رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 24 مايو 2006
العدد 1729

الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين
"أبارثايد" في كل شيء ما عدا الاسم(1)

                                                    

 

·        وزير يهودي في حكومة الفصل العنصري: بريتوريا وتل أبيب  استخدمتا القوة والقوانين للاستيلاء على الأرض واقتلاع أصحابها

·        الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة  لم تبن مدرسة أو عيادة واحدة في القدس الشرقية منذ احتلالها عام 1967

·        إسرائيل احتلت القدس الشرقية  بعد عشرين عاما على قيامها وتتعامل مع سكانها على أنهم مهاجرون أجانب!

·         المواطن الفلسطيني "غائب" في السجلات الإسرائيلية مع أنه يعيش في منزله ويدفع الضرائب

·         إسرائيل نقلت بعض  القوانين عن جنوب أفريقيا والمأخوذة أصلا عن النازية!

·         ديزموند توتو: ما يتعرض له الفلسطينيون يشبه كثيرا  ما تعرضنا له على أيدي البيض

·        غولدريتش: إسرائيل قامت  نتيجة هزيمة النازية والفاشية وتفعل فعلهما بالآخرين

 

 

بقلم: كريس ماكغريل (صحيفة الغارديان)

لقد تملك الإسرائيليون الرعب على الدوام من فكرة المقارنة بين دولتهم والتي هي ديمقراطية نشأت من رماد الإبادة الجماعية، وبين النظام العنصري الذي كان قائما في جنوب أفريقيا· ولكن هناك اتهامات حتى من داخل إسرائيل، بأن شبكة السيطرة التي تؤثر في كل جوانب حياة الفلسطينيين تحمل في طياتها تشابها يثير القلق مع نظام الفصل العنصري·

فبعد عمل استمر لأربع سنوات في القدس ولعشر سنوات في جوها نسبيرغ قبل ذلك، ربما يكون مراسل "غارديان" الحائز على جوائز عدة على عمله كمراسل في الشرق الأوسط، ربما يكون كريس ماكغريل في وضع استثنائي يمكنه من تقييم هذه المقارنة القابلة للانفجار بين الدولة العبرية وجنوب أفريقيا أبان نظام الفصل العنصري·

ولد سعيد راتب عام 1972، أي بعد خمس سنوات على سقوط مدينة القدس بأيدي الإسرائيليين واستولت على أراضي عائلته باعتبارها جزءا من "عاصمة إسرائيل الأبدية وغير القابلة للتقسيم، لقد اقتفى البيروقراطيون الإسرائيليون أثر جيشهم بالقيام بأكبر عملية مصادرة للأراضي منذ الانتصار الذي حققته العصابات الصهيونية على العرب في حرب عام 1948، أو ما يطلقون عليها "حرب الاستقلال"· لقد وضعوا أعينهم على بلدة بيت حنينا، مسقط رأس راتب وأراضيها· وقرر الإسرائيليون توسيع حدود بلدية القدس لتشمل أراضي هذه القرية والعشرات من القرى الأخرى، لقد أصبحت هذه القرية جزءا من الضفة الغربية، بينما دخلت أراضيها حدود القدس·

ولم يحدث تقسيم دقيق للسكان، فالمواطنون الفلسطينيون في المنطقة سجلوا على أنهم يعيشون في القرية، حتى أولئك الذين كانت منازلهم ضمن حدود القدس كعائلة راتب، ومع مرور الوقت، منح الإسرائيليون راتب بطاقة هوية تعرفه كمواطن في الضفة الغربية تحت الحكم العسكري، وحين ولد سعيد راتب، أدرج باعتباره يعيش خارج حدود القدس، ولم يعبأ أفراد عائلته كثيرا طالما كان يسمح لهم المرور بحرية من خلال الخط الوهمي الذي رسمه الإسرائيليون بين الضفة الغربية والقدس، وطالما تمكنوا من التسوق وزيارة أماكن العبادة في المدينة·

وبعد أربعة عقود أصبح راتب بموجب النظام الإسرائيلي المعقد، مواطنا في الضفة الغربية التي لم يسبق له أن عاش فيها قط، وأصبح مقيما بشكل غير شرعي في المنزل الذي ولد فيه، داخل حدود مدينة القدس· وقد أجبر مجلس بلدية المدينة، راتب على دفع ضرائب باهظة على منزله لكن ذلك لا يعطيه الحق في العيش فيه ويتم اعتقاله بشكل دوري لأنه يعيش فيه، وطرد أبناء راتب من مدرستهم في القدس ولا يمكنه تسجيل سيارة باسمه، وفي الواقع، يمكن ذلك شريطة أن تكون السيارة تحمل لوحات الضفة الغربية، وهو ما يعني عدم قدرته قيادة هذه السيارة الى منزله، لأن السيارات المسجلة في إسرائيل فقط، يسمح لها بالدخول الى القدس، كما يحتاج راتب الى تصريح حتى يتمكن من زيارة مركز المدينة القديمة·

ويمنحه الجيش الإسرائيلي مثل هذا التصريح أربع مرات سنويا، وهناك المزيد من المعاناة التي يعيشها راتب، فإذا لم يكن مسجلا بشكل قانوني على أنه يعيش في منزله، فإنه يصنف كـ "غائب" تخلى عن ممتلكاته، وبموجب القانون الإسرائيلي، فإن هذه الممتلكات تؤول الى الدولة، أو بالأحرى، الى مواطنيها اليهود، ويقول إن بلدية القدس "أرسلت أوراقا تفيد إننا لا نستطيع بيع أو تطوير المنزل لأننا لا نمتلك الأرض، إنها تعود الى الدولة، وفي أي وقت بعد ذلك، يمكنهم مصادرته، لأنهم يقولون إننا "غائبون" بالرغم من أننا نعيش في المنزل، وهذا ما أجبر شقيقي الأكبر وشقيقاتي الثلاث للهجرة الى الولايات المتحدة، فهم لم يستطيعوا تحمل المضايقات"·

جدار الفصل العنصري

هناك القليل من الأماكن في العالم التي تقيم فيها الحكومات شبكة من قوانين الجنسية والمواطنة المصممة للتطبيق على جزء من السكان ضد الجزء الآخر، وكان نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أحدها، وإسرائيل الثاني·

لقد أخذ الناس بشكل متزايد يستمعون الى المقارنة بين حكم البيض في جنوب أفريقيا قبل التسعينات ونظام السيطرة الذي تقيمه إسرائيل على الشعب الفلسطيني·

لقد أطلق مناهضو الجدار الذي تبنيه إسرائيل في عمق أراضي الضفة الغربية بـ "جدار الفصل العنصري" لأنه يجبر السكان على الانفصال عن بعضهم ويضم أراضي فلسطينية لإسرائيل، ويقارن معارضو خطة شارون تقسيم الضفة الغربية الى تجمعات صغيرة، ونظام "البانتونات" في جنوب أفريقيا والتي كانت عبارة عن تجمعات للسود مستقلة اسميا فقط·

وقد وصفت إحدى منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية نظام الفصل في الطرق التي يستخدمها الإسرائيليون وتلك التي يستخدمها الفلسطينيون بأنه فصل عنصري، ويجادل المحامون العرب داخل إسرائيل بأن ذلك تمييز عنصري واضح، ورفعوا دعاوى بهذا المعنى الى المحكمة العليا الإسرائيلية، ودفعوا بتشابه بعض التشريعات الإسرائيلية وقوانين جنوب أفريقيا الجائرة في ظل نظام الفصل العنصري، لقد زار القس ديزموند توتو، بطريرك كيب تاون السابق ورئيس لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، الأراضي المحتلة قبل ثلاث سنوات ووصف ما رآه بأنه "يشبه الى حد كبير ما حدث لنا - نحن السود - في جنوب أفريقيا"·

وقد وجد مثل هذا التشابه منذ عام 1961، رئيس وزراء جنوب أفريقيا ومهندس نظام "الفصل العنصري الواسع" أو البانتونات، هيندريك فيرنورد حين قال إن "اليهود أخذوا فلسطين من العرب بعد أن كانوا يعيشون عليها منذ ألف عام·

وإسرائيل، مثل جنوب أفريقيا، دولة عنصرية"· وهذه رؤية تخيف الكثير من الإسرائيليين وتثير سخطهم·

لقد ندد أستاذ العلوم السياسية الإسرائيلي جيرالد ستينبرغ بدعوة وجهت إليه للإدلاء بشهادته أمام إحدى لجان المركز الثقافي المقدسي لمناقشة مسألة "هل إسرائيل هي النظام العنصري الجديد؟"· وهاجم منظم الحدث اليهودي من أصل جنوب أفريقي لمجرد طرحه مثل هذا السؤال·

ورد بالقول "كما تعلم دون شك، فإن الحملة المناصرة للفلسطينيين والمعادية للسامية تحاول إضفاء طابع شيطاني على إسرائيل بالتركيز بشكل كلي على المقارنة الزائفة والمهنية لإسرائيل بجنوب أفريقيا· إن استخدام مصطلح "فصل عنصري" لوصف ردود إسرائيل المشروعة على الإرهاب والتهديد، يسيء الى تجربة جنوب أفريقيا وفي الوقت ذاته يمثل اتهاما غير أخلاقي ضد حق الشعب اليهودي في تقرير المصير"·

دولة منبوذة

ويرتعش بعض الإسرائيليين من مجرد فكرة عقد المقارنة لأنها تلمس وتر ما يشعرون به هم أنفسهم تجاه دولتهم التي تأسست بعد قرون من الكراهية والمذابح والتي توجت أخيرا، بالهولوكوست·

ويرى الكثير من اليهود في إسرائيل في أنفسهم بأنهم أشبه بسود جنوب أفريقيا أكثر مما يشبهون البيض الذين مارسوا القمع· ويقول بعض أشد المدافعين عن السياسات الإسرائيلية في الماضي والحاضر، إن مناقشة إسرائيل في سياق فصل عنصري يظل أقل درجة من تشبيه الدولة العبرية بألمانيا النازية، لأسباب كثيرة ليس أقلها أن قيادة جنوب أفريقيا الفاشية تعاطفت في الأربعينات مع هتلر وبسبب الانعكاس المثير للاضطراب لقوانين نورمبيرغ النازية التي أصدرها هتلر، على القوانين العنصرية لجنوب أفريقيا·

ومع ذلك هناك تحد متزايد لهذا الأمر الذي يعتبر من المحرمات· وكما قال وزير العدل الإسرائيلي السابق تومي لابيد، فإن تحدي إسرائيل للقانون الدولي من خلال بناء الجدار الفاصل قد يفضي الى تحويل إسرائيل الى دولة منبوذة مثل جنوب أفريقيا "إبان الفصل العنصري"· ودعا رئيس وزراء ماليزيا عبدالله أحمد بدوي الى حملة ضد إسرائيل كتلك التي أطلقها المجتمع الدولي ضد جنوب أفريقيا قبل عقود·

وقال بدوي إن "كفاح الشعب الفلسطيني ضد احتلال أراضيه، كما كان كفاح جنوب أفريقيا ضد العنصرية، يحظى بتأييد هائل من المجتمع الدولي، وبالتالي، فإن تعبير المجتمع الدولي عن هذا الدعم قد حان الآن"·

وقد أيدت بعض الكنائس اليهودية كالكنيسة الإنجليكانية Anglican والكنيسة المشيخية Presbyterian فرض عقوبات ضد إسرائيل· وفي العام الماضي، أيد أحد اتحادات الطلبة في إحدى الجامعات البريطانية فرض مقاطعة على التعامل مع اثنتين من الجامعات الإسرائيلية، قبل أن يتراجع عن قراره وسط عاصفة من الانتقادات حول مبررات المقاطعة·

وقد نددت الحكومة الإسرائيلية بالمقاطعة باعتبارها معاداة للسامية ومحاولة لنزع الشرعية عن الدولة العبرية، وتساءلت عن السبب في فرض العقوبات ضد إسرائيل، الدولة الديمقراطية، وحدها، وقد حذر تقرير سري لوزارة الخارجية الإسرائيلية من أن موقف إسرائيل في الخارج قد ينحدر الى الحضيض خلال السنوات القليلة المقبلة، لدرجة قد تجد نفسها في حال صدام مع أوروبا التي قد ترى في إسرائيل دولة معزولة كما كان نظام الفصل العنصري، مع ما يرافق ذلك من عواقب اقتصادية وخيمة·

لقد أدى انسحاب إسرائيل من قطاع غزة العام الماضي والتخلي عن السيطرة العسكرية المباشرة عليه، على الأرض، الى تخفيف الانتقادات التي تتعرض لها إسرائيل، ولكن، حتى في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تسحب قواتها من غزة، كانت تعزز سيطرتها على المناطق التي تنوي الاحتفاظ بها في الضفة الغربية، مستخدمة الجدار الفاصل لرسم الحدود المستقبلية للدولة العبرية باقتطاع أجزاء واسعة من الأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات اليهودية التي تنوي ضمها، وهي الاستراتيجية التي - إذا نفذتها إسرائيل - ستقوي المقارنات المعقودة بينها وبين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وتغذي الدعوات لفرض العقوبات ضدها·

شبكة التحكم

وتشعر إسرائيل بقلق حقيقي لحقيقة أن أي شخص قد يرى تشابها بين مجتمعها وذلك الذي كان في جنوب أفريقيا في الحقبة العنصرية، ويتساءلون أين هي اللوحات الإرشادية لـ "اليهود" و"غير اليهود" التي تضاهي نظام الفصل العنصري في الحافلات والحمامات العامة وكل مرافق الحياة في بريتوريا وجوهانسبيرغ؟

هناك فروق واضحة بالطبع، فالعرب في إسرائيل يمارسون التصويت على الرغم من حظر تشكيل أحزاب عربية حتى الثمانينات، وهم متساوون الى حد ما بموجب القانون ويحظون ببعض الحماية القانونية لحقوقهم اليوم، فاليهود هم الأغلبية في إسرائيل، بينما كان البيض هم الأقلية في جنوب أفريقيا، وقضت إسرائيل العقود الأولى بعد قيام الدولة، تحارب من أجل البقاء·

ولكن بعض مظاهر المساواة هذه تمحوها حقائق أخرى، ويصف بعض يهود جنوب أفريقيا وبعض الإسرائيليين الذين شهدوا حقبة الفصل العنصري - بمن فيهم سياسيون وناجون من الهولوكوست ورجال سبق أن اتهموا بأنهم إرهابيون - بعض جوانب الحياة في إسرائيل بأنها تذكرهم بجنوب أفريقيا القديمة، وبعضهم يرى التشابه في شبكة التحكم والممارسات القائمة على التمييز، وما يصفونه بـ "الجشع السافر" لابتلاع الأرض التي صادرتها الدولة العبرية الوليدة من السكان الفلسطينيين الذين شردوا من مناطق عام 1948 ثم من فلسطينيي الضفة الغربية·

ويقول الوزير اليهودي في حكومة جنوب أفريقيا والعضو السابق في المؤتمر الوطني الأفريقي ANC روني كاسريلز أثناء زيارة له الى مدينة القدس إن "نظام الفصل العنصري كان امتدادا لمشروع استعماري لتجريد الناس من أرضهم، وهذا بالضبط ما حصل في فلسطين، أي استخدام القوة والقانون للاستيلاء على الأرض، وهذا هو الشيء المشترك بين نظام الفصل العنصري وإسرائيل"·

ويرى آخرون أن الشيء المشترك هو حجم المعاناة، إن لم تكن أسبابها، فمثلا يقول السفير الإسرائيلي السابق في جنوب أفريقيا آلون ليل إذا أخذنا حجم المظالم الواقعة على كاهل الفلسطينيين من دولة إسرائيل، فإن ثمة أساسا للمقارنة مع نظام الفصل العنصري، وبالطبع، كان نظام الفصل العنصري يمثل فلسفة مختلفة عما نفعله، والذي ينبثق معظمه من اعتبارات أمنية، ولكن من زاوية النتائج، فنحن عصبة واحدة "مع جنوب أفريقيا القديمة"·

وربما يكون السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه هو كيف أصبحت إسرائيل في سلة واحدة مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، سواء من خلال تقليد القوانين والاستراتيجيات السياسية أو من خلال الضرر الواقع على الفلسطينيين، وكيف يمكن لحكومة تمثل شعبا عانى الأمرين من التمييز والكراهية ويتحالف سرا مع نظام هتف رجاله ذات يوم بشعار: "إطردوا اليهود"؟

حالة تمزق بين صراعين

في عام 1940 كان يعيش صبي جنوب أفريقي يهودي يدعي آرثر غولدريتش في مدينة بيترسبيرغ العاصمة التي لا تعرف التسامح لشمال ترافنسال وكان غولدريتش في الحادية عشرة من عمره، وكانت جنوب أفريقيا في حالة حرب ضد ألمانيا النازية·

في صباح اليوم ذاته، أعلن مدير مدرسته بأن الطلبة سوف يبدأون في تعلم الألمانية كلغة أجنبية، وكان معنى ذلك واضحا وهو أن الكثير من الأفارقة البيض Afrikaners بمن فيهم بعض قادتهم السياسيين يعتقدون ويأملون أن ينتصر هتلر في الحرب، وحين وزع المدرس كتب اللغة الألمانية، وجد الصبي اليهودي نفسه أمام مجلة للشباب النازي، فرفض التعامل معها وكتب لرئيس الوزراء آنذاك جان سماتس يعلن رفضه تعلم اللغة الألمانية وطلب أن يتعلم العبرية·

ومنذ ذلك الحين بدأ غولدريتش يخوض صراعين أحدهما ضد هيمنة البيض في جنوب أفريقيا والثاني من أجل بقاء دولة إسرائيل·

وفي عام 1948 وخلال أيام قلائل حدث تصادم بين عالمي الصبي اليهودي آرثر غولدريتش، فقد أعلنت إسرائيل استقلالها في 14 مايو وبعد أسبوعين فاز حزب الفصل العنصري "الحزب الوطني" في الانتخابات في جنوب أفريقيا، وهكذا أصبح الرجال الذين أيدوا هتلر في السلطة·

وقرر غولدريتش الهجرة الى إسرائيل والقتال من أجل إنقاذ الدولة العبرية· ويقول إن "السبب الذي جعلني أذهب الى هناك هو الهولوكوست والقتال ضد الاستعمار البريطاني، ولكن بالطبع، لم يترك لي فوز الحزب الوطني في الانتخابات أي شك في الخطوة التي يتعين علي القيام بها"·

وعاد غولدريتش الى جنوب أفريقيا عام 1954 لخوض صراعه الثاني، فبعد سنوات عدة من التردد السياسي، أصبح عضوا في المؤتمر الوطني الأفريقي وانخرط في جناحه العسكري بقيادة نيلسون مانديلا، ولم يكن غولدريتش معروفا لدى البوليس السري في جنوب أفريقيا، ولذلك تقمص دور مؤجر إحدى المزارع في ريفونيا شمال جوهانسبيرغ حيث كانت تلتقي القيادة السرية للمؤتمر الوطني الأفريقي·

وكتب مانديلا في مذكراته كيف لجأ الى غولدريتش باعتباره أحد القلائل من قادة المؤتمر الوطني الذي يتمتع بخبرة قتالية عالية·

فكتب يقول: "في الأربعينيات، قاتل آرثر مع "البالماخ"، الجناح العسكري للحركة الصهيونية في فلسطين، وتكونت لديه خبرة في حرب العصابات وساعد في ملء الكثير من الثغرات في فهمي للشؤون العسكرية"·

وفي يوليو 1963، شن البوليس السري غارة على المزرعة واعتقل عددا من المطلوبين بمن فيهم وولتر سيسولو، زعيم المؤتمر الوطني الأفريقي وغولدريتش، وكان سبعة عشر شخصا ممن اعتقلوا في المزرعة هم من البيض وكلهم كانوا يهود، أما مانديلا ورفاقه الذين اعتقلوا قبل ذلك، فقد وجهت إليهم اتهامات بالتخريب والتآمر لإطلاق ثورة عنيفة، وهي تهم تصل عقوبتها الى الإعدام·

وقبل محاكمته، تمكن غولدريتش من الفرار من السجن وعبر الحدود الى سوازيلاند متخفيا كراهب، والآن، يعيش غولدريتش بمدينة هرتزليا على ساحل البحر المتوسط في إسرائيل، وقد آمن غولدريتش ذات يوم بأن الدولة اليهودية الفتية ستكون نموذجا أفضل من مسقط رأسه·

ولكنه يرى اليوم أن إسرائيل أشبه بنظام البيض الذي قاتل ضده في جنوب أفريقيا، ويقول إن الحكومات الإسرائيلية أثبتت اهتمامها بالأرض أكثر من السلام·

ويتحدث غولدريتش عن "البانتونات التي نراها من خلال سياسة الاحتلال والفصل"، إضافة الى العنصرية في المجتمع الإسرائيلي من خلال إخلاء العرب من منازلهم بالقوة والتعامل بوحشية معهم تحت الاحتلال في فلسطين"·

ويتساءل غولدريتش "أليس مرعبا أن نرى الدولة التي قامت فقط نتيجة هزيمة الفاشية والنازية في أوروبا، والناس الذين أبيد ستة ملايين منهم في ذلك الصراع، لا لسبب إلا لكونهم يهود، هؤلاء الناس يفعلون أشياء مشابهة في شعب آخر؟!"·

وقد ذهب غولدريتش بنفسه ليرى كلية بيزاليل في القدس، حيث رأي التخطيط المعماري الذي تستخدمه الدولة العبرية كأداة للتوسع الإقليمي بعد حرب عام 1967، ويقول: "لقد شاهدت القدس برعب وشك كبيرين وخوف على المستقبل، لقد قابلت أناسا قالوا لي إن ما يحدث هو هندسة معمارية وليست سياسة· ولكني أصف ذلك بأنه خلق للحقائق على الأرض"·

وراء الخط الأخضر:

كان هناك جزء من جوهانسبيرغ لم يره سكان المدينة إبان حقبة الفصل العنصري، قط، فمع حلول السبعينات كان سكان المدينة السود قد أجبروا على مغادرتها بموجب قانون مناطق المجموعات Group Areas Act الذي صنف المناطق السكنية بالجنس، وقد تم هدم حي "صوفيا تاون" الذي شكل ركنا مزدهرا لحياة السود ذات يوم وأعيد بناؤه من جديد للبيض· ولكن بقي عشرات الآلاف من السود في بلدة الكساندرا القريبة من حي ساندتون الراقي الذي يقطنه البيض في جوهانسبيرغ، لكن الخدمات فيها كانت شبه معدومة والشوارع قذرة وضيقة والمدارس متهالكة·

والمقارنة بين القدس الشرقية والغربية لا ترقى الى تلك بينما ألكساندرا وساندتون، ولكن الفوارق بين الأحياء العربية واليهودية تتركز في المواقف والسياسات والقوانين الشبيهة بتلك التي استخدمت ضد سكان جوهانسبيرغ السود، فمعظم يهود القدس لم يسبق لهم أن زاروا الشطر الشرقي للمدينة، ومعظم الذين فعلوا، إنما كان قصدهم زيارة حائط البراق الذي يسمونه "حائط المبكى"·

وإذا حدث وسافر الإسرائيلي الى القدس الشرقية، فإنه سيفاجأ بعالم آخر، حيث الشوارع محفرة والقمامة متراكمة، فضلا عن وجود أحياء فلسطينية كاملة ليست مربوطة بشبكة الصرف الصحي·

ووفقا لمنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية بيت سيليم Bitselem فإن سكان القدس من اليهود الذين يشكلون حوالي 70 في المئة من مجموع سكانها البالغ 700 ألف نسمة لا يجدون ما يكفي من المرافق، فمثلا، ليس فيها سوى ألف موقف سيارات عام و36 مسبحا عموميا و26 مكتبة· أما الـ 260 ألف عربي الذين يعيشون في المدينة فليس لديهم سوى 45 موقفا عموميا وليست لديهم أية مسابح عامة ولديهم مكتبتان عامتان فقط، وورد في تقرير للمنظمة أنه "منذ ضم مدينة القدس لم تبن البلدية أية مدرسة جديدة أو بناية عامة أو عيادة طبية للفلسطينيين، وكرس نصيب الأسد من الاستثمار فيها الى المناطق اليهودية"·

فخذ على سبيل المثال، مكاتب وزارة الداخلية على طرفي المدينة، ففي الشطر الغربي لا يضطر السكان اليهود للانتظار سوى لفترة قصيرة نسبيا في قاعة يتوفر فيها التكييف المركزي·

أما في الشطر الشرقي، يبدأ المواطنون الفلسطينيون بالتوافد الى المكاتب منذ منتصف الليل أو يدفعون لمن يقف بدلا منهم ليحجز لهم دورا لإتمام معاملة، وبعد طلوع الشمس يبدأ انتظارهم لساعات وساعات تحت أشعة الشمس اللاهبة في الشارع من أجل إتمام معاملاتهم، وفي جوهانسبيرغ، كان يتم دخول البيض من بوابات مختلفة عن تلك المخصصة للسود الى مبنى وزارة الداخلية، ويتم تقديم الخدمات لهم "أو عدم تقديمها" تبعا للون البشرة·

وهناك مدن كثيرة في العالم تجبر فيها الأقليات للعيش في أحياء فقيرة ومعدومة ويعامل أفرادها كأجانب غير مرحب بهم، وما تتميز به هذه المدينة المعلنة عاصمة للدولة العبرية، هي تلك السياسات المصممة خصيصا للإبقاء على المدينة على حال كهذا تماما كما كان عليه الوضع في جوهانسبيرغ إبان الفصل العنصري، ففي القدس وأجزاء أخرى من الأراضي المحتلة، تطبق على الفلسطينيين قوانين وممارسات قائمة على التميز، بدءا من مصادرة الأراضي وهدم المنازل الى القيود المفروضة على الحركة والتنقل·

أوجه تشابه

ويقول جون دوغارد برفيسور القانون الدولي والمعروف على نطاق واسع بأنه "أب قانون" حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا ويعمل الآن مراقبا خاصا للأمم المتحدة لشؤون حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة إن "أوجه التشابه بين وضع سكان القدس الشرقية وسكان جنوب أفريقيا السود كبيرة جدا في ما يتعلق بحقوق المواطنة، فقد كان لدينا قانون مناطق المجموعات في جنوب أفريقيا، وهناك قوانين شبيهة مطبقة على سكان القدس الشرقية ولها ذات العواقب والتأثير على من يمكنك أن تتزوج وأين يمكنك أن تعيش وأين يمكنك الذهاب من المدرسة الى المستشفى"·

فالفلسطينيون من سكان القدس الشرقية وهم في الغالب ولدوا فيها، لا يعتبرون مواطنين بل مهاجرين يتمتعون بوضع "مواطنة دائمة" والتي وجد كثيرون منهم أنها أبعد ما تكون عن وصفها بالدائمة· ففي جنوب أفريقيا القديمة، كان يتم التعامل مع شريحة واسعة من السكان البيض على أنهم غير مواطنين في المدن والأحياء التي ولدوا فيها·

وتقول منظمة "بيت سيليم" إن إسرائيل تعامل الفلسطينيين من سكان القدس الشرقية كمهاجرين يعيشون في منازلهم بموجب تصريح من السلطات وليس كحق لهم، وتستمر السلطات الإسرائيلية في اتباع هذه السياسات على الرغم من أن هؤلاء الفلسطينيين ولدوا في القدس وعاشوا فيها وليس لهم مكان آخر ليعيشوا فيه، إن التعامل مع الفلسطينيين كأجانب دخلوا الى إسرائيل يثير الدهشة، لأن إسرائيل هي التي دخلت الى القدس الشرقية عام 1967 وليس العكس·

وتقول إسرائيل إنها عرضت الجنسية على كل من ولد في القدس ولكن قليلا من الفلسطينيين هم الذين قبلوا بذلك، لأن قبولهم يعني الإقرار بسيادة إسرائيل على المدينة المقدسة بكاملها·

وتزعم الحكومة الإسرائيلية أن رفض مواطنين من العرب الحصول على الجنسية الإسرائيلية يعرضهم للقيود· وكانت إسرائيل قد بادرت بعد السيطرة على كامل المدينة عام 1967، الى مصادرة أكثر من 70 كيلو مترا مربعا من أراضي الضفة الغربية وضمتها الى حدود بلدية القدس الجديدة، وأحيانا كانت تصادر الأراضي وتعزلها عن منازل أصحابها كما فعلت مع سعيد راتب، بحيث تصبح الأرض داخل حدود القدس أما السكان ومنازلهم خارج المدينة، وأصدرت الحكومة الإسرائيلية آنذاك قوانين تسمح بمصادرة الأراضي والممتلكات ونزعها من العرب وإعطائها لليهود·

يتبع

طباعة