً ممتازة هي استثمار ذو قيمة كبيرة ضروري وثمين بالنسبة للدولة، ويؤكد "صون تزو" في أكثر من مكان ومناسبة على أن المعرفة أو الاستخبارات ذات أهمية حيوية في الحرب: "اعرف العدو واعرف نفسك ولن تهزم في مئة معركة"·
والقائد هو الشخص المسؤول عن الاستراتيجية ومن هنا عن خداع العدو وتقديم المعلومات الاستخبارية التي يجمعها الجواسيس·
والواضح من وصف تزو للقائد المثالي أن هذا الضابط يجب ان يمتلك خبرة واسعة ومعرفة ومهارات أخرى من أرفع المستويات في العلوم والفنون·
وفي المقام الأول يجب أن يكون جنديا ممتازاً وذا تجربة في الحملات العسكرية ومعرفة ممتازة بمبادئ الهجوم والدفاع الموصوفة في الكتاب، عليه أن يعرف أفضل طرق الاستفادة من الأرض وكيف يناور وأفضل طرق الجمع بين قواته النظامية والخاصة··· الخ· وثانيا هذا القائد المثالي موصوف بلغة لا يمكن أن نجدها في أي نص غربي·
فعلى سبيل المثال يجب أن يكون "هادئاً وغامضا" قادراً على وضع "خطط لا يمكن سبر أغوارها" وهذه تعابير تستخدم غالباً لوصف الشخص الذي بلغ هدف "الطاوية" الروحي أي الاستنارة" والواضح من ملحوظات أخرى في النص أن قائد "تزو" المثالي يمتلك بعضاً من هذه الأحوال: "الخبير يمر بلطف ورهافة لا تترك أثرا ولا صوتا وبهذا يتسيد على مصير العدو" هذه الملحوظات الغامضة تبدو محيرة للوهلة الأولى ولكنها ليست كذلك إذ أخذت في سياق نظرية وممارسة "الطاوي"·· فالحكيم الطاوي هو المرء المتناغم كليا مع الواقع الكامن وراء عالم الحياة اليومية، المألوف في خبرتنا اليومية·
مثل هذا المرء يختلف عن كونه ذا مقاصد أو أغراض أنانية بأي معنى من المعاني المماثلة، لما يملكه شخص غير مستنير· إنه متناغم تناغما تاماً وتلقائيا مع تيار الواقع ذاته·
والحكم بعدم امتلاكه لأي قصد لا يحتاج الى استخدام العقل من أجل أن يخطط لكيفية تحقيق مقاصده، ومثل هذا المرء سيكون بالتأكيد مما لا يسبر غوره والكشف عنه بالنسبة لنا نحن غير المستنيرين·
إن حضور هذا البعد الروحي هو أحد الطرق التي يختلف فيها كتاب "فن الحرب" اختلافاً ملحوظا عن الكتاب الغربي الموروث الذي يقارن به دائما كتاب "في الحرب" "1833" لكلاوسفتز· فعلى رغم أن هذا الأخير يمكن مقارتنه بكتاب "صون" في عدة جوانب إلا أنه يفتقر الى هذا البعد الروحي افتقاراً تاماً وسبب هذا الاختلاف هو غياب ما يناظر الفلسفة الطاوية في الثقافة الغربية·
الطاوي الماهر يستجب تلقائيا وبشكل مناسب مهما كان من شأن ما تجيء به الظروف والأحوال، وهذه خاصية إضافية لابد أن يمتلكها القائد ومثلما يشير "صون تزو" وكما يشير كلاوسفتز فإن الظروف لا تكرر نفسها، ولهذا فإنه لا يمكن وضع القواعد الاستراتيجية بتفاصيل يحتاجها كل موقف مقدماً ابداً ومن هنا حين يتحقق النصر، فإن تكتيكات المرء لا تتكرر وعلى المرء أن يستجيب دائما للظروف بطرق لا نهاية لتنوعها·
إن أي شخص يتصرف ويفكر وفقا للطاوي في تناغم مع الواقع المطلق يستفيد من طاقة واتجاه نظام الأشياء الكلي ولا يمكن إيقافه، وهكذا فإن "القائد الماهر يسعى الى الحصول على النصر من الوضعية ولا يطلبه من أتباعه" الوضعية هي التي تجلي اتجاه نظام الأشياء الذي يستجيب له الطاوي الماهر بتسيد كامل وتلقائية مطلقة، ومثل هذا الشخص لا يحتاج الى الاعتماد على خطط وأفعال الاتباع·
إذن بكلمة مختصرة يجب أن يمتلك القائد المثالي خصائص مهارة الطاوي ولا يستجيب استجابة ملائمة للأوضاع التي لا يمكن التنبوء بها والمتغيرة تغيراً لا متناهيا التي تحدث في الحرب إلا مثل هذا الشخص· ولأن كل حرب مختلفة، فإنه لا يمكن صياغة قواعد استراتيجية محددة أو تكتيكات تقوم على أساس إحداها يمكن أن تأتي دائما بالنصر، ولا يجلب النصر الا القواعد المرنة والمتكيفة والمبتكرة·
يضاف الى هذا فإن النجاح في الحرب لا يعتمد على العمل العسكري وحده· وإحدى أكثر السمات بروزاً في "فن الحرب" هو وعي "صون تزو" الواضح بالسياق سياق الحرب النفسي والمادي على حد سواء، والذهاب الى الحرب من دون أموال كافية هو وصفة للإخفاق ودمار للدولة في المطاف النهائي، فالحرب تسبب التضخم والتضخم يستنفد قوى البلد الذي يشن الحرب وتتضمن تكاليف الحرب الاقتصادية، أحد اسباب تشديد "صون تزو" المكرور على الحاجة الى نصر سريع: إن النصر السريع هو غاية الحرب الرئيسية·· فليست هناك حرب متطاولة تفيد بلداً·
والسبب الثاني، لمطلب السرعة هو الحاجة الى الحفاظ على المعنويات في الجيش والدولة على حد سواء وهي نقطة أعاد كلاوسفتز التأكيد عليها دائما، فالجنود المتعبون يتوقون الى بيوتهم ولا يقاتلون بالحماس نفسه الذي تقاتل به قوات جديدة، وسيكون المنخرطون في حملة طويلة واعين بالمصاعب التي تعانيها عائلاتهم بسبب اقتصاد الحرب·
فإذا تمت تلبية كل هذه الشروط (إذا كان الرجل المناسب قائداً وقادراً على خداع العدو وإخفاء مقاصده عنه ومزوداً بالمعلومات الاستخبارية من شبكة تجسس واسعة) فإن الهدف النهائي للحرب سيتحقق، وفي ما يتعلق بطبيعة هذا الهدف النهائي· نأتي الى أحد أكثر التعارضات أهمية بين "صون تزو" و"كلاوسفتز"· الحرب بالنسبة لهذا الأخير هي فعل من أفعال ممارسة القوة هدفه إجبار العدو على الانصياع لإرادتنا واستخدام القوة نظريا رغم انه لا يمكن تطبيقه بسبب المعوقات السياسية لا حدود له·
ويرفض "كلاوسفتز" قول من يسميهم الحالمين ذوي العيون الدامعة الذين يرون إنه يمكن أو يجب تحقيق هذا بالقليل من سفك الدماء أو بلا سفك دماء ويدفع بأنه في الحرب على المرء أن لا يتراجع أمام أي شيء يفرض سفك الدماء·
ويضيف بأن أولئك الذين يتراجعون عن سفك الدماء سيتم تدميرهم·
أما بالنسبة للصيني "صون تزو" فإن التدمير الذي تتضمنه ملحوظات "كلاوسفتز" يجب تجنبه بقدر الإمكان لأن هدف الحرب ليس تدميراً شاملاً للعدو بشكل عام· أفضل سياسة في الحرب هو أخذ دولة من الدول متماسكة، وتدميرها ليس سياسة فضلى، والإمساك بجيش العدو كله أفضل من تدميره·
ويكمن وراء هذا هدف أبعد ومثال غائب كليا عن كتاب الحرب الغربي، وأكثر ملحوظات "صون" التي يستشهد بها كثيراً تقول: "إن إخضاع العدو من دون قتال هو أرفع امتياز" والعمل العسكري هو أقل الطرق جودة لإخضاع العدو، وتعلوها في المرتبة استراتيجية إفساد تحالف العدو وأفضل من كل هذا استخدام الاستراتيجية لهزيمة استراتيجية العدو، إن الأعظم بين القادة ليس المنتصر في مئة معركة بل ذلك الذي لا يحتاج إطلاقا الى القتال لينتصر وليس هناك من يستطيع تحقيق هذا المثال سوى الطاوي الماهر، ذلك المثال الذي يفرض وجود مستوى من البصيرة النافذة لا يملكها الناس العاديون، وسيكون من الحماقة القول إن تاريخ الحرب في الصين يظهر أن هذا المثال تم تجسيده، إنه مثل كل المثل محدد بما يمكن أن يتحقق إنسانياً·
فما فيه من مصلحة هو إنه المثال المفترض و"صون تزو" اقترح على الأقل بديلا لفظائع الحرب الفعلية المروعة·
هذه هي باختصار الأفكار الرئيسية لهذا النص القصير، ولكن البالغ التأثير، فقد ظل موضع إجلال في الصين طيلة قرون، وقد تجاوزت شهرته وتخطى تأثيره تحول الصين الى دولة شيوعية، وقد تم تعليمه وتدريسه في اليابان لعدة قرون، ومنذ منتصف القرن الثامن تحديداً، وعرفه الغرب قبل زمن طويل من معرفته ببقية الكلاسيكيات الصينية وظهرت أول ترجمة فرنسية له العام 1772 وتبعها ترجمة روسية في العام 1860 وعرفته اللغات الإنجليزية والألمانية في القرن العشرين، ولم تتوقف طبعاته في الإنجليزية وهو أمر يدل على أنه لم يكن ليحدث لو لم يكن لدى "صن تزو" شيء يقوله·
مقدمة كتاب The Art Of War,by Sun Tzw,1998