الــحصان
محمد العريشية
(1)
كان المهندس يحمل في يده الخارطة ويتطلع الى النخلة، عندما لمح العجوز واقفا خلفها بقامته الفارعة ووجهه ذي التقاطيع الحادة صامتا وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة· كان يرتدي قميصا عربيا فضفاضا ويعتمر معرقة بيضاء سود حوافها العرق· كان وجهه مثلما رآه بالأمس يلوحه الحزن والتفكير، ولم تكن عيناه - وهذا شيء استوقف المهندس - غائرتين وإنما كانتا مشرقتين كما لو أنهما لطفل· وفكر: هل الأرض· لكنه لم يكمل تفكيره إذ رن هاتفه الجوال فجأة، مد يده نحو جيبه أخرج الهاتف وأعاده الى جيبه الى أن توقف الرنين وهو لا يزال يحملق في عيني العجوز وعندما انفرجت شفتاه ليقول شيئا صلّ هاتفه مجددا فالتقطه دون أن ينظر الى الرقم، وقبل أن تنتهي الرنة الثانية وتساءل·
- نعم؟
ثم زمجر قائلا:
- قلت لكم···
لكنه توقف عن الكلام حين فاجأه صوت زوجته الطفولي:
- أين أنت ولماذا لم تكلمني؟
شَخَصَ ببصره الى السماء لبرهة وأعاد الهاتف الى جيبه، وضع ذراعه على باب السيارة المفتوح وعيناه تحملقان في وشم - يتخذ شكل فأس - على صدغ العجوز وهو واقف يتأمل سحبا عابرة· استدار العجوز ورمق المهندس ثم تجولت عيناه مرة أخرى في السماء وقال بعد ذلك·
- ستقيم هنا منتجعات سياحية؟!· هراء، إنه في غاية الهراء أيها المهندس· لكن قبل الشروع في ذلك ينبغي أن تضع في حسابك اعتبارات شتى، أولا لن يمسسك أحد بسوء لكنك لن تنجو··
- اسكت·
قال المهندس مقاطعا إياه بنبرة لا تخلو من قسوة·
ابتسم العجوز وقال·
- لست الأول، لقد حاول قبلك كثيرون ليستحوذوا على هذه الأرض لكنهم ماتوا، إذ إن الحصان يعود الى مكانه ليلا·
تطلع إليه المهندس وخيل إليه أنه قال·
- اسكت·
بيد أنه لم يسمع صوته لأنه منذ أن تولى منصبه الجديد لم يهمس لأحد حتى زوجته كانت تتلقى كتلة من الشتائم إذا ما كررت على مسامعه ما دأبت على تسميته بـ (بالتغير المفاجئ) الذي وفقا لها قد قلب حياتها رأسا على عقب·
وضع المهندس رأسه بين يديه وضغط بقوة ثم مرر يده على وجهه ناظرا للعجوز بحقد، إذ ساوره الكثير من الغضب لأنه لم يتمكن من الرد بعنف على ترهات العجوز وما جعل رأسه يغلي كمرجل هو عدم لطمه على وجهه أو أن يضربه ضربا مبرحا حتى يشارف على الموت، وما زاد طين غضبه بلة أنه كلما كان يود أن يهدر في وجهه ويتقيأ سيلا من الشتائم والسباب يجف الكلام في حلقه ما إن يلهبه العجوز بسياط نظراته القاسية وابتسامته الساخرة·
دار العجوز حول المهندس مرتين وهو ينظر إليه من حذائه الأسود الطويل ذي الحدبة الحديدية في موضع الإبهام حتى قبعته ثم قرفص وقال:
- جذورنا تضرب عميقا في هذه الأرض، لأكثر من خمسة مئة عام، سنعود إليها يوما لينبت غيرنا، لكن أنت قد لا تعرف من أين ينحدر ماء ترائبك·
- اصمت·
زمجر المحقق وهو ينظر ساهما الى السماء·
ابتسم العجوز بصخب وتهكم وهو يحملق في وجه المهندس ثم رمق عقربا توارى خلف إطار السيارة الأمامي ليقول بعد ذلك·
- سأصمت أيها المهندس لو أنكم تتمكنون من إخماد لهب أطماعكم· هل فكرت في ذلك يوما·
ثم هز رأسه نافيا وأرفد:
- يحتاج هذا الى قلب بشري ينبض ويحس بآلام الآخرين، انظر قد لا نملك ما تملك، إذ يمضي اليوم ومن بعده اليوم ونحن لا نملك فلسا أحمر لكن لنا تفكيرنا الذي يخصنا وأسلوب حياتنا، ثم قل لي بربك الى أين سنذهب بقبور أجدادنا؟·· اسمع إن الذي ينبغي أن يعرفه أمثالك هو أننا ما زلنا نثق في معتقداتنا ولا تزال هي من خلال تمسكنا بها وعضنا عليها بالنواجذ تضفي علينا هالتها وتحمينا·
- اصمت أيها العجوز·
صاح المهندس مرة أخرى·
- لماذا أصمت أيها المهندس أم أن كلامي لامس جزءا من قلبك لم يصله بلل الجشع بعد؟·· قلت لك لن يؤذيك بشر منا لكن سيصيبك مكروه إذا ما قررت التوغل في أطماعك··
ثم نظر إليه طويلا وأضاف مبتسما:
- هنا في هذا المكان يكمن السر، هذا المكان تحديدا لا نتجرأ على الاقتراب منه حتى ولو بغرز عمود في الأرض ولم يثبت منذ أن بلغت مرحلة الإدراك أن شغل هذا المكان كائن بشري، إذ لي من العمر سبعون سنة والى يوم الناس هذا وهو منذور للحصان، وإذا كنت لا تصدقني ستراه الليلة وإذا رأيت الحصان سيقتلك في الحال· هذا ما نعرفه أيها المهندس أكثر من معرفة أصابعنا·
ثم هز كتفيه وتابع:
- لكن أنت ومن على شاكلتك لا تأخذون أقوالي على محمل الجد إلا بعد أن يحملكم الى حتفكم وفي تلك اللحظة لن ينفعك الندم وستهيل الأيام رمال النسيان على ما سيحدث لك ليأتي غيرك وغيرك وغيرك ليواجهوا المصير نفسه·
ثم وقف فجأة وقال·
- سأذهب الآن وفي الصباح ستشرق الشمس لتحلل جثتك·
(2)
عندما حل الظلام خرج المهندس ورجاله من الخيمة كان يحمل مصباحا وساروا على مهل بخطوات وئيدة نحو دغل من أشجار النخيل وعلى مسافة من الأشجار وقف المهندس وقال:
- انتظروني هنا ولا تتحركوا وإذا سمعتم صوت الرصاص عودوا أدراجكم الى الخيمة، أريد أن أستنشق رائحة الأعشاب بعد أن أقتل الحصان اللعين لأستعيد القليل من ذاكرة طفولتي·
تكوّم الرجال حول بعضهم ومشى المهندس نحو الدغل على رؤوس أصابعه وكلما أوغل في المشي كلما كان المكان يعبق برائحة بول نفاثة، أشعل مصباحه وأخذت بؤرة ضوئه الصفراء تنتقل من نخلة الى أخرى وهو يتقدم بحذر ثم التفت فجأة بمزيد من الحذر وأمسك بمسدسه عندما سمع وقع خطوات خلفه لكنه دس المسدس في جيب معطفه ما إن أقبل نحوه قنفذ وحين سلط عليه ضوء مصباحه تحول الى كرة من شوك، تركه لشأنه وشق طريقه وسط الأعشاب، وعندما شعر بالإجهاد هم بالجلوس عند النخلة سمع صوتا من خلفه يشبه المواء، داهمته رغبة في الركض والابتعاد نهائيا بيد أنه عدل عن ذلك ووجه بؤرة مصباحه في اتجاه مصدر الصوت وخيل إليه أنه رأى شيئا عظيما كجذع نخلة يتربص به فأخرج مسدسه ووجهه بيد والأخرى تحمل المصباح، شعر بجسده يزداد ثقلا حين باغته ثقبان فسفوريان كانا موجهين إليه، تحتهما يمتد جسد خشن مخدد وفجأة شعر بالثقبين يقتربان ثم تلاشيا، ساوره الخوف من أنه يجابه شبحا وشعر بفمه يمتلىء بالصراخ إلا أنه تماسك وحس بأن هيئة جسده لا تناسب الموقف فباعد ما بين ساقيه واستمرأ طعم وخزات ألم في خاصرته تصعد الى صدره تصاحبها قشعريره ثم عرقا نضح به كيانه، وهُيّئ له أن أمعاءه تحركت عندما ظهر الثقبان مجددا وكانا هذه المرة ثابتين لا يتزحزحان وطفقا يملآن قلبه بالمزيد من الخوف وفي اللحظة التي أدرك فيها أن توازنه قد يخونه فجأة كتم أنفاسه وأطلق سلسلة طلقات نارية حتى أفرغ محتوى مسدسه·
سمع للوهلة الأولى شيئا يسقط على الأرض محدثا صوت ارتطام، ابتسم بلا صوت مكتفيا بفتح فمه على مصراعيه وخالجه شعور بالنصر ثم اندفع بترنح في اتجاه المكان الذي أحدثه الصوت الى أن وصل في لحظات احتضاره وهو يرتعد ركله بقدمه وجلس وهو يشعر بالتعب والانكسار·
لقد انقضى من الليل الكثير والمهندس واقف يدخن سيجارة بعد الأخرى بتوتر وعيناه تنتقلان بحذر من نخلة الى أخرى وعندما ألقى بالسيجارة ليدوسها بقدمه، استقر نظره فجأة على حصان يقف أمامه ناصبا أذنيه النحيفتين رافعا رأسه الصغير ثم تحرك في اتجاه المهندس بخطوات مستقيمة، شب الحصان مرتين وصهل فتراجع المهندس خطوات للوراء استدار وهم بالهرب والتوجه نحو رجاله بيد أن الحصان اعترضه·
في الصباح وجده رجاله منبطحا على وجهه وعلى ملامحه يرتسم الرعب والخوف إذ لا يزال فمه فاغرا وعيناه مفتوحتين على اتساعهما وأثر حافر حصان يبدو بارزا على جبينه العريض·
وجرّه الرجال الى داخل الخيمة وهم يرمقون وجهه المرعوب في صمت·
قاص من ليبيا
sefarune@hotmail.com