بول هاريس*:
كتبت "نيلي هاربر لي" واحدا من أبدع كتب الأدب الأمريكي، وصارت شخصيتها وحياتها موضوع فيلمين من أفلام هوليوود· الآن وبعد انزوائها في الظل منذ العام 1994، تعود "لي" الى الضوء وتتحدث بعد أن قادتها صداقتها لتلاميذ المدارس الثانوية الى الظهور مجددا·
بالنسبة للكثير من محبي هذه الكاتبة المشهورة برواية وحيدة هي "أن تقتل طائرا مغردا محاكيا" ربما بدا أنها فارقت الحياة منذ زمن بعيد بعد أن اختفت من الحياة العامة طيلة أكثر من أربعة عقود، ومع ذلك فقد بيع ما يقارب 10 ملايين نسخة من كتابها الذي يتناول "موضوعة" الاضطهاد العنصري في الجنوب الأمريكي، وأصبحت الشخصية المحورية في فيلم "كابوتي" المرشح للأوسكار، ومن المنتظر أن يأخذ طريقه الى دور العرض في هذا الشهر· لقد حذت الكاتبة في حياتها حذو نساك الأدب من أمثال "جي· د· سالنجر" و"توماس بنشون" وسارت على هذا الطريق المطروق، فكل هؤلاء كتبوا كتبا حققت نجاحا مذهلا ثم ابتعدوا عن أضواء الشهرة، وانسحبوا من العالم، وكانت "هاربر لي" لغزا آخر من هذا النمط من الألغاز في عالم الأدب·
وحتى وقت قريب، ظل الأمر كذلك، أي الى أن حدثت أغرب انعطافة في تاريخ الأدب الأمريكي، حين خرجت "لي" من بيتها في مدينة مونروفيل في ولاية الاباما الى الضوء·
لقد ظلت "لي" دائما ترفض طلبات إجراء لقاءات صحافية معها طيلة عقود، ولكنها الآن، وبعد أن بلغت التاسعة والسبعين من عمرها، أغرتها بالخروج من قوقعتها جامعة الاباما في توسكالوزا التي تقيم مسابقة سنوية بين طلبة الصفوف العليا موضوعها كتابة مقالات حول رواية "لي" الشهيرة· وانكشف حاليا أن "لي" كانت تواظب طيلة خمس سنوات على حضور حفلات منح جوائز المسابقة، وتختلط بالطلبة والمدرسين وتتحدث مع عائلاتهم، والتقطت لها صور هناك، ووقعت على اوتوغرافات المعجبين·
في هذا العام، وافقت أخيرا على التحدث الى الصحافة عن هذه المناسبات، وسمحت بإجراء مقابلة وحيدة معها لصحيفة نيويورك تايمز، وهي ربما المرة الأولى التي تحدث منذ العام 1964· ولم تتحدث إلا عن الطلبة ومسابقة كتابة المقال·
جاء في حديثها للصحيفة: "أنهم يشاهدون دائما أشياء جديدة في "أن تقتل طائرا مغردا محاكيا"، والطريقة التي يربطون بينه وبين حياتهم الآن طريقة لا تصدق" ثم أسهبت في مديح منظمي المسابقة، قائلة "إن ما فعله هؤلاء الناس لي أمر رائع"·
إن أي شخص باحث عن استبصار جديد في عمل "لي" الكبير والوحيد في هذا الفيلم، سيصاب بالخيبة، رغم كلماتها الحارة عن الفيلم المأخوذ عن كتابها والذي قام ببطولته "جريجوري بيك" واحتل المرتبة الأولى في الستينات، وذلك حين قالت: "أعتقد أنه واحد من أفضل الترجمات لكتاب الى فيلم"· ولكن الصورة التي رسمتها الصحيفة للمؤلفة لم تكن صورة ناسكة متوحدة، بل كانت بدلا من ذلك صورة امرأة عجوز مرحة أحبت الالتقاء بالطلبة، وكانت حاضرة البديهة وودودة، وتستمتع بالمناسبة، وشاركت الطلبة الضحك، واستعادت ذكرى قصص المناسبات السابقة وهي تضع توقيعها على دفاتر المعجبين، وكشفت إحدى الفائزات في المسابقة، كاثرين برسكو، عن أنها قرأت الرواية ست مرات، وعبرت عن شعورها بالامتنان للقاء أكثر الشخصيات أهمية في حياتها·
ولدت "نيلي هاربر لي" في مونروفيل في العام 1926 في أعماق الجنوب الأمريكي في زمن بلغ فيه الفصل العنصري أقسى درجاته، وكانت فتاة تتشبه بالفتيان، وقارئة نهمة انتقلت في نهاية المطاف الى نيويورك وقد صممت على أن تصبح كاتبة، وجاءتها أول لمسة من لمسات الشهرة حين اشتغلت كمساعدة للكاتب المعروف آنذاك "ترومان كابوتي" في إنجاز روايته المركزية "يوم بارد"، وكانت استكشافا لعمليات قتل متعددة في كانساس، وبعد عمل أشهر طيلة ست سنوات في كتاب أنشأ النوع الأدبي المسمى كتب الجريمة، أهدى كابوتي كتابه الى "لي"، فقد قامت بأعمال السكرتارية لمشروعه هذا، وكان مطمئنا الى قدراتها·
إلا أن "لي" كانت خلال ذلك تعمل على كتابة قصصها هي مستلهمة الجنوب وطفولتها فيه، وهو ما ظهر على شكل كتاب "أن تقتل طائرا···" الذي نشر في العام 1960 وحظي بتقدير عال لم يكن متوقعا من قبل المؤلفة على الأقل·
يروي الكتاب حكاية رجل أسود اتهم زورا باغتصاب امرأة بيضاء، وكانت التهمة تعبيرا عن باعث عنصري· وتروى الحكاية على لسان ومن منظور طفلة بيضاء كان والدها اتيكوس فنش، هو المحامي الذي دافع عن الرجل البريء توم روبنسون·
وقد وضعت "لي" أحداث روايتها في مدينة "ميكوم" في الاباما، مستفيدة بوضوح من تجربتها في الجنوب، ففي طفولتها، كانت أمريكا تهتز بسبب قضية محاكمة تسعة رجال سود بتهمة اغتصاب امرأتين من البيض، أما عنوان الكتاب فقد جاء من حديث فينش المحامي لأولاده حين قال لهم "إذا استطعتم قتل الطيور الثرثارة الوقحة طيور أبو زريق، فافعلوا، ولكن تذكروا أن قتل طائر مغرد ··· محاكي خطيئة"، ومضمون هذا القول هي أن طيور أبو زريق هي طيور متنمرة ومؤذية، ولكن الطيور المغردة المحاكية لا تفعل شيئا سوى أنها "تغني لنا من قلبها"، وهكذا فهي، مثل المتهم روبنسون، رمز للبراءة في عالم مذنب·
لقد احتل الكتاب حال صدوره المرتبة الأولى على قائمة أكثر الكتب مبيعا، وفاز بجائزة بولتزر، وتحول الى فيلم ناجح، أصبح أيضا من الأفلام الكلاسيكية، وقال عنه البروفيسور "جيفري وينسترك" من جامعة ميتشيان" إن الكتاب يحتل مكانة محترمة في قائمة أعمال الأدب الأمريكي العظيمة"·
إلا أن النجاح السريع أصاب "لي" بالرعب، وفي لقاء مفصل من لقاءاتها في العام 1964 تحدثت ببصيرة عن تأثير الشهرة السريعة لشخص يُنظر إليه كصديق حميم لكابوتي الذي كان في ذروة مجده: "لقد كنت آمل أن أحظى بالقليل من التشجيع، ولكنني حصلت على كل شيء، فكان هذا مخيفا بقدر ما كان سريعا يشبه الموت الرحيم"·
ولكن مع اختفاء "لي" من الحياة العامة، أصبح كتابها سجلا للجنوب الأمريكي ذا هيبة كبيرة، وتم تدريسه لكل طلبة الثانويات الأمريكية تقريبا، وأصبح موضوعا يتكرر تناوله في المحاضرات والخطابات، وتم تبنيه كمسرحية تجوب البلد، ولم يفارق الحياة الأمريكية العامة، بوصفه ضميرا أدبيا في قضية العدالة والمساواة بين الأجناس، ومع ذلك اختفت "لي"، ولم تكتب رواية أخرى أبدا، وإن كانت قد ساهمت ببضع مقالات صحافية في أوائل الستينات، ثم لا شيء تقريبا طيلة حياتها· ويعتقد بعض الناس أنها، بكل بساطة، قالت كل شيء كان عليها أن تقوله عن الموضوع الأكثر أهمية بالنسبة لها، أي طفولتها في الجنوب، فالمؤلفون الكبار، كما قال "وينسترك" يكون لديهم أحيانا مجرد فكرة واحدة، وحين يعبرون عن تلك الفكرة، ينتهون ككتاب"·
"لي" الآن تعود بنفسها الى الأضواء، فقد حظي فيلم "كابوتي" بنجاح كبير في أرجاء الولايات المتحدة، وبخاصة بعد أن رشح بطله الممثل "فيليب سيمور هوفمان" لجائزة الأوسكار عن دوره الرئيس في هذا الفيلم، وسيبدأ توزيع هذا الفيلم عالميا في شهر فبراير الجاري، وهناك فيلم آخر، محوره شخصية وحياة "لي" وتقوم بدورها "ساندرا بلوك" سيتم إنجازه في وقت لاحق من هذا العام، ولكن ومع كل هذا، فمن المحتمل أن أي شخص يتوقع خروج "لي" خروجا كاملا من عزلتها سيصاب بالخيبة، فهي لم تتحدث الى صحيفة "نيويورك تايمز" إلا من حفلة جوائز جامعة الاباما، وتذمرت مازحة من أن الكثير من وقتها الآن يمضي في كتابة رسائل رفض ردا على طلبات إجراء مقابلات على خلفية فيلم "كابوتي"· وعلى رغم أنها ترد الطلبات، إلا أنها تكتب كل رسالة رفض منفردة، وحين سئلت لماذا لا ترسل ردا واحدا على مجموع الطلبات من وسائط الإعلام، قالت إن رسالة مثل هذه ستقول كلمتين ببساطة: "يا للجحيم، لا"!
*عن الأوبزرفر - 5 فبراير 2006