"أيام ما كنت أتعاطى الهيروين"!
الى الدور السادس ومنه الى الرابع ونعود الى السادس ثم الى الثالث وصعودا على السلم الى الخامس·· هكذا ظللنا نهرول نحن الثلاثة وراء طارق، هذا الموظف المهذب المتعاون مع الأبرياء والمجرمين على السواء·
شكل هذا المبنى متهالك كأننا في أحد أحياء "شبرا"· كنت أتساءل وسط البهدلة·
أخيرا، عندما وصلنا أمام أحد المكاتب قال لنا طارق: المقدّم غير موجود، لننتظره، ساعة أو ساعتين ويعود·
أسندت ظهري الى الحائط (هو أنظف ما في جوف الإدارة) وسرحت في البعيد: هأنا وقعت أخيرا في المحظور، انتظر "التبصيم" على هذه الجنحة "المنَظَّمة" تحت الجنايات! كما قال لي طارق، ولم أفهمه حتى اليوم·
"جنحة صحافية"·· أدخلتني هذا المبنى، مبنى "الإدارة العامة للمؤسسات الإصلاحية وتنفيذ الأحكام" فمن سيخرجني منه بعد أن "انصلح" حالي وأقسمت لنفسي أنه سينصلح للأبد؟! خطرت في بالي عبارة محامي "بوعليوي" في "درب الزلق" حينما نطق بـ "البراعة" لتأكيد البراءة· أين مني الآن مثل هذا المحامي؟!
انتبهت الى رفيقيّ في "درب الإصلاح" المنتظرين مثلي عودة المقدّم· خصوصا وقد بدأت أتعاطف معهم بسبب "عِشرة" السلالم والمعاناة، الأول أتأمل وجهه، به جرح طوليّ عميق يبدأ من تحت عينه اليسرى مرورا بوجنته وينتهي بأسفل ذقنه، تهمته بسيطة، تعاطي هيروين وهروب من تنفيذ الحكم، الثاني "بوسمرة" الشبيه بالملاكم تايسون كنت أظن بيني وبين نفسي وأنا أتأمل وجهه أن تهمته شجار أو ما شابه، لكنها - بعد أن سمعته يناقش طارق بالتفاصيل - عرفت أنها "مخدرات" و"سرقة"·
طارق، طبعا، من كثرة اعتياده على مثل هذه الأمور، أصبح "مفضَّح" يناقش التهم - ونحن صاعدون نازلون - علنا، و"يبشّر الجميع بالخير"·
كيف لم أصل الى حقيقة تهمة تايسون الذي بالكاد كان يصعد معنا السلم، ويجر خطواته وراءنا جرًّا، بل إن فمه يظل مفتوحا بشكل لا إرادي، حتى وهو صامت·
في الساعات الثلاث هذه، مرّرنا طارق - الله يحفظه - على كل مكاتب الإدارة· يوزع الأوراق، ويوصي، ويستفسر عن بعض الأوراق الرسمية الضائعة، خلالها، لم يبق أحد من خلق الله لم يتفرج علينا· أحد رجال المباحث قال لي: "شكلك مو غريب عليْ·· وين شايفك"· أرعبني قلت: "لا والله·· في حياتك ما شفتني ولا أعرفك"· أحد رجال الشرطة المسؤول عن وضع "الكلبشات" وتحويل المتهمين الى السجن، كرر القول نفسه: كأنك مارّ علي قبل هالمرة!
قلت لنفسي: معهم حق، فشكلي يوحي بتهم صعبة، وقسمات وجهي قد تقرّبني من تهمة "طعن أفضى الى الموت" أو "سطو مسلح على بنك أو محطة بنزين"·
أحد الضباط بعد أن قرأ ملفي سألني بطريقته العسكرية: كاتب في "الطليعة"؟!
أخافني أيضا أنا الذي معروف عني الخوف من "العسكر"، وانطبقت علي حينها حالة عادل إمام في مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" عندما قال ببراءة "ليه·· همّه منعوه وإلا إيه؟!"
قلت: نعم كاتب في "الطليعة"، فهز رأسه بصمت ودون تعليق·
* * *
نحن الثلاثة كنا نواصل اللحاق بطارق السريع، الذي يمر بين المكاتب بخفة غزال، وبحيوية يسبقنا على درجات السلم، في كل مرة كنت أنتظر "بوسمرة" الذي تقطعت أنفاسه، ويحتاج الى "شمة" هواء نظيف·
طوال مشوار السلالم، وانتظار المقدّم، والوقوف أمام الكمبيوتر العطلان كنت أتساءل ما علاقة "جنحة الصحافة" بتهم المخدرات، هل للكلمات مفعول قوي كالمخدرات، هل للكلمات قدرة على القتل والطعن ولكاتبها سمعة كسمعة المتعاطين ومروجي الهيروين وعتاة الإجرام؟
تذكرت كتاب الصديق اللبناني يحيى جابر الذي عنونه بـ "كلمات سيئة السمعة"، لأنه عنوان ينطبق على أي كتابة في بلدنا تريد الإصلاح فيدخل صاحبها "الإصلاحية"!
* * *
في آخر المشوار افترقنا نحن الثلاثة بعد "عِشرة" ساعات وتبادل شكاوى، "بوسمرة" تركناه عند مكتب التبصيم، وصاحبنا ذو الجرح الغائر "أبو مخدرات وهروب" سلّمه طارق الى رجال المباحث بعبارات مطمئنة "ما عليك·· راح تطلع·· بسيطة" وكان أثناءها يلتفت ويغمز لي· ثم أخذني الى "الصندوق" ودفعت غرامة جريمتي (جنايتي أو جنحتي·· لا أدري!)·
من بعيد يلوح لي طارق: عاد·· خلنا نشوفك مرة ثانية"·
قلت: يصير خير!
بو سلطان