· الحركة الصهيونية كانت لها فروع سرية في بغداد والبصرة والعمارة والحلة والديوانية وأربيل وكركوك
· المؤسسات اليهودية الاقتصادية والاجتماعية ازدهرت في الحكم العثماني
· البريطانيون أشعلوا أحداث 1941 في بغداد لخلق ذريعة لاحتلال العاصمة
· الإسرائيليون رفضوا السماح للمواطنين الفلسطينيين بسقاية أشجار البرتقال فماتت أمام أعينهم
نعيم جلعادي:
يقول إليكسيس دي توكوفيل إن "من الأسهل على العالم أن يتقبل كذبة بسيطة من أن يتقبل حقيقة معقدة"· ويبدو أن العالم وحتى العالم العربي - الى حد ما - تعامل بهذا المنطق مع الصراع العربي الإسرائيلي، وتبنى عددا من الأكاذيب الإسرائيلية تاركا الحقائق المعقدة لهذا الصراع لنخبة من المؤرخين·
الكذبة الأولى، وفقا لنعيم جلعادي الذي تكتسب شهادته أهمية كبيرة ليس لكونه عراقيا يهوديا، بل لأنه شارك في صنع الحدث من خلال انتمائه للحركة الصهيونية السرية، إن سكان فلسطين خرجوا من ديارهم طواعية ودون إكراه، والحقيقة - كما يرويها جلعادي - أن الصهاينة لجؤوا الى منع الفلسطينيين من العمل في مزارعهم من أجل كسب قوت يومهم، ثم قاموا بتسميم مصادر المياه والآبار وتوجوا هذه الأساليب بالطرد الجماعي للسكان بقوة السلاح·
والكذبة الثانية، أن الدول العربية وخاصة العراق قامت بطرد اليهود· والحقيقة أن الحركة الصهيونية "أقنعت" يهود الدول العربية بالهجرة الى فلسطين بالحيلة تارة وبتفجير القنابل في تجمعاتهم، تارة أخرى·
ويروي جلعادي كيف تآمر زعماء الصهيونية والمسؤولون البريطانيون، بتواطؤ من عبدالإله ونوري السعيد على تهجير يهود العراق الى فلسطين·
أما الكذبة الثالثة، فهي الترويج الى أن إسرائيل ظلت على الدوام ترغب في السلام بينما ظل العرب، وخاصة مصر عبدالناصر، يريدون الحرب وإلقاء اليهود في البحر! والحقيقة، أن الزعماء العرب ما انفكوا منذ قيام الدولة العبرية، يحاولون كسب ودها وإرسال المبعوثين الذين يحملون رسائل السلام لها بالسر والعلن، وكانت إسرائيل ترفض هذه العروض باستمرار·
ويذكر جلعادي كيف كان عبدالناصر يرسل المبعوث تلو المبعوث لبن غوريون للبوح برغبته بالسلام، بينما كان رد بن غوريون شن الحملات الإعلامية التي كان يصف فيها عبدالناصر بـ "هتلر الشرق الأوسط"! وما أشبه الليلة بالبارحة، حيث تتسابق الدول العربية على التطبيع ويتبنى العرب - مجتمعون - مبادرة سلمية مع إسرائيل (على اعتبار أن السلام خيارهم الاستراتيجي) ثم لا يجدون سوى التجاهل· وكذا كان حال ياسر عرفات والقادة الفلسطينيين الذين كلما قدموا التنازلات نبذتهم إسرائيل وأعلنت أنه لا يوجد شريك فلسطيني للسلام···
أحداث عام 1941
وإذا كانت عائلتي في العراق لم تتعرض بالذات الى الاضطهاد ولم أعرف الحرمان باعتباري أحد أفراد الأقلية اليهودية، كما قلت، فما الذي قادني الى أن أصبح عضوا في الحركة الصهيونية السرية؟ للإجابة عن هذا السؤال، من المهم ذكر السياق الذي حدثت فيه مجزرة الأول من يونيو عام 1961 حين لقي مئات عدة من اليهود العراقيين مصرعهم في أحداث شغب شملت ضباطا في الجيش العراقي· لقد كنت في الثانية عشرة من عمري آنذاك، وكان بعض الذين قتلوا من أصدقائي· لقد شعرت بغضب وقلق شديدين·
وما كنت أجهله آنذاك أن أحداث الشغب تلك كانت بتحريض من البريطانيين والقيادة العراقية الموالية لبريطانيا·
ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، آل العراق الى الانتداب البريطاني· وقد جيء بالأمير فيصل من مكة ليصبح ملكا على العراق عام 1921 تقديرا لوالده الشريف حسين الذي ثار على السلطان العثماني وتحالف مع بريطانيا· وقد عين عدد من اليهود في مناصب رفيعة بحكومة الأمير، منها وزير الاقتصاد· وكانت الكلمة الفصل لا تزال بيد بريطانيا، سواء في القضايا المحلية أو الخارجية·
لقد أدى الموقف البريطاني المؤيد للصهاينة في فلسطين الى إثارة العداء المتنامي للصهاينة في العراق، وفي بقية الدول العربية·
لقد أشار السفير البريطاني في بغداد سير فرانسيس همغري في عام 1934، أنه في حين كان يهود العراق قبل الحرب العالمية الأولى يتمتعون بمزايا أفضل من أي أقلية أخرى في البلاد، ولكن منذ ذلك الحين "بدأت الصهيونية بزرع بذور الشقاق بين اليهود والعرب، وتنامت مشاعر المرارة بين الطرفين بشكل لم تعهده البلاد من قبل"·
مات الملك فيصل عام 1933 وخلفه ابنه غازي الذي مات بحادث دراجة نارية عام 1939، فآل الحكم الى ابنه فيصل الثاني الذي لم يكن يتجاوز عامه الرابع، وعين خاله عبدالإله وصيا على العرش· واختار عبدالله، نوري السعيد رئيسا للوزراء· وكان السعيد مؤيدا للبريطانيين، ولكن تنامي مشاعر العداء لبريطانيا أجبرته على التنحي في مارس 1940 بواسطة أربعة من كبار ضباط الجيش الذين طالبوا باستقلال العراق عن بريطانيا، وضغطوا على عبدالإله من أجل تعيين رشيد علي الكيلاني رئيسا للوزراء، وكان الأخير زعيما لحزب "الأخوة الوطنية"·
وفي عام 1940 كانت بريطانيا تتعرض لهجوم ألماني شديد، فرأى الكيلاني ومعه جماعة الضباط الأربعة (أو مجموعة الصباغ) التي كانت تعرف بـ مجموعة "المربع الذهبي" في ذلك فرصة للتخلص من البريطانيين مرة واحدة والى الأبد· وبدؤوا يجرون مفاوضات، بحذر، مع الألمان من أجل تقديم التأييد لهم، الأمر الذي دفع بعبدالإله الى عزل حكومة الكيلاني في يناير 1941· ولكن ضباط "الميدان الذهبي" نجحوا في إعادة الكيلاني رئيسا للحكومة في شهر أبريل·
هذا الأمر أثار استفزاز البريطانيين فأرسلوا قوة عسكرية الى البصرة في الثاني عشر من أبريل 1941، وكان عدد سكان الجالية اليهودية في البصرة يناهز الـ 30 ألف نسمة· وكان معظمهم يعمل في الاستيراد والتصدير والصرافة وتجارة التجزئة وكعمال في المطارات وسكك الحديد أو موظفين كبار في الحكومة·
حرب إثنية
وفي اليوم نفسه، أبلغ أنصار الوصي الموالي لبريطانيا زعماء الجالية اليهودية بأن الوصي عبدالإله يريد مقابلتهم· وكان من تقاليد أبناء الجالية أن يحملوا معهم الورود لدى مقابلة الوصي· ولكن على العكس مما كان يحدث دائما، أنزلتهم الحافلات التي كانت تقلهم أمام القصر حيث كان الجنود البريطانيون يرابطون·
وفي اليوم التالي، ظهرت صورهم في الصحف تحت عنوان: "يهود البصرة يقابلون القوات البريطانية بالزهور"· وفي اليوم التالي (13 أبريل 1941) قامت مجموعة من الشباب العربي الغاضب بالتخطيط لأعمال انتقامية ضد اليهود، فعلم وجهاء البصرة من المسلمين بالخطة وعملوا على تهدئة الوضع· وعلم في وقت لاحق أن عبدالإله لم يكن في البصرة أصلا، وأن المسألة لم تكن سوى عمل استفزازي خطط له مؤيدو بريطانيا من أجل إشعال حرب إثنية من أجل إعطاء القوات البريطانية ذريعة للتدخل·
وواصل البريطانيون حشد المزيد من القوات في محيط البصرة· وفي السابع من شهر مايو 1941، احتلت وحدة بريطانية تتألف من جنود هنود منطقة العشار ذي الغالبية اليهودية· وبدأ الجنود الذين كان يقودهم ضباط بريطانيون بعمليات سلب ونهب شملت الكثير من المحال التجارية· وقاموا بكسر أبواب المساكن الخاصة واقتحامها، وسجلت حالات محاولة اغتصاب·
وقام السكان من مسلمين ويهود بالدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم باستخدام المسدسات والبنادق القديمة، ولكن هذه الأسلحة لم تكن ذات فاعلية أمام بنادق تومي الحديثة التي كان يحملها الجنود البريطانيون·
وعلم بعد ذلك، أن الجنود ذوي الأصول الهندية تصرفوا بموافقة ضمنية - إن لم يكن مباركة - من الضباط البريطانيين· (ولا بد من تذكر أن الجنود الهنود، وخاصة في وحدة "غورخا" كانوا معروفين بانضباطيتهم العالية ولذلك كان من الصعب تخيل أن يتصرفوا بهذه الوحشية دون أوامر)· ومن الواضح أن الهدف البريطاني كان خلق الفوضى وتشويه صورة النظام القومي في بغداد، وبالتالي إعطاء القوات البريطانية المبرر للتقدم الى العاصمة لإسقاط حكومة الكيلاني·
وفعلا، سقطت بغداد في الثلاثين من مايو وفرّ الكيلاني الى إيران برفقة ضباط "الميدان الذهبي"· وأوردت محطات الإذاعة التي يديرها البريطانيون تقارير على أن عبدالإله سوف يعود الى المدينة وأن آلاف اليهود وغيرهم يخططون للاحتفال باستقباله· وما أثار الشباب العراقيين على اليهود أكثر من أي شيء آخر، كان المذيع يونس بحري في محطة إذاعة برلين، الذي أورد باللغة العربية أن يهودا من فلسطين شاركوا في القتال الى جانب البريطانيين ضد الجنود العراقيين بالقرب من مدينة الفلوجة· وكان التقرير زائفا·
وفي الأول من يونيو، حدث اشتباك غير مسلح في بغداد بين مجموعة من اليهود الذين ما زالوا يحتفلون بأحد الأعياد اليهودية وعدد من الشبان العراقيين الذين اعتقدوا أن اليهود يحتفلون بعودة الوصي على العرش الموالي لبريطانيا·
وفي ذلك المساء، أوقفت مجموعة من المواطنين العراقيين حافلة وأنزلوا الركاب اليهود وقتلوا أحدهم وأصابوا آخر بجروح خطيرة·
وفي صباح اليوم التالي، قام ثلاثون شخصا من أفراد الجيش والشرطة بفتح نيران أسلحتهم في شارع الأمين الذي تعود معظم محلات الذهب والبقالة والخياطة فيه لليهود· وبعد ذلك قام عدد من الرعاع بمهاجمة منازل اليهود في المنطقة باستخدام السكاكين والهراوات·
الشريحة الأضعف
واستمرت أعمال الشغب حتى يوم الاثنين الثاني من يونيو، وانبرى عدد من المسلمين في تلك الأثناء للدفاع عن جيرانهم اليهود بينما تمكن يهود آخرون من حماية أنفسهم بأنفسهم· ولكن تلك الأحداث أسفرت عن مقتل 124 شخصا وإصابة أكثر من 400 آخرين بجروح، وفقا لتقرير مندوب الوكالة اليهودية الذين كان في العراق في ذلك الوقت، ولكن تقديرات أخرى أقل مصداقية، أوردت أن عدد القتلى وصل الى 500 شخص وعدد الجرحى الى ما بين 650-2000 شخص، وتعرض ما بين 500-1200 محل تجاري وأكثر من ألف منزل لأعمال النهب والسلب·
فمن كان وراء أعمال الشغب في الحي اليهودي؟ يزعم يوسف مئير أحد أبرز النشطاء في الحركة الصهيونية السرية آنذاك والذي كان يعرف بالاسم "يهوشافات" يزعم أن الجهة التي كانت تقف وراء الأحداث هي بريطانيا· ويجادل مئير الذي يعمل الآن في وزارة الدفاع الإسرائيلية أنه من أجل أن يبدو الوصي وكأنه عائد كمنقذ للبلاد ومرس للقانون والنظام، قام البريطانيون بإثارة أعمال الشغب ضد الشريحة الأضعف في المدينة، أي اليهود، وليس من المفاجئ أن تنتهي أعمال الشغب فور دخول الجنود الموالين للوصي على العرش الى العاصمة·
إن تحقيقاتي كصحافي تقودني الى الاعتقاد بأن مئير كان صائبا في تحليله· وبالإضافة الى ذلك، أعتقد أن مزاعمه لابد أنها تستند الى وثائق موجودة في وزارة الدفاع الإسرائيلية، وهي الجهة التي نشرت كتابه· ومع ذلك، وحتى قبل صدور كتابه كان لدي تأكيد مستقل من رجل قابلته في إيران في أواخر الأربعينات·
والشخص اسمه مايكل تيموسيان وهو يهودي أرمني· وحين قابلته كان يعمل كممرض في شركة النفط البريطانية - الإيرانية في عبادان جنوب إيران· في الثاني من يونيو 1941، كان يعمل في مستشفى بغداد، حيث استقبل الكثير من ضحايا أعمال الشغب· وكان معظم الضحايا من اليهود·
وقال لي تيموسيان إنه كان مهتما بصورة خاصة باثنين من الضحايا اللذين لفت نظره سلوكهما، وكان أحدهما قد أصيب بعيار ناري في كتفه والآخر في ركبته اليمنى· وبعد انتزاع الرصاص من جسديهما، حاول الطاقم الطبي تغيير ملابسهما التي كانت ملطخة بالدماء، لكن الرجلين قاوما هذه المحاولات مدعين أنهما أخرسان، على الرغم من أن التجارب أثبتت أنهما يسمعان جيدا· ومن أجل تهدئتهما تم حقنهما بالمخدر حتى ناما، فقام تيموسيان بتغيير ملابسهما فاكتشف أن أحدهما كان يحمل بطاقة تعريف معلقة في عنقه من النوع ذاته الذي يستخدمه الجنود البريطانيون، بينما كان في جسد الثاني وشم بالأحرف الهندية مع رسم للسيف التقليدي لوحدة "غورخا"·
وفي اليوم التالي، حين ذهب تيموسيان الى العمل، علم أن ضابطا بريطانيا واثنين من الوحدة الهندية قد جاؤوا الى المستشفى في ساعة مبكرة من الصباح، وسمع طاقم موظفي المستشفى الجنود يتحدثون مع الرجلين اللذين لم يكونا أخرسين كما زعما· فقد وقفا لتحية الزوار وغادرا معهم، دون التوقيع على إذن الخروج·
واليوم، فإنه ليس لدي شك بأن أعمال الشغب المناهضة لليهود عام 1941 كانت من تدبير البريطانيين من أجل تحقيق أهداف جيوسياسية· ومن المؤكد أن ديفيد كيمحي كان في موقع يمكنه من معرفة الحقيقة، وقد تحدث علانية عن تورط بريطانيا في تلك الأحداث· لقد عمل كيمحي مع المخابرات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية ثم مع الموساد بعد الحرب·
ثم أصبح في وقت لاحق مديرا عاما لوزارة الخارجية الإسرائيلية· وكان في منصبه هذا عام 1982 حين تحدث أمام المعهد البريطاني للشؤون الدولية في لندن·
ورد على أسئلة معادية حول الغزو الإسرائيلي للبنان ومجازر صبرا وشاتيلا في بيروت، بشكل هجومي مذكرا الحضور بأن وزارة الخارجية البريطانية لم تعبأ كثيرا حين شاركت وحدات الـ "غورخا" بعمليات قتل أكثر من 500 يهودي في شوارع بغداد عام 1941·
تفجيرات 50-1951
الأحداث المناهضة لليهود عام 1941 فعلت ما هو أكثر من خلق الذريعة للبريطانيين لدخول بغداد من أجل إعادة الوصي على العرش الموالي لبريطانيا ورئيس وزرائه الموالي أيضا لبريطانيا نوري السعيد الى السلطة· فهي قد أعطت الصهاينة في فلسطين الحجة لإنشاء الحركة الصهيونية السرية في العراق، وخاصة في بغداد أولا، ثم في مدن كالبصرة والعمارة والحلة والديوانية وأربيل وكركوك·
بعد الحرب العالمية الثانية تعاقبت سلسلة من الحكومات لفترات قصيرة على العراق· وقد أدى انتصار الصهيونية في فلسطين وخاصة مجزرة دير ياسين الى تعزيز قوة الحركة المناهضة لبريطانيا في العراق· وحين وقعت الحكومة العراقية اتفاقية جديدة للصداقة مع بريطانيا في يناير 1948، اندلعت أعمال الشغب في كل أرجاء البلاد· فاضطرت الحكومة الى التراجع بسرعة عن الاتفاقية وطالبت الحكومة العراقية، بريطانيا بسحب البعثة العسكرية البريطانية التي كانت تدير الجيش العراقي طوال 27 عاما·
وفي وقت لاحق من عام 1948، أرسلت بغداد كتيبة من الجيش العراقي لمحاربة الصهاينة· وحين أعلنت إسرائيل استقلالها في مايو 1948، أغلق العراق خط أنابيب النفط الذي يغذي مصفاة حيفا· وكان عبدالإله لا يزال وصيا على العرش، وعاد نوري السعيد رئيسا للوزراء· وكنت في سجن أبو غريب عام 1948 وبقيت فيه حتى هربت الى إيران عام 1949·
وبعد ستة أشهر وتحديدا في التاسع عشر من مارس 1950 انفجرت قنبلة في المركز الثقافي الأمريكي في بغداد وأدت الى أضرار مادية وإصابة أشخاض عدة بجروح· وكان المركز المكان المفضل للشباب اليهودي للالتقاء فيه·
أما القنبلة الأولى التي ألقيت مباشرة باتجاه اليهود فكانت في الثامن من أبريل 1950 وألقيت من سيارة مسرعة على مقهى الدار البيضاء حيث كان اليهود يحتفلون هناك بعيد الفصح· وأدى الانفجار الى إصابة أربعة أشخاص بجروح بليغة· وفي تلك الليلة وزعت منشورات تدعو اليهود الى الرحيل عن العراق فورا·
وفي اليوم التالي، تدفق الكثير من اليهود، لاسيما الفقراء الذين ليس لديهم ما يخسرونه، الى مكاتب الهجرة لإلغاء جنسياتهم والتقدم بطلب الحصول على إذن للسفر الى إسرائيل·
وقد اضطرت الشرطة لفتح مكاتب تسجيل في المدارس والكنس اليهودية لاستيعاب الأعداد الكبيرة من المراجعين·
وفي العاشر من مايو ألقيت قنبلة على شركة سيارات يملكها مواطن يهودي مما أدى الى تدمير جزء من المبنى، لكن لم تقع إصابات· وفي الثالث من يونيو 1950، ألقيت قنبلة يدوية أخرى من سيارة مسرعة على حي البتاوين في الباب الشرقي في بغداد EL-Batawin الذي يقطنه أثرياء يهود ومواطنون عراقيون من الطبقة الوسطى، ولم يصب أحد بأذى· لكن النشطاء الصهاينة أرسلوا برقية الى إسرائيل يطلبون زيادة حصة العراق من المهاجرين اليهود الى إسرائيل·
وفي فجر الخامس من يونيو انفجرت قنبلة بالغرب من بناية ستانلي شاشو المملوكة لمواطن يهودي في شارع الرشيد، مما أدى الى وقوع أضرار مادية فقط·
في الرابع عشر من يونيو 1951 وفي تمام الساعة السابعة صباحا، ألقيت قنبلة يدوية على مجموعة من اليهود، خارج كنيس "شيم توف"، وأصابت المتفجرات كابلا للضغط العالي، مما أدى الى إصابة ثلاثة يهود بالصعقة الكهربائية أحدهم الصبي اسحق الماشر وإصابة ثلاثين آخرين بجروح· وعقب هذا الحادث أصبح اليهود يغادرون البلاد بمعدل 600-700 شخص كل يوم·
حقيقة مريعة
وما زالت الدعاية الصهيونية تصر على أن عراقيين مناهضين لليهود هم الذين كانوا يقفون وراء مثل هذه الحوادث لدفع اليهود الى الهجرة· ولكن الحقيقة المريعة هي أن تلك القنابل التي أدت الى مقتل وبتر أطراف يهود عراقيين وتدمير ممتلكاتهم، كانت من تدبير وتنفيذ اليهود الصهاينة·
وأعتقد أن من أهم الوثائق في كتابي، هي نسخ من منشورين نشرتهما الصهيونية السرية وتدعو فيهما اليهود لمغادرة العراق· وتحمل إحداهما تاريخ السادس عشر من مارس 1950، والأخرى الثامن من أبريل 1950·
والفارق بين المنشورين حاسم للغاية· ففي حين أن كليهما يشيران الى تاريخ النشر، إلا أن منشور الثامن من أبريل وحده يشير الى الوقت تحديدا عن ذلك اليوم، وهو الساعة الرابعة مساء، فلماذا ذكر التاريخ؟ فمثل هذا التحديد في الوقت لم يكن مسبوقا، حتى أن قاضي التحقيق سلمان البياتي وجد في ذلك مثارا للشك· فهل أراد كاتبو المنشور إعطاء الإشارة الى أن قنبلة سوف تنفجر بعد خمس ساعات؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف عرفوا بموعد التفجير؟ وخلص القاضي الى وجود صلة بين الحركة الصهيونية السرية ومنفذي الاعتداءات بالقنابل على مصالح يهودية·
وكان ذلك أيضا، ما خلص إليه ويلبر كرين إيفلاند المسؤول الرفيع السابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية "سي· آي· أيه" الذي أتيحت لي فرصة الالتقاء به في نيويورك عام 1988· ففي كتابه بعنوان "حبال من الرمل" الذي عارضت الوكالة نشره أورد إيفلاند ما يلي: "في محاولة لتصوير العراقيين على أنهم معادون للولايات المتحدة ومن أجل ترويع اليهود، قام الصهاينة بزرع القنابل في مكتبة الخدمات الإعلانية الأمريكية في بغداد وفي الكنس اليهودية، وسرعان ما بدأت تظهر المنشورات التي تحث اليهود على الفرار الى إسرائيل"· ويضيف: "وعلى الرغم من تزويد الشرطة العراقية - لاحقا - لسفارتنا بالأدلة التي تظهر أن تفجيرات المكتبة والكنس، إضافة الى حملة المنشورات المناهضة لليهود والأمريكيين، كانت من تدبير الحركة الصهيونية، كان معظم العالم يصدق التقارير أن الإرهاب العربي دفع باليهود الى الفرار وأن الحركة الصهيونية أنقذتهم"·
ولم يسهب إيفلاند في الأدلة التي تربط الصهاينة بالهجمات ضد اليهود العراقيين، لكنني فعلت ذلك في كتابي· ففي عام 1955 على سبيل المثال اجتمعت لجنة من المحامين اليهود من أصول عراقية لدراسة مطالب اليهود العراقيين الذين لا تزال لهم أملاك في العراق، وقد أسر لي محام يهودي معروف طلب مني عدم ذكر اسمه، بأن الفحوص المخبرية في العراق أثبتت أن المنشورات المناهضة للأمريكيين التي عثر عليها في المركز الثقافي الأمريكي طبعت بالآلة الكاتبة نفسها التي طبعت عليها منشورات الحركة الصهيونية قبيل تفجيرات الثامن من أبريل·
وأظهرت الاختبارات أيضا أن نوعية المتفجرات المستخدمة في هجوم بيت لاوي تطابق تلك التي ضبطت في حقيبة يهودي عراقي يدعي يوسف بصري، وقد قتل بصري وهو محام، مع صانع أحذية يهودي يدعي شالوم صالح أمام المحكمة لصلتهما بهجمات ديسمبر 1951 ونفذ فيهما حكم الإعدام خلال شهر واحد، وكان كلا الرجلين عضوين في الجناح العسكري للصهيونية السرية "هاشورا"· (Hasura) وكان صالح قد اعترف أنه وبصري ورجل ثالث يدعي يوسف هابازا، هم الذين نفذوا الهجمات·
ومع حلول موعد تنفيذ حكم الإعدام في شهر يناير 1952، غادر معظم يهود العراق الـ 125 ألفا الى إسرائيل باستثناء ستة آلاف شخص، ثم قام نوري السعيد الموالي للبريطانيين والصهاينة بتجميد ممتلكاتهم بما في ذلك أموالهم النقدية، بل إن اليهود الذين لم يرغبوا بالتسجيل للهجرة وكانوا خارج البلاد، فكان يفرض عليهم العودة خلال فترة محددة وإلا فقدوا جنسياتهم العراقية!
وهكذا تم اقتلاع الجالية اليهودية القديمة والمزدهرة وذات الثقافة العالية وتم ترحيل أبنائها الى أرض يهيمن عليها يهود أوروبا الشرقية الذين لم تكن ثقافتهم أجنبية فحسب، بل كانوا يكنون مشاعر الكراهية ليهود العرب·
الصورتان: نموذجان من المنشورات التي وزعتها الحركة الصهيونية السرية وتحض فيها اليهود العراقيين على الهجرة الى إسرائيل، الأول باللغة العربية تصعب قراءته، والثاني باللغة العبرية، ترجم الى اللغة الإنجليزية (ومنها الى العربية)
السبت / الثامن من أبريل 1950 الساعة الرابعة مساء:
المصدر: COURTESY THE LINK
VOLUME 31, ISSUE 2
" APRIL_MAY,1998"