رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 6 يونيو 2006
العدد 1731

الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين "أبارثايد" في كل شيء ما عدا الاسم(3)

                                                    

 

·         اليهود الذين عارضوا نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا كانوا منبوذين بين أبناء الجالية اليهودية

·         المؤسسة العسكرية في إسرائيل كان لديها اعتقاد راسخ أن العلاقات مع جنوب إفريقيا العنصرية كانت ضرورية لبقاء اليهودية

·         انتفاضة سويتو والانتفاضة الفلسطينية غيرتا طبيعة الصراع بشكل دراماتيكي في الحالتين

·         قانون الفصل بين الأزواج الفلسطينيين على أساس عرقي طُبّق على السود في نظام "الأبارثايد"

·         المحكمة العليا الإسرائيلية أثبتت أنها أداة طيعة في يد السلطة السياسية

·         اليهود الأفارقة البيض وجدوا في العهد القديم من الكتاب المقدس ما يبرر ممارساتهم ضد "ذوي البشرة الداكنة"

·         إسرائيل زودت جنوب إفريقيا بالتكنولوجيا النووية في وقت كان العالم كله يقاطع بريتوريا

 

بقلم: كريس ماكغريل

(صحيفة الغارديان)

لقد تملك الإسرائيليون الرعب على الدوام من فكرة المقارنة بين دولتهم والتي هي ديمقراطية نشأت من رماد الإبادة الجماعية، وبين النظام العنصري الذي كان قائما في جنوب أفريقيا· ولكن هناك اتهامات حتى من داخل إسرائيل، بأن شبكة السيطرة التي تؤثر في كل جوانب حياة الفلسطينيين تحمل في طياتها تشابها يثير القلق مع نظام الفصل العنصري·

فبعد عمل استمر لأربع سنوات في القدس ولعشر سنوات في جوها نسبيرغ قبل ذلك، ربما يكون مراسل "غارديان" الحائز على جوائز عدة على عمله كمراسل في الشرق الأوسط، ربما يكون كريس ماكغريل في وضع استثنائي يمكنه من تقييم هذه المقارنة القابلة للانفجار بين الدولة العبرية وجنوب أفريقيا أبان نظام الفصل العنصري·

 

قوانين شارون:

 

خلال فترة تولي شارون رئاسة الحكومة من 2001 وحتى أواخر عام 2005، برزت أشكال جديدة من التشريعات القائمة على التمييز بما فيها "قانون الجنسية والدخول الى إسرائيل" سيء السمعة، الذي يحظر على الإسرائيليين الذين يتزوجون من فلسطينيات (أو الإسرائيليات اللواتي يتزوجن من فلسطينيين)· إحضار أزواجهم للعيش معهم أو معهن داخل إسرائيل، وينطبق القانون علي الأزواج (أو الزوجات) الفلسطينيين، وعارض حسن جبارني المحامي ورئيس منظمة "عدالة" التي تدافع عن حقوق الإنسان الفلسطيني داخل إسرائيل، هذا القانون ورفعه الى المحكمة العليا، وأبلغ قضاة المحكمة بأن هذا القانون له سابقة في قوانين الفصل العنصري في جنوب إفريقيا التي كان تحظر على السود التحاق الأزواج بالزوجات (أو العكس) في بلداتهم·

وقال المحامي جبارني في مرافعته أمام المحكمة العليا: "إنني مضطر - كمحام في القانون الدستوري - أن أستشهد بقضايا من حقبة الفصل العنصري، لأن الاستشهادات من الديمقراطيات الحديثة لن تكون مفيدة، وعلينا أن نقدم قضايا قاسية أمام المحكمة العليا من أجل التحذير ليس من القوانين القائمة على التمييز، بل القوانين العنصرية· ولدينا حالة قانون صدر قبل عامين يمنح الطفل الفلسطيني إعانة أقل من اليهودي، وقارّنا هذا القانون بقوانين التمييز الاقتصادي في جنوب إفريقيا إبان الفصل العنصري فوجدنا تطابقاً يثير الدهشة"·

ولم تكن العدالة عمياء دائما فيما يتعلق بالفوارق بين العرب واليهود، ففي يونيو 86، وقبل 18 شهرا من اندلاع الانتفاضة الأولى، وقعت احتجاجات على قاض أصدر حكمه على مواطن يهودي بالخدمة الاجتماعية لمدة ستة أشهر بتهمة قتل صبي فلسطيني· لقد أثبتت المحكمة العليا الإسرائيلية في غير ذات مرة أنها أداة بيد السلطة السياسية، وكان آخر الأمثلة على ذلك إقرارها مؤخرا، "قانون الجنسية والدخول" ولكن وزير الداخلية العمالي في الحكومة الائتلافية السابقة أو هير باينس باز وصف القانون بأنه "عنصري" وضغط باتجاه تعديله في الكنيست، وردّ البرلمان بتمديد العمل به، حتى يتم البحث في قانونيته من قبل المحكمة العليا، وخلال الأشهر القليلة الماضية، اعتقلت الشرطة الإسرائيلية ثماني زوجات فلسطينيات لأزواج عرب يحملون الجنسية الإسرائيلية، في قرية جلجوليا وأبعدتهن الى الأراضي المحتلة، ويقول أعضاء في الكنيست إن القانون ليس عنصريا وأنه جاء لدواع أمني·

 

قوانين نور مبيرغ

 

ويتساءل مؤيد هذا القانون، كيف يمكن اتهام اليهود بالعنصرية وهم يعانون منها طوال أجيال، وكيف يمكن مقارنتهم بالبيض في جنوب إفريقيا، ولكن كثيرا من يهود جنوب إفريقيا، إضافة الى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ظلوا يعقدون تحالفا مع نظام الفصل العنصري هناك، ذلك التحالف الذي قام على التزام الصمت على الممارسات العنصرية لجنوب إفريقيا السابقة، مقابل القبول بهم، وكذلك كانت هناك علاقات تعاون سري بين إسرائيل وحكومة جنوب إفريقيا طوال حقبة الفصل العنصري·

أما قصة التحالف الذي كان قائما بين إسرائيل وجنوب إفرقيا فتثبته الكثير من الشواهد والتقارير من مصادر البلدين والوثائق التاريخية ذات المصداقية العالية، فمثلا، أتيحت لي الفرصة شخصيا لمقابلة امرأة يهودية تدعى فيرا ريتزر VERA REITZER، إحدى الناجيات، من الهولوكوست وتزوجت بعد انتهاء الحرب ثم هاجرت الى جنوب إفريقيا·

انضمت ريتزر الى الحزب القومي الداعي الى الفصل العنصري في أوائل الخمسينات في الوقت الذي قدم فيه رئيس الوزراء الجديد دي· اف· مالان DF MALAN مشروع قانون يذكّر بقوانين نورمبيرغ التي سنّها هتلر ضد اليهود، وهو القانون الذي يمنع الزواج بين السود والبيض، ويحظر على السود تولي الكثير من الوظائف·

ولم تر ريتزر أي تناقض بين حقيقة نجاتها من الهولوكوست وانخراطها في نظام يشبه في فلسفته الأساسية، إن لم يكن في جرائمه الدموية، النظام النازي الذي نجت منه، وكانت أيضا عضوا مقبولا في الجالية اليهودية في جوهانسبيرغ وتعمل لمساعدة الناجين من الهولوكوست، بينما تعرض اليهود الذين قاوموا ذلك النظام الى النبذ من قبل أبناء جلدتهم·

ويتجاهل كثير من الإسرائيليين الإشارات بأن دولتهم التي قامت من رماد الإبادة الجماعية وبنيت على أساس المُثُل اليهودية، قد تجري مقارنتها مع النظام العنصري (في جنوب إفريقيا)، ومع ذلك، فإن السواد الأعظم من يهود جنوب إفريقيا لم يفشل في تحدي نظام الفصل العنصري فحسب، بل استفاد وازدهر في ظل هذا النظام وتحت حمايته، حتى وإن انخرط عدد من اليهود في حركات التحرير، ومع مرور الزمن، تخلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عن اعتراضاتها على النظام الذي كان قادته من أشد المعجبين بهتلر ذات يوم، فخلال ثلاثة عقود من ولادتها، تخلت الدولة العبرية عن "نقاء سلاحها" وما وصفته بالتفوق الأخلاقي لجنودها، بصورة سرية لأن مصير الدولة العبرية أصبح مرتبطا - كما اعتقدوا - بجنوب إفريقيا، لدرجة اعتقدت فيها المؤسسة الأمنية في إسرائيل أن هذه العلاقة أنقذت الدولة العبرية·

 

أفارقة بيض معادون للسامية:

 

لقد سعى نظام الفصل العنصري الى فصل كل جوانب الحياة من مكان العمل وحتى غرفة النوم، على الرغم من أن البيض - عملياً - كانوا يعتمدون على السود كقوة عمل وكخدم، وقد تطور الفصل الى "تطوير انفصالي" وبانتوستانات، وهي المناطق الخمس المستقلة اسميا للسود والتي كانت تخضع لحكم طغاة يتبعون بريتوريا·

وحين استولى الحزب الوطني على السلطة للمرة الأولى عام 1948، كان لدى يهود جنوب إفريقيا ومعظمهم منحدرون من معازل القرن التاسع عشر في ليتوانيا ولاتفيا، مبرر للشعور بالقلق، وقبل عشر سنوات من تولي مالان رئاسة أول حكومة فصل عنصري، كان يتزعم المعارضة لدخول اللاجئين اليهود من ألمانيا النازية الى جنوب إفريقيا، وفي محاولته الترويج لمشروع قانون لمنع هجرة اليهود الى البلاد، قال مالان أمام البرلمان عام 1937: "لقد تعرضت للتقريع لأنني أمارس التمييز ضد اليهود كيهود، ودعوني أقولها بصراحة إنني أعترف بأنني كذلك"·

فقد تنامت مشاعر مناهضة السامية في جنوب إفريقيا مع بروز الوجود اليهودي في البلاد في الستينات من القرن التاسع عشر، وفي نهاية القرن، عبّر مراسل صحيفة الغارديان في مانشتسر جي· إيه· هو بسون، عن وجهة نظر مفادها أن حرب بوير POER WAR قد اندلعت من أجل مصالح "مجموعة صغيرة من المموّلين الدوليين وخاصة يهود ألمانيا"· وبعد خمسين عاما، تحدثت حكومة مالان عن مؤامرة مماثلة، واتهم هيندريل فيرنورد رئيس تحرير صحيفة DIE TRANSVALER المعروفة بميولها المعادية للسامية ومؤلف كتاب "الفصل العنصري الأكبر"، اتهم اليهود بالتحكم باقتصاد البلاد، وقبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، بلورت "جمعية الأفارقة (البيض) السرية" BROEDERBOND التي كانت تضم بين أعضائها كلا من مالان وفيرنورد، صلات بالنازيين، وقد أودع عضو آخر في الجمعية هو جون موزستر الذي أصبح رئيسا للوزراء لاحقا، السجن أثناء الحرب لاتهامه بالتعاطف مع النازية وإقامة صلات مع ميليشيا "القمصان الرمادية" الغاشية·

وقد وصل دون كراوس رئيس جمعية الناجين من الهولوكست في جوهانسبيرغ، الى جنوب إفريقيا بعد انتهاء الحرب بعام واحد، حيث كان قد فقد معظم أفراد عائلته في معسكر المحارق النازية، ويقول إن "الوطنيين كان لديهم برنامج معاد للسامية قبل عام  1948· وكانت الصحف الجنوب إفريقية معادية لليهود بشكل غاشم ويشبه الحزب النازي في عهد هتلر، وقد شعر اليهودي أن حياته في خطر من قبل الأفارقة الذين ساندوا هتلر، وفي الأحياء ذات الغالبية البيضاء في جنوب إفريقيا، تحول اليهود الى ضحايا، فقد كان هناك أعضاء في حكومة إفريقيا أعلنوا تأييدهم للنازية"·

 

معركة نهر الدم

 

لقد كانت هيلين سوزمان اليهودية العلمانية، وطوال عدة سنوات، الصوت الوحيد المناهض للفصل العنصري في البرلمان· تقول سوزمان إن "اليهود لم يكونوا يخشون من هولوكوست جديدة، بل من قوانين جديدة على غرار قوانين نورمبيرغ، وقد أوضحت الحكومة الجديدة بأنه سيتم تعزيز التمييز على أساس العرق، ولم يكن اليهود يعرفون المآل في مثل هذا الوضع المعقد"·

وقد تلقى العديد من يهود جنوب إفريقيا تطمينات بأن اليهود لن يكونوا هم ضحايا القوانين الشبيهة بقوانين نورمبيرغ، لقد كانت لدى نظام الفصل العنصري مشكلة ديموغرافية ولم يكن يملك فصل أجزاء من السكان البيض، حتى لو كانوا من اليهود، وخلال بضعة سنوات، لم يشعر اليهود بالأمان فقط، بل بالارتياح أيضا، وقد وجد البعض شبها بين انبعاث القومية الإفريقية وبعث الحركة الصهيونية وقيام دولة إسرائيل·

فالكثير من الأفارقة البيض رأى في النصر الانتخابي الذي أحرزه الحزب الوطني، تحررا من الحكم البريطاني البغيض· وربما لا تضاهي معسكرات التجميع البريطانية في جنوب إفريقيا، حجم ومرامي حرب هتلر ضد اليهود، ولكن موت 25 ألف امرأة وطفل من المرض والجوع انغرس عميقا في القومية الإفريقية، بالطريقة التي تجذرت فيها ذكريات الهولوكوست في كيفية نظر إسرائيل الى نفسها، فالنظام الجنوب إفريقي (الأبيض) قال إن الدرس الذي تعلمه الأفارقة هو وجوب حماية الأفارقة مصالحهم أو مواجهة الدمار·

يقول دون كراوس إن "ماكان يحاول الوطنيون القيام به هو حماية الأفارقة، لاسيما بعد ما حدث لهم في حرب بوير، ولذلك سعوا بعد عام 48 الى حماية الإفريقي وهيمنته وثقافته"·

وكان هناك العامل الديني أيضا فقد وجدت الكنيسة الإصلاحية في ألمانيا  REFORMED CHURCH مبررا للفصل العنصري في العهد القديم من الكتاب المقدس وتاريخ الأفارقة، فضلا عن اعتقادهم بأن الله قد انحاز الى البيض في حربهم ضد قبائل الزولو، ولا سيما في النصر الذي أحرزوه في معركة "نهر الدم" BLOOD RIVER·

ويقول روني كاسريلز وزير المخابرات في جنوب إفريقيا والمشارك في صوغ البيان الذي وزع على يهود جنوب إفريقيا ويعرب عن احتجاجهم على احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، إن "الإسرائيليين يزعمون أنهم شعب الله المختار ويجدون مبررات توراتية لممارسة العنصرية ضد الفلسطينيين ولتفرّد الصهيونية"·

 

مبررات دينية لممارسات عنصرية

 

ويضيف أن "ذلك يشبه تبرير الأفارقة لسياسات الفصل العنصري بالفكرة التوراتية بأن الله وهبهم الأرض· وقد أشاع المستوطنون الأفارقة "كما فعل الصهاينة بأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، خرافة أنه لم يكن هناك أناس سود في جنوب إفريقيا حين استوطنوا هذه الأرض للمرة الأولى في القرن السابع عشر، حين استولوا على الأرض بقوة السلاح والإرهاب وإشعال سلسلة من الحروب الاستعمارية الدموية"·

لقد انتعشت المشاعر المعادية للسامية، لكن خلال سنوات قليلة من تولي "الوطنيين" الحكم في عام 1948، وجد الكثير من يهود جنوب إفريقيا هدفا مشتركا مع بقية الأفارقة البيض، ويقول دون كراوس "لقد كنا بيضا ولكن لم نجد صديقا واحدا من الأفارقة البيض، لقد انحاز يهود جنوب إفريقيا الى الأفارقة البيض ليس تعاطفا، بل خوفا منهم· لقد جئت الى هذه البلاد عام 1946 وكنت أسمع اليهود وهم يتحدثون على نحو سيىء عن السود، فقلت لهم اسمعوا: هذا ما كان يقوله النازيون عن اليهود، حتى أن القوانين كانت تذكرنا بقوانين نوربيرغ، حيث المداخل المنفصلة واللافتات التي كتبت عليها: محجوز للبيض في جنوب إفريقيا، وتلك التي كتب عليها: غير مخصص لليهود، في ألمانيا"·

لقد ظلت منظمات يهودية مثل "الفيدرالية الصهيونية" و"مجلس النواب اليهود" في جنوب إفريقيا، يحترمون ولعقود طويلة، أشخاصا من أمثال يوتار، الذي حكم نيلسون مانديلا بالسجن مدى الحياة، بتهمة التخريب والتآمر ضد الدولة عام 1963 (وقضى في السجن مدة 27 عاما)·

لقد ترقى يوتار ليقول منصب النائب العام في ولاية "أورانج فري" ومن ثم ولاية ترانسفال، ثم انتخب رئيسا لأكبر الكنس الأرثوذوكسية في جوهانسبيرغ· وأثنى بعض الزعماء اليهود عليه باعتباره "ذخرا" للجالية اليهودية ورمزا لإسهامات اليهود في بناء جنوب إفريقيا·

ويقول ألون ليل السفير الإسرائيلي الأسبق لدى بريتوريا إن "صورة اليهود في جنوب إفريقيا كانت هي أنهم يتبعون هيلين سوزمان، وأعتقد أن غالبيتهم لم تكن راغبة في ما كان يفعله نظام الفصل العنصري للسود،  لكنهم استمتعوا بثمار هذا النظام واعتقدوا أن تلك ربما كانت الطريقة الوحيددة لإدارة بلد كجنوب إفريقيا"·

لقد تفادت المؤسسة اليهودية المواجهة مع الحكومة، وكانت السياسة المعلنة لمجلس نواب اليهود هي "الحياد" حتى تعرّض السكان اليهود "للخطر"·

أما اليهود الذين رأوا في الصمت على الجرائم النازية تعاونا مع القمع العنصري، وفعلوا شىئا حياله، خارج النظام السياسي الأوسع، فقد وجدوا أنفسهم منبوذين من أبناء جلدتهم·

يقول سوزمان "إنهم واجهوا معارضة شديدة لأنه كان ثمة شعور بأنهم يعرضون يهود جنوب إفريقيا للخطر، وكان "مجلس النواب اليهود" يردّد دائما أن كل يهودي يمكنه ممارسة حقه في اختيار الحزب السياسي الذي يريد، لكن عليه أن يضع في اعتباره تأثير ذلك على بقية أفراد الجالية اليهودية، لقد كان اليهود - بشكل أو بآخر - جزءا من مجتمع البيض ذي الخطوة في جنوب إفريقيا، وهذا دفع كثيرا من اليهود للقول "إننا نخرق السفينة"!

 

أهداف مشتركة

 

لقد كانت إسرائيل توجه انتقادات علنية لنظام الفصل العنصري طوال الخمسينات والستينات، وأخذت تبني علاقات جيدة مع الحكومات الإفريقية التي أعقبت الحقبة علاقاتها بإسرائيل بعد حرب عام 1973، فأخذت حكومة تل أبيب تتخذ مواقف أكثر لينا من النظام المعزول في بريتوريا· وقد تغيرت العلاقة بين البلدين بصورة جذرية عام 1976، ووجهت إسرائيل الدعوة كرئيس وزراء جنوب إفريقيا جون فورستر، الذي كان أحد المتعاطفين مع النازية وسبق له تولي قيادة الحزب الفاشي OSSEWABRANDWAG الذي تحالف مع هتلر، للقيام بزيارة رسمية لإسرائيل·

وقد امتدح رئيس الوزراء الإسرائيلي (آنذاك) إسحق رابين، فورستر باعتباره قوة من أجل الحرية، ولم يذكر شيئا عن ماضيه، ونوه رابين في كلمة له أثناء مأدبة عشاء أقيمت تكريما للضيف بـ "المُثل المشتركة بين البلدين مثل الأمل بالعدالة والتعايش السلمي"· وقال إن كلا البلدين يواجهان حالة من "عدم الاستقرار واللامبالاة نتيجة لتواطؤ أطراف خارجية"·

وقال فورستر الذي كانت قواته تحتل أنغولا، لمضيفيه إن جنوب إفريقيا وإسرائيل هما ضحيتان لأعداء الحضارة الغربية، وبعد عدة أشهر، ورد في كتاب الدولة السنوي في جنوب إفريقيا أن البلدين يواجهان المشكلة ذاتها:"وهي أن كلا منهما تقع في محيط معاد تسكنه شعوب قاتمة اللون"·

وأرست زيارة فورستر أسس التعاون وحولت محور إسرائيل وجنوب إفريقيا الى مؤسسة لتطويرالأسلحة وقوة للاتجار بها حول العالم، ويقول ليل الذي ترأس فرع جنوب إفريقيا في وزارة الخارجية الإسرائيلية في الثمانينات، إن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية اعتقدت أن دولة إسرائيل ما كانت لتبقى لولا علاقتها بجنوب إفريقيا·

وأضاف: "لقد خلقنا صناعة الأسلحة في جنوب إفريقيا، وساعدتنا بريتوريا على تطوير كل أشكال التكنولوجيا لأنها كانت تمتلك إمكانات مادية كبيرة، فقد كنا نقدم لهم في التصنيع العسكري، المعرفة العلمية ويقدمون لنا المال·

وبعد عام 1976، تبلورت علاقة حميمة بين المؤسستين الأمنيتين والعسكريتين في كلا البلدين· لقد تورطنا في أنغولا كمستشارين للجيش الإفريقي الجنوبي، وكان لدينا ضباط عسكريون هناك يتعاونون مع الجيش الإفريقي، لقد كانت الصلة بيننا وبينهم حميمة جدا"·

وبالإضافة الى المصانع العسكرية المملوكة للدولة التي كانت تزود جنوب إفريقيا بالمواد، قام كيبوتس "بيت ألفا" بتطوير السيارات العسكرية المصممة لمواجهة أعمال الشغب والمظاهرات الاحتجاجية في الأحياء السوداء·

 

السلاح النووي

 

السرّ الأكبر في هذه العلاقة المشبوهة بين البلدين كان السلاح النووي، فقد زودت إسرائيل جنوب إفريقيا بالخبرة والتكنولوجيا التي كانت عنصراً مركزياً في تمكين بريتوريا من تطوير سلاحها النووي، وكانت إسرائيل تشعر بالحرج من صلاتها الوثيقة بحركة سياسية تقوم علي إيديولوجيا عنصرية، فحرصت على إبقاء التعاون العسكري بريتوريا، طي الكتمان·

يقول ليل إن "كل ما أكشفه لكم اليوم كان سراً، وكانت المعرفة محصورة بعدد قليل من الناس خارج المؤسسة الأمنية، ولكن صادف أن عددا من رؤساء حكوماتنا كانوا جزءا من هذه العملية، ولذلك إذا أخذت شخصيات من أمثال شيمون بيريس أو اسحق رابين، فسوف تجد أنهم يعلمون بتفاصيل تلك العلاقة لأنهم كانوا جزءا من المؤسسة الأمنية"·

ويضيف أن "إسرائيل ظلت تردّد في الأمم المتحدة أنها ضد الفصل العنصري، وإننا كشعب يهودي عانى من الهولوكوست، لايمكننا التساهل مع نظام عنصري، لكن مؤسستنا الأمنية ظلت تقيم علاقات تعاون مع نظيرتها في جنوب إفريقيا"·

وكذا فعل الكثير من السياسيين الإسرائيليين، وأقامت مدن إسرائيلية علاقات توأمة مع مدن في جنوب إفريقيا، ومع حلول الثمانينات كانت كل من جنوب إفريقيا وإسرائيل تدافع كل منهما عن الأخرى في تبرير السيطرة على شعب آخر، وقالت كل منهما إن شعبيهما يواجهان خطر الإبادة من الدول الإفريقية السوداء ومن الدول العربية والإسلامية، ولكن واجهت كل منهما في نهاية المطاف، انتفاضات شعبية (سويتو عام 76  والانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 87)، وكلاهما كانتا داخليتين وعفويتين وغيرت كل منهما طبيعة الصراع بصورة راديكالية·

يقول كاسريلز إن "هناك أمورا ندركها - نحن في جنوب إفريقيا - في كفاح الفلسطينيين من حق تقرير المصير وحقوق الإنسان، فهؤلاء الناس الذين يتعرضون للقمع والظلم تُصبغ عليهم صفات شيطانية كإرهابيين من أجل تبرير المزيد من الانتهاكات لحقوقهم· ومن الغريب أن تلقى اللائمة على الضحايا، في العنف الموجه ضدهم، وتعتبر كل من جنوب إفريقيا وإسرائيل من الأمثلة الناصعة على الدول الإرهابية التي تنحي باللائمة على ضحاياها"·

وبالطبع، هناك فوارق مهمة بين البلدين، فقد خاضت إسرائيل ثلاث حروب من أجل البقاء، لكن الكفاح المسلح في جنوب إفريقيا لم يرق، في تكتيكاته ونطاق القتل التي تبلوررت في السنوات الأخيرة، إلى ما هو في فلسطين، ولكن التفوق العسكري الإسرائيلي وتلاشي الخطر القادم من الدول المجاورة وانتقال الصراع الى الشوارع الفلسطينية، أدى إلى تآكل التعاطف الذي كانت تحظى به إسرائيل في الخارج·

لقد صورت جنوب إفريقيا وإسرائيل نفسيهما كجيبين للحضارة الديمقراطية في الخط الأمامي للدفاع عن القيم الغربية، ومع ذلك، ظلت حكومتا البلدين تطالبان بالحكم عليهما وفقا لمعايير الجيران الذين تزعمان أنهما تحميان العالم الحرّ منهم·

ويوضح ليل أن "البيض في جنوب إفريقيا ظلوا دائما يرون مصيرهم بطريقة ترتبط بمصير الإسرائيليين لأن الإسرائيليين يمثلون أقلية بيضاء يُحيط بهم 200 مليون مسلم تساعدهم الشيوعية، وكان ثمة تحليل بأن إسرائيل تشكل جزيرة غريبة متحضرة وسط 200 مليون بربري عربي، تماما كالبيض في جنوب إفريقيا الذين يشكلون خمسة ملايين نسمة يحيط بهم مئات الملايين من السود الذين يتلقون المساعدة من الشيوعيين أيضا"·

وحين بدأت إسرائيل أخيرا في التخلي عن نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، مع تنامي الضغوط الدولية على الأفارقة البيض، بدأت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تتراجع ويقول ليل "إننا حين وصلنا الى مفترق طرق خلال عامي 86/1987، قالت وزارة الخارجية إننا يجب أن نغيّر تحالفنا من البيض الى الأفارقة السود، فردت المؤسسة الأمنية بأن هذه خطوة انتحارية لأن صناعتها العسكرية والجوية ستموت دون أن يكون لدينا وكيل لجنوب إفريقيا التي أنقذتناخلال السبعينات، وربما يكون هذا التحليل صحيحا"·

 

نسيان الماضي

 

كان شمعون بيريز وزيرا للدفاع وقت زيارة فورستر الى القدس وتولى منصب رئيس الوزراء مرتين خلال الثمانينات حين أقامت إسرائيل أوثق العلاقات مع حكومة نظام الفصل العنصري، وقد تفادى الإجابة عن تساؤلات متكررة حول أخلاقية إقامة علاقات مع نظام جنوب إفريقيا·

وقال: "لا أفكر في الماضي قط، وبما أنني لا أستطيع تغييره، فلماذا التعاطي معه؟"·

وحين سئل حول ما إذا كانت لديه شكوك بشأن دعم حكومة كانت على طرف نقيض مع كل ما تمثله دولة إسرائيل، قال بيريز إن بلاده كانت تصارع من أجل البقاء، وأن "كل قرار بالتأكيد لن يكون بين وضعين مثاليين· وكل خيار اتخذناه لم يكن هو الأفضل، ولكن لم تكن أمامنا خيارات كثيرة، فضلا عن أننا لم نتوقف يوما عن التنديد بسياسة الفصل العنصري، ولم نتفق معها أبدا"·

أما عن فورستر، فقال بيريس "إنني لا أضعه في قائمة أعظم زعماء هذاالعصر"·

ويقول نائب مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية جدعون مئير إنه في حين لا يمتلك تفاصيل حول علاقات إسرائيل بجنوب إفريقيا، إلاّ أن دافعا وحيدا كان وراء تلك العلاقة، فهمّنا الرئيسي كان الأمن، لقد كنا الدولة الوحيدة في العالم التي تتعرض لخطر وجودي منذ اللحظة الأولى لقيامها وحتى اليوم، وكل شيء هو نتاج للطبيعة الجيوسياسية لإسرائيل"·

يتبع

طباعة