رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 2 أغسطس 2006
العدد 1739

ترومان كابوتي صاحب قيثارة العشب
أتعلم من الإخفاق أكثر مما أتعلم من النجاح

                                                         

 

محمد الأسعد*

هذه مقدمة كتبها ترومان كابوتي، الروائي والقاص الأمريكي (1925-1984) لمجموعة جديدة من قصصه أطلق عليها اسم "روايات غير متخيلة"، عنوانها "موسيقى من أجل الحرباوات" (1980)· كانت المقدمة تحليلا وتقييما لتجربته الممتدة طيلة ما يقارب خمسين عاما، يكشف فيها عن وعي نافذ وجديد في هذا الفن، وعن منعطفات في مهنته ككاتب تناولها بصراحة ووضوح، ووصوله أخيرا الى مرحلة جديدة سبقت وفاته بأربع سنوات·

 

يمكنني رسم خريطة حياتي- كفنان- رسما تقريبيا مثلما يرسم رسم بياني لمصابٍ بالحمّى بكل ما في الكلمة من معنى: ارتفاعا وهبوطا، وبدوائر محددة·

بدأت الكتابة في سن الثامنة فجأة، من دون استلهام نموذج أو مثال، فأنا لم أعرف أحدا من الكتّاب أبداً، وإن عرفت قلة من القراء· كان اهتمامي منصباً في الحقيقة على أربعة أشياء، هي قراءة الكتب ومشاهدة أفلام السينما والرسم والرقص، وذات يوم بأدت الكتابة من دون معرفة أنني بذلك أربط نفسي بسيد نبيل ولكنه لا يرحم· حين يهبك الله موهبة ما، فإنه يعيطك معها سوطا، وغاية السوط الوحيدة هي جلد الذات·

بالطبع لم أكن أعرف هذا· وكتبت قصص مغامرات وجرائم قتل وكوميديات وحكايات سمعتها من عبيد سابقين ومجندين في الحرب الأهلية، كان الأمر ممتعا في البداية، ثم توقفت المتعة حين اكتشفت الفرق بين الكتابة الجيدة والكتابة الروائىة، ثم جاء اكتشاف أكثر خطر: الفرق بين الكتابة الفاخرة والفن الحقيقي· فروق دقيقة ولكنها قاسية وحادة، وبعدها انهالت ضربات السوط، بدأت "أعزف" على أوراقي وأقلامي، وأتدرب مثلما يتدرب هواة صغار على بيانو أو كمان لمدة أربع أو خمس ساعات يوميا، ومع ذلك لم أناقش ما أكتب مع أي إنسان· وحين كان يسألني أحد ما عما أفعله في تلك الساعات كنت أقول، إنني أعد واجباتي المدرسية، حقيقة الأمر إنني لم أعد واجبا مدرسيا واحدا طيلة حياتي·

ما ظل يستولي على اهتمامي هو مهماتي الأدبية: تدريباتي في محراب التقنية والحرفية وتنظيم الفقرات وتوزيع الجمل وترقيمها (استخدام النقط والفواصل) وتحديد مواضع الحوار، ناهيك عن الهيكل الشامل وما يتطلبه السرد من بداية ووسط ونهاية·

كان عليّ أن أتعلم الكثير، ومن مصادر عديدة، ليس من الكتب وحدها، بل من الموسيقى والرسم من مجرد ملحوظاتي لمجرى الحياة اليومية، وأكثر ما كتبته امتاعا في تلك الأيام كان في الحقيقة تلك الملحوظات المستمدة من مجريات الحياة اليومية التي سجلتها في دفتر يومياتي، مثل وصف أحد جيراني، والمحادثات المطولة، والإشعات المحلية· وما يشبه التقارير وأساليب في "الرؤية" و"الاستماع" سيكون لها تأثير لاحق على كتابتي رغم عدم وعيي بهذا الأمر آنذاك، وهكذا كانت كل كتاباتي "الرسمية" أي ما جمعته وطبعته بعناية، متخيلة تقريبا·

ومع الزمن، وبلوغي السابعة عشرة من عمري أصبحت كاتبا مؤهلا تمام الأهلية· فلو كنت عازف بيانو، لعدت تلك اللحظة أول عرض موسيقي أقدمه أمام الجمهور، ومن هنا قررت أنني أصبحت مستعدا للنشر، فأرسلت قصصاً إلى الدوريات الأدبية البارزة، كما أرسلت الى المجلات المحلية التي كانت تنشر في تلك الأيام ما يدعى "أفضل" أنواع القصص، مثل "النيويوركر" و"هاربرز بازار" و"مودموزيل" و"أطلانتك منثلي" وظهرت لي قصص في هذه المجلات أحيانا·

وفي العام 1948 نشرت رواية "أصوات أخرى·· غرق أخرى" وحظيت باستقبال نقدي جيد، ووضعت على قائمة أكثر الكتب مبيعاً، وكانت هذه الرواية، بسبب صورة فوتوغرافية غريبة للمؤلف على الغلاف، سبباً لبداية سمعة معينة لازمتني طيلة حياتي، ونسب كثيرون نجاح الرواية التجاري إلى هذه الصورة بالفعل، ونظر آخرون الى الرواية نظرتهم إلى مصادفة لن تتكرر أبداً، وقالوا إن من المحير أن يتمكن شاب صغير السن من إجادة الكتابة· كيف أمكنهم قول هذا؟ لقد مارست الكتابة يوميا طيلة أربعة عشر عاماً قبل نشر روايتي، ورغم هذا كانت هذه الرواية نتاجا لا بأس به من نتائج دائرة تطوري الأولى·

الدورة الثانية من تطوري توجتها برواية قصيرة مثل "إفطار عند آل تيفاني" في العام 1958· ولكن السنوات الفاصلة بين التاريخين حفلت بتجارب قمت بها على كل جانب من جوانب الكتابة تقريباً·

وحاولت فيها السيطرة على تقنيات متنوعة للوصول الى امتلاك براعة تقنية تضارع متانة ومرونة شبكة صياد· بالطبع أخفقت في عدة مجالات اقتحمتها، ولكن المرء يتعلم من الإخفاق أكثر مما يتعلم من النجاح، وأعرف أنني فعلت هذا، وصرت قادراً فيما بعد على تطبيق ما تعلمته الى درجة كبيرة، على أي حال، كتبت خلال ذلك العقد من الاستكشاف مجموعة قصص قصيرة "شجرة ليل، ذكرى عيد الميلاد" ومقالات وصور شخصية "لون محلّي" وملحوظات والعمل الذي ظهر في كتاب "الكلاب تنبح" ومسرحيتين، "قيثارة العشب" و "بيت الأزهار"، وسيناريوات أفلام، "تغلب على الشيطان" و "الأبرياء"، واستطلاعات صحافية عديدة واقعية معظمها كتبت لمجلة "النيويوركر"·

فيما يتعلق بمصيري الإبداعي، ظهرت معظم الكتابات المهمة خلال هذه المرحلة الثانية في "النيويوركر" للمرة الأولى، ثم جمعت لاحقاً في كتاب عنوانه "إصغاء لإلهات الفنون"، وكانت هذه الكتابات معنية بأول تبادل ثقافي بين الاتحاد السوفياتي وأمريكا، وكتبت عن رحلة قمت بها الى روسيا بصحبة فرقة أمريكيين سود، وتصورت المغامرة كلها رواية "غير متخيلة" قصيرة مسلسلة هي الأولى من نوعها·

قبل هذا بسنوات، نشرت "ليليان روس" كتاب "فيلم" موضوعه كيفية صناعة فيلم "نوط الشجاعة الأحمر" بتقطيعه السريع وتنقله بين الماضي والحاضر، وكان كتابها هذا ذاته شبيها بفيلم· وتساءلت وأنا أقرأه: ماذا سيحدث لو أن الكتابة أهملت خط السرد المستقيم في تقريبها وتعاملت مع مادتها كما لو أنها "روائىة"، هل سيخسر الكتاب أم سيربح؟ وقررت أن أجرب إذا وجدت موضوعا ملائما، وبدا لي موضوع فرقة السود وروسيا في أعماق الشتاء موضوعا ملائما· واستقبل كتاب "إصغاء لإلهات الفنون" استقبالا ممتازا، بل أقدمت أوساط لا تكنّ لي وداً عادة على امتداحه· ولكنه يجتذب ملحوظة مميزة وكانت مبيعاته متواضعة· ومع ذلك كان الكتاب حدثاً مهماً بالنسبة إلي· لقد أدركت خلال كتابته أنني ربما وجدت حلاً لما كان دائماً أعظم مآزقي الإبداعية· جاء هذا المأزق من انجذابي خلال سنوات عدة إنجذابا متواصلا نحو الصحافة بوصفها شكلا فنيا قائما بذاته، ولهذا الإنجذاب سببان، الأول، لم يكن يبدو لي أن شيئا تم ابتكاره حقاً في الكتابة النثرية أو الكتابة عموماً منذ العشرينات، والثاني، أن الصحافة كفن كانت منطقة عذراء تقريبا لسبب بسيط، وهو أن قلة من الفنانيين الأدباء بادرت إلى كتابة رواية صحافية، وإن فعلت اتخذت كتاباتها شكل مقالات رحلات وسيرة ذاتية·

كتاب "إصغاء لإلهات الفنون" جعلني أفكر بعدة خطوط دفعة واحدة: "أريد إنتاج رواية صحافية، شيء على مقياس أوسع تكون له مصداقية الواقعية وتأثير الفيلم المباشر وعمق النثر وحريته وتعاقب الشعر· وبدا مع العام 1959، لا قبله، أن غريزة غامضة من نوع ما توجهني نحو موضوع رواية من هذا النوع: قضية قتل غامضة في منطقة منعزلة من مناطق "كانساس"· وما إن حل العام 1966 حتى كنت قادراً على نشر النتيجة: رواية "بدم بارد"·

هنالك شخصية كاتب في ظلال النضوج في رواية لهنري جيمس أعتقد أن اسمها "سنوات منتصف العمر" تندب حظها هكذا: "إننا نعيش في الظلام، نفعل ما يمكن أن نفعل، وما تبقى هو جنون الفن" أو شيء من هذا القبيل· ولكن السيد جيمس بهذه العبارة يضع قضية الفن على الخط الصحيح، إنه يقول لنا الحقيقة: أكثر أجزاء الظلام عتمة وأكثر أجزاء الجنون جنوناً وما يتضمنه هذا من مقامرة لا ترحم·

ثمة شيء مشترك بين الكتاب، أو على الأقل الكتاب الذين يقدمون على مخاطر فريدة ويرغبون بالعض على الرصاصة والسير على حبل مشدود، وبين نسل آخر من الرجال المتوحدين الذين يعيشون على المراهنات وورق اللعب· لقد اعتقد كثيرون أن قضائي ست سنوات متجولا في سهول كانساس كان بسبب مسٍّ جنوني أصابني، ورفض آخرون قبول مفهومي كله حول "الرواية غير المتخيلة" وأعلنوا أنها غير جديرة بكاتب "جاد" ووصفها نورمان مايلر بأنها نتاج "إخفاق المخيلة" ويعني كما أفترض أن على الكاتب الروائي الكتابة عن شيء متخيل لا عن شيء واقعي·

نعم، كان الأمر مقامرة رهانها باهظ، فخلال تلك السنوات الست المتعبة للأعصاب لم أكن أعرف ما إذا كان لديّ كتاب أم لا· تلك كانت أصيافاً طويلة وشتاءات باردة جداً، ولكنني واصلت المقامرة لاعباً أوراقي بأفضل طريقة أستطيعها· بعد ذلك تبينت أنني حصلت على كتاب· وتذمر عدد من النقاد قائلا إن "الرواية غير المتخيلة" تعبير مراوغ، خدعة، وحقيقة الأمر إنني لم أقدم شيئا فريداً أو جديداً· ولكن كان هناك من شعروا بشيء مختلف، وأدرك كتاب آخرون قيمة تجربتي وتحركوا بسرعة ليستخدموها بأنفسهم، ولم يكن هناك أسرع من نورمان ميلر الذي ربح الكثير ونال عدة جوائز على كتابة "روايات متخيلة" مثل "جيوش الليل" و "نار على القمر" و "أنشودة الجلاد" رغم أنه ظل يحاذر وصفها باسم "روايات غير متخيلة"، ليس مهماً هذا الأمر، فهو كاتب جيد وزميل لطيف، وأنا سعيد لأنني قدمت له خدمة صغيرة·

ووصل الخط المتعرج الذي يرسم شهرتي ككاتب الى مرتفع معافى، فتركته يستريح هناك قبل أن أنتقل الى دائرتي الرابعة، وهي ما أتوقع أن تكون الدائرة الأخيرة·

بين العامين 1968 و 1972، أي طيلة أربع سنوات تقريباً، قضيت معظم وقتي في القراءة والانتقاء: إعادة كتابة وفهرسة رسائلي ورسائل الآخرين ويومياتي وسجلات ملحوظاتي التي تتضمن سرداً تفصيليا لمئات المشاهد والمحادثات بدءاً من العام 1945 ووصولا الى العام 1965· وكانت نيتي استخدام معظم هذه المادة في كتاب خططت له منذ زمن طويل كتنويعات على "الرواية غير المتخيلة" أطلقت عليه اسم "صلوات مستجابة"· وهو عنوان مستعار من عبارة للقديسة تيريزا تقول فيها: "الدموع التي سفحتها الصلوات المستجابة أكثر غزارة من الدموع التي سفحتها الصلوات غير المستجابة"·

بدأت العمل في هذا الكتاب في العام 1972 بأن كتبت الفصل الأخير أولا (من الأفضل أن يعرف الإنسان دائما إلى أين هو ذاهب) ثم كتبت الفصل الأول (وحوش غير مفسدة) فالخامس (سبع إهانات) فالسابع (ساحل الباسك) ومضيت على هذه الشاكلة في كتابة فصول مختلفة بلا تتابع· ولم أكن لأستطيع هذا إلا لأن الحبكة أو الحبكات كانت واقعية وكذلك الشخصيات، ولم يكن صعبا إبقاؤها في الذهن كلها، لأنني لم أخترع شيئا منها· ومع ذلك لم يكن المقصود أن تكون "صلوات مستجابة" رواية مغامرات عادية من ذلك النوع الذي ترتدي فيه الوقائع قناعا خياليا· كان قصدي، على الضد من هذا تماما، إزالة الأقنعة وليس صناعة أقنعة·

خلال العامين 1975 و 1976 نشرت أربعة فصول من الكتاب في مجلة "أسكواير"، فأثار النشر غضباً في أوساط معينة حيث شعر بعضهم إنني أخون الأمانة وأسيء معاملة الأصدقاء والأعداء على حد سواء، ولن أناقش هذا الموضوع لأن الغضب كان اجتماعيا لا فنياً، وسأقول فقط إن عمل الكاتب يعتمد على المادة التي جمعها كنتيجة لسعيه وملحوظاته ولا يمكن التنكر لحقه في استخدامها، إدانته ممكنة ولكن من غير الممكن التنكر لحقه هذا·

على أي حال، في أيلول من العام 1977 توقفت عن العمل في كتاب "صلوات مستجابة"، ولم يكن لهذه الواقعة شأن برد فعل الجمهور على أجزاء الكتاب المنشورة، حدث التوقف لأنني كنت في ورطة: كنت أعاني من أزمة إبداعية وأزمة شخصية في وقت واحد معا، وبما أن الثانية لا صلة لها بالأولى أو أن صلتها ضئيلة، فمن الضروري التركيز على حالة الاضطراب الإبداعي فقط·

وأجدني الآن مسرورا لأنها حدثت رغم عذاباتها، فقد غيرت قبل كل شيء إدراكي للكتابة تغييراً تاماً، وغيرت نهجي تجاه الفن والحياة والتوازن بينهما، وغيرت فهمي للفرق بين ما هو حقيقي وما هو حقيقي بالفعل، عن هذه الأزمة سأبدأ بالقول إن معظم الكتاب كما أعتقد، بل وحتى أفضلهم، هم كتّاب مفرطون في الكتابة، بينما أفضل شخصيا الاقتصاد، أن أكون بسيطا مثل جدول ريفي، وبدأت أزمتي حين شعرت أن كتابتي بدأت تصبح في غاية الكثافة والتشابك بحيث بات الأمر يقتضي ثلاث صفحات للوصول الى نتائج كان من الممكن أن أصل إليها في فقرة واحدة، وفي ضوء هذا الشعور أعدت قراءة ما كتبته في "صلوات مستجابة" مرة بعد أخرى، وبدأ ينتابني الشك، ليس في المادة أو طريقة مقارتبي لها، بل في نسيج الكاتبة ذاتها· وأعدت قراءتي كتابي "بدم بارد" فوجدت ردّ الفعل نفسه: في الكثير من المناطق لم أكتب بالجودة التي أستطيع، لم أقدم فيها كافة الممكنات· وشيئا فشيئا، ولكن بانتباه متعاظم، قرأت كل كلمة نشرتها، وتوصلت الى أنه لم يحدث أبدا، ولا مرة خلال حياتي الكتابية، إنني فجّرت تفجيرا كاملا ما يحتويه موضوع الكتابة من طاقات وإثارات جمالية· وحتى حين كانت الكتابة جيدة، استطعت رؤية أنني لم أعمل بأكثر من نصف وأحيانا بثلت الطاقة المتاحة لي فقط· فلماذا؟

كان الجواب الذي تكشف لي بعد شهور من التأمل بسيطا، إلا أنه كان كافيا إلى حد بعيد، من المؤكد أنه لم يخفف كآبتي بل زادها بالأحرى، لأنه خلق مشكلة من الواضح أن لا حلّ لها كما يبدو، وإذا لم أستطع حلّها فعليّ التوقف عن الكتابة· المشكلة هي: كيف يستطيع كاتب أنْ يركّب بنجاح في شكل واحد، ولنقل قصة قصيرة، كل ما يعرفه عن كل أشكال الكتابة الأخرى؟ إن عدم نجاحي في إيجاد هذا المركّب هو الذي جعل عملي غير مضيء إضاءة كافية في أغلب الأحيان· كان "الفولت" الكهربائي موجوداً، ولكنني حين قيّدت نفسي بتقنيات الشكل الذي أعمل فيه أيا كان هذا الشكل، لم أستخدم كل شيء أعرفه عن الكتابة: كل ما تعلمته من سيناريوات الأفلام والمسرحيات والاستطلاعات الصحافية والشعر والقصة القصيرة والروايات· على الكاتب أن تكون لديه كل هذه الألوان على لوحة مزج ألوان، أن تحضر كل قدراته، وأن يستخدمها في مواقف ملائمة استخداما متزامنا·

ولكن ما العمل الآن؟

رجعت إلى كتاب "صلوات مستجابة" فحذفت فصلا، وأعدت كتابة فصلين، كان هذا الفعل تحسينا بالتأكيد، ولكن واقع الحال كان يعني أن عليّ العودة الى روضة  الأطفال، ها أنا أعود إلى لعبة من ألعاب القمار الضارية مرة أخرى، إلا أنني كنت مستشارا، وشعرت بشمس خفيّة تشرق عليّ، ومع هذا لا تزال تجاربي الأولي متخلفة· وبالفعل، شعرت شعور طفل أمام علبة أقلام تلوين·

كانت الصعوبة الكبرى التي واجهتها حين كتبت "بدم بارد"، من ناحية تقنية، أن أترك نفسي خارج العمل تماما، فمن المعتاد أن على المراسل الصحافي استخدام نفسه كشخصية، كشاهد عيان، كي يحافظ على مصداقيته، إلا أنني شعرت بأن على الكاتب أن يغيب عن ذلك الكتاب، فهذا أمر جوهري لتعزيز نغمة الانفصال فيه· وكنت أحاول عملياً في كل استطلاعاتي الصحافية إبقاء نفسي لا مرئىا قدر الإمكان·

ولكنني الآن في عملي الجديد أضع نفسي في منتصف خشبة المسرح، وأعيد بناء محادثات عادية مع أناس الحياة اليومية بأسلوب مختصر وصارم: مشرف عمارتي التي أسكنها، ومدلك النادي الرياضي، وصديق قديم من أيام الدراسة، وطبيب أسناني· وهكذا، وبعد كتابة مئات من الصفحات بهذا النوع من الكتابة الساذجة، أنشأت أسلوبا في نهاية الأمر·

وباستخدامي نسخة معدلة من هذه التقنية لاحقاً، كتبت رواية غير متخيلة عنوانها "توابيت منقوشة يدويا" وعددا من القصص القصيرة، وكانت النتيجة هي هذا الكتاب الحالي: "موسيقى من أجل الحرباوات"·

كيف أثر كل هذا على عملي الآخر الذي أكتبه: "صلوات مستجابة"؟ لقد كان تأثيره كبيراً· وفي الوقت ذاته، مازلت وحيداً في جنوني المعتم، مع نفسي ومع أوراق اللعب ومع السوط الذي أعطاني إياه الله بالطبع·

 

 *ترجمة لمقدمة: كتاب Music for chameleons, Penguin books, 1980

طباعة  

"صون تزو" ضد "كلاوسفتز"
فن الحرب على الطريقة الصينية