رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الاربعاء 28 شوال 1426هـ - 30 نوفمبر 2005
العدد 1705

بتواطؤ من بريطانيا وعبدالإله ونوري السعيد··
يهود العراق هُجّروا إلى فلسطين تحت تهديد التفجيرات الصهيونية - (1)

                                                    

 

·         يهود العالم العربي تعرضوا للظلم والتمييز المؤسساتي في دولة إسرائيل

·         إسرائيل تعاملت معنا على أننا مواطنون من الدرجة الثانية

·         الصهاينة زوروا عرائض مكتوبة بأسماء سكان المجدل تطالب بترحيلهم الى غزة

·         العصابات الصهيونية حقنت آبار مياه الشرب ببكتيريا التيفوس والدوزنطاريا

·         لم أجد ناشرا واحدا في إسرائيل أو أمريكا يقبل نشر كتابي "فضائح بن غوريون"

 

نعيم جلعادي:

يقول إليكسيس دي توكوفيل إن "من الأسهل على العالم أن يتقبل كذبة بسيطة من أن يتقبل حقيقة معقدة"· ويبدو أن العالم وحتى العالم العربي - الى حد ما - تعامل بهذا المنطق مع الصراع العربي الإسرائيلي، وتبنى عددا من الأكاذيب الإسرائيلية تاركا الحقائق المعقدة لهذا الصراع لنخبة من المؤرخين·

الكذبة الأولى، وفقا لنعيم جلعادي الذي تكتسب شهادته أهمية كبيرة ليس لكونه عراقيا يهوديا، بل لأنه شارك في صنع الحدث من خلال انتمائه للحركة الصهيونية السرية، إن سكان فلسطين خرجوا من ديارهم طواعية ودون إكراه، والحقيقة - كما يرويها جلعادي - أن الصهاينة لجؤوا الى منع الفلسطينيين من العمل في مزارعهم من أجل كسب قوت يومهم، ثم قاموا بتسميم مصادر المياه والآبار وتوجوا هذه الأساليب بالطرد الجماعي للسكان بقوة السلاح·

والكذبة الثانية، أن الدول العربية وخاصة العراق قامت بطرد اليهود· والحقيقة أن الحركة الصهيونية "أقنعت" يهود الدول العربية بالهجرة الى فلسطين بالحيلة تارة وبتفجير القنابل في تجمعاتهم، تارة أخرى·

ويروي جلعادي كيف تآمر زعماء الصهيونية والمسؤولون البريطانيون، بتواطؤ من عبدالإله ونوري السعيد على تهجير يهود العراق الى فلسطين·

أما الكذبة الثالثة، فهي الترويج الى أن إسرائيل ظلت على الدوام ترغب في السلام بينما ظل العرب، وخاصة مصر عبدالناصر، يريدون الحرب وإلقاء اليهود في البحر! والحقيقة، أن الزعماء العرب ما انفكوا منذ قيام الدولة العبرية، يحاولون كسب ودها وإرسال المبعوثين الذين يحملون رسائل السلام لها بالسر والعلن، وكانت إسرائيل ترفض هذه العروض باستمرار·

ويذكر جلعادي كيف كان عبدالناصر يرسل المبعوث تلو المبعوث لبن غوريون للبوح برغبته بالسلام، بينما كان رد بن غوريون شن الحملات الإعلامية التي كان يصف فيها عبدالناصر بـ "هتلر الشرق الأوسط"! وما أشبه الليلة بالبارحة، حيث تتسابق الدول العربية على التطبيع ويتبنى العرب - مجتمعون - مبادرة سلمية مع إسرائيل (على اعتبار أن السلام خيارهم الاستراتيجي) ثم لا يجدون سوى التجاهل· وكذا كان حال ياسر عرفات والقادة الفلسطينيين الذين كلما قدموا التنازلات نبذتهم إسرائيل وأعلنت أنه لا يوجد شريك فلسطيني للسلام···

 

أجرى هذا الموقع مقابلة استغرقت ثلاث ساعات مع نعيم جلعادي وهو يهودي من العراق في السادس عشر من مارس 1998، وقبل يومين من عيد ميلاده التاسع والستين· وامتدت المقابلة التي اتسمت بالأريحية والمرح لساعتين أخريين وتناولنا معا وجبة عربية أعدتها زوجته راشيل، العراقية الأصل أيضا· وقال باعتزاز "هذه ثقافتنا العربية"·

وكنا في المقابلة السابقة قد استضفنا المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي الذي تحدث عن مئات الآلاف من سكان البلاد الأصليين في فلسطين الذين اقتلعوا من أراضيهم من أجل توطين أجانب جاؤوا للاستيلاء على الأرض· وكان معظمهم من اليهود الاشكناز الوافدين من أوروبا الشرقية· ولكن جاء نصف مليون مهاجر يهودي آخر من البلدان الإسلامية· لقد زعمت أبواق الدعاية الصهيونية أن إسرائيل "أنقذت" هؤلاء اليهود من جيرانها المسلمين المناهضين لليهود، ولكن أحد هؤلاء اليهود الذين تم إنقاذهم لديه رواية أخرى·

في كتابه بعنوان "فضائح بن غوريون: كيف قام جهاز المخابرات الإسرائيلي الخارجي (الموساد) بتصفية يهود"، يناقش جلعادي الجرائم التي ارتكبها الصهاينة من أجل دفع اليهود للهجرة الى فلسطين من أجل استخدامهم كأيد عاملة في المزارع المنشأة حديثا من أجل توفير الطعام للمهاجرين الجدد ومن أجل تجنيد الشباب في صفوف الجيش للدفاع عن الأراضي المسروقة· ولم يتمكن جلعادي من نشر كتابه في إسرائيل ولا حتى في الولايات المتحدة، واكتشف أنه لن يتمكن من نشره إلا باستخدام أمواله الخاصة·

ويعيش أفراد عائلة جلعادي الذين أصبحوا الآن مواطنين أمريكيين، في مدينة نيويورك، واختاروا التخلي عن الجنسية الإسرائيلية بإرادتهم· وأبلغنا "أنني عراقي، ولدت في العراق وثقافتي عربية عراقية وديانتي اليهودية وجنسيتي أمريكية"·

يقول جلعادي: كنت أظن آنذاك أنني أعرف الحقيقة كنت شابا مثاليا وأرغب في تعريض حياتي للخطر من أجل قناعاتي· وكنت في عام 1947 لم أكمل الثامنة عشرة بعد حين ألقت السلطات العراقية القبض علي بتهمة تهريب الشباب من يهود العراق الى الخارج الى إيران ثم الى أرض الميعاد التي أصبحت عام 1948 دولة إسرائيل·

لقد كنت عضوا سريا في الحركة الصهيونية· وقد فعل السجانون العراقيون كل ما بوسعهم لانتزاع أسماء رفاقي الصهاينة مني· وما زلت أعاني آلام التعذيب حتى الآن وبعد خمسين عاما، وتذكرني بذلك اليوم الذي حاولوا فيه قلع أظافر قدمي· وفي مناسبة أخرى نزعوا ملابسي في عز الشتاء ورشقوا على جسدي الماء البارد وأبقوني في هذا الوضع لأربع ساعات، ولكني لم أفكر للحظة أن أدلي لهم بالمعلومات التي أرادوها· لقد كنت مؤمنا حقا·

 

جحيم

وكان همي الوحيد أثناء تلكما السنتين اللتين أصفهما بـ "الجحيم" هو البقاء على قيد الحياة ومن ثم الفرار الى خارج العراق· ولم أكن أعبأ بالتاريخ اليهودي في العراق على الرغم من أن عائلتي كانت جزءا منه منذ البداية· فنحن ننتمي الى عائلة هارون الكبيرة والمهمة في "الشتات البابلي"· لقد استقر أجدادي في العراق منذ أكثر من 2600 عام، أي قبل 600 عام على ميلاد السيد المسيح و1200 عام قبل مجيء الإسلام· وعائلتي هي التي بنت قبر حسقيل وهو نبي يهودي قبل موسى عليه السلام· وقد ولدت في مدينة الحلة عام 1929· وكان اليهود الأصليون هم الذين اكتشفوا بابل بنهريها دجلة والفرات التي كانت بحق أرض اللبن والعسل، حيث الوفرة والفرصة· وبالرغم من أن اليهود - شأنهم شأن بقية الأقليات في ما أصبح يعرف بالعراق - تعرضوا في وقت ما الى الظلم والتمييز، وفقا لحكام كل مرحلة، إلا أن أوضاعهم بصورة عامة، على مدى 1500 عام كانت في تقدم· ففي ظل الحكم العثماني على سبيل المثال، ازدهرت المؤسسات اليهودية الاجتماعية والاقتصادية والمدارس والمرافق الصحية دون أي تدخل خارجي، وقد برع اليهود في الحكم والتجارة·

وبينما كنت أقبع في السجن غير مدرك بأن حكم الإعدام ينتظرني، لم أتذكر أي مظالم تعرضت لها أنا أو أيا من أفراد عائلتي من قبل· فقد كانت العائلة تلقى معاملة طيبة وازدهرت في الزراعة أولا، حيث كنا نملك أكثر من 50 ألف فدان كنا نزرع فيها الأرز والنخيل ونربي الخيول العربية الأصيلة، ثم مع سيطرة الحكم العثماني، عملنا في صياغة وتجارة الذهب الذي كان يتم شحنه بحرا الى إسطنبول ويتم تحويله الى سبائك·

وفي الواقع، كان الأتراك هم المسؤولون عن تغيير اسم عائلتنا الى خلاصجي" أي "العاملين بالذهب الخالص"·

ولم أكن قد أخبرت والدي بأنني انضممت الى التنظيم الصهيوني السري، ولكنه اكتشف ذلك قبل أشهر عدة من اعتقالي حين رآني أكتب بالعبرية وأستخدم كلمات وتعبيرات غير مألوفة لديه· وقد فوجئ حين علم أنني قررت السفر الى إسرائيل، ولكنه نظر الى هذه الخطوة بازدراء قائلا: "إنك سوف تعود وأنت تجر أذيال الخيبة"·

 

سجن أبو غريب

لقد غادر نحو 125 ألف يهودي العراق الى إسرائيل خلال الفترة من أواخر الأربعينات الى عام 1952· وقد فعل معظمهم ذلك بسبب تعرضهم للأكاذيب وترويعهم بواسطة تفجيرات نفذها الصهاينة، ولكن والدي ووالدتي كانوا من نحو 6 آلاف يهودي اختاروا البقاء وعدم السفر الى إسرائيل· وعلى الرغم من عدم عودتي الى العراق منذ ذلك الحين· إلا أن قلبي عاد الى هناك مرات ومرات· لقد كان والدي على حق·

لقد سجنت في معسكر أبو غريب بالقرب من بغداد· وحين أصدرت المحكمة العسكرية علي حكمها بالإعدام شنقا، لم يكن لدي ما أخسره سوى محاولة الهرب التي كنت أخطط لها منذ أشهر عدة·

لقد طلبت من أحد الأصدقاء أن يشتري لي ملابس عسكرية من أجل استخدامها في عملية الهرب، وفي إحدى الليالي الباردة، لبست الزي العسكري ومعطفا طويلا وقبعة عسكرية وبينما كان عدد من الجنود يمر من أمام غرفتي فتحت الباب بهدوء وانخرطت في صفوفهم في الطريق الى خارج المعسكر، وودعت الحارس المناوب أثناء خروجي بالقول "طابت ليلتك" وكان أحد الأصدقاء بانتظاري بسيارته في الخارج· صعدت الى السيارة وانطلق بي بسرعة، بعيدا عن المكان·

وانتقلت فيما بعد الى الدولة العبرية الجديدة، ووصلت الى تل أبيب في شهر مايو 1950· وكان اسمي على جواز السفر مكتوبا باللغتين العربية والإنجليزية، ولكن الإنكليزية لم تضبط حرف الـ "خاء" KH في اسمي، فأصبحوا ينطقونه "كلاسكي"· لقد جعلتني طريقة تعامل مسؤولي الهجرة (الاشكناز) معي، أكتشف في وقت مبكر، كيف يعمل نظام الطبقات الاجتماعية المغلف في إسرائيل·

لقد سألوني لماذا جئت وماذا أريد أن أفعل· لقد كنت ابن مزارع وعرفت كل مشاكل الزراعة، لذلك تطوعت للعمل في "كيبوتس دافنة" في الجليل الأعلى·

ولم يدم الأمر سوى أسابيع فقط· لقد أعطي المهاجرون الجدد الشيء الأسوأ من كل شيء· لقد كان يتم التمييز ضد المهاجرين الجدد في كل شيء باستثناء الطعام، الذي كان يقدم هو نفسه للجميع· فقررت المغادرة· ولكن الوكالة اليهودية نصحتني أن أتوجه الى المجدل التي تغير اسمها الى "أشكلون"، وهي بلدة عربية لا تبعد سوى تسعة أميال عن غزة وقريبة جدا من شاطئ البحر المتوسط· وقد خططت الحكومة الإسرائيلية لتحويلها الى مدينة زراعية، فقلت أن خبرتي في مجال الزراعة ستكون مفيدة جدا لي·

 

المجدل أصبحت أشكلون

وحين تقدمت الى مكتب العمل في المجدل، قالوا لي إنك تجيد قراءة وكتابة اللغتين العربية والعبرية وإن بوسعك أن تجد وظيفة مجزية في مكتب الحاكم العسكري، وزودني الموظف هناك بمجموعة من النماذج باللغتين· وقبل تحويل المجدل الى قرية زراعية، كان يتعين على الإسرائيليين التخلص من سكانها الفلسطينيين· وكانت النماذج عبارة عن التماسات أو عرائض تطالب مفتشي الأمم المتحدة بترحيل هؤلاء المواطنين الى غزة التي كانت لا تزال تخضع للسيطرة المصرية·

وقد قرأت الالتماسات التي كتبوها بأسماء وتواقيع المواطنين الفلسطينيين الذين يطالبون فيها الأمم المتحدة بترحيلهم وأنهم يفعلون ذلك بكامل إرادتهم دون ضغط أو إكراه! وبالطبع، لم يكن أحد ليرحل دون الضغط عليه كي يفعل ذلك· فهذه العائلات تعيش هناك منذ مئات السنين· ولكن الحاكم العسكري منعهم من مزاولة الزراعة أو أي عمل يكسبون منه قوت يومهم· وأبقاهم في حالة حصار دائم الى أن فقدوا الأمل باستئناف مزاولة حياتهم الطبيعية· وحينئذ فقط وافقوا على الرحيل·

لقد كنت هناك وعايشت كربهم، حيث جاءتني مجموعة من المزارعين وقالوا "إن قلوبنا تعتصر ألما حين ننظر الى الحال الذي آلت إليه أشجار البرتقال التي زرعناها بأيدينا·· أرجوكم أن تسمحوا لنا بسقاية هذه الأشجار· إن الله لن يرضى وهو يرى هذه الأشجار تموت عطشا"· وطلبت من الحاكم العسكري أن يسمح لهم بذلك لكنه رفض قائلا: "لا، فنحن نريدهم أن يرحلوا"·

ولم أعد أطيق أن أكون طرفا في هذا الظلم، فرحلت· فالفلسطينيون الذين رفضوا التوقيع على تلك الالتماسات تم سحبهم بالقوة الى شاحنات وألقي بهم في غزة· لقد تم ترحيل أربعة آلاف فلسطيني من سكان المجدل بطريقة أو بأخرى· أما الأقلية التي بقيت منهم فكانوا من عملاء السلطات الإسرائيلية·

وبعد ذلك، حاولت الحصول على عمل حكومي في مكان آخر، وتلقيت عددا من الردود الفورية التي طلبت مني الحضور لإجراء مقابلة· ولكنهم سرعان ما كانوا يكتشفون أن ملامحي لا تطابق اسمي البولندي، ثم كانوا يسألونني إن كنت أجيد اللغة العبرية أو البولندية، وعندما كانت إجابتي بالنفي، كانوا يسألونني عن سر حمل هذا الاسم البولندي·

وحين ضاقت الظروف بي وشعرت بالحاجة الماسة الى عمل، بدأت أزعم أن جدي الأكبر ينحدر من بولندا، وكنت كثيرا ما أتلقى الوعد "أننا سوف نتصل بك"·

وبعد ثلاث أو أربع سنوات من وصولي الى إسرائيل غيرت اسمي الى جلعادي، وهو اسم قريب من الاسم الحركي الذي اتخذته لي في الحركة الصهيونية "جلعاد"· فلم يكن اسم "كلاسكي" لينفعني بشيء· وكان أصدقائي الشرقيون كثيرا ما يتندرون بأن اسمي الجديد لا يتناسب مع أصولي كيهودي عراقي·

لقد جعلني ما رأيت في أرض الميعاد، أتحرر من الوهم

بشأن المعاملة التي لقيتها على المستوى الشخصي وحول

التمييز المؤسساتي وحول ما بدأت أعرفه عن مظالم الصهيونية· فاهتمام إسرائيل الرئيسي باليهود من الدول الإسلامية كان باعتبارهم عمالة رخيصة، خاصة في المزارع التي كان يمتلكها يهود أوروبا الشرقية·

لقد كان بن غوريون بحاجة الى يهود "المشرق" من أجل زراعة آلاف الفدادين من الأرض التي تركها الفلسطينيون الذين طردوا من أراضيهم على يد القوات الإسرائيلية عام 1948·

 

أساليب بربرية

لقد بدأت أعرف الكثير عن الأساليب البربرية التي استخدمها اليهود للتخلص من أكبر عدد من الفلسطينيين·

وإذا كان العالم يرتعد اليوم من فكرة الحرب الجرثومية، فإن إسرائيل ربما كانت أول من استخدمها بالفعل في الشرق الأوسط· ففي حرب عام 1948، قامت القوات اليهودية بتفريغ القرى العربية من سكانها بالتهديد أحيانا وبقتل عدد من سكانها العزل أحيانا أخرى، لإثارة رعب بقية السكان وحملهم على الرحيل· وحتى يتأكدوا من أن العرب لن يتمكنوا من العودة الى هذه القرى لبدء حياة جديدة، حقنوا بكتيريا التيفوس والدوزنطاريا في آبار مياه الشرب·

لقد كتب المؤرخ في وزارة الدفاع الإسرائيلية يوري مايلشتاين، وتحدث كثيرا عن استخدام المواد الجرثومية· ويورد مايلشتاين أن موشيه دايان الذي كان قائد فرقة عسكرية آنذاك أعطى الأوامر في عام 1948، بطرد العرب من قراهم وهدم منازلهم وتلويث آبار مياه الشرب ببكتيريا اليتفوس والدوزنطاريا حتى لا يتمكنوا من استخدامها مرة أخرى·

ووضعت عصابات الهاغاناه بكتيريا التيفوس في مياه عكا، فأصيب الناس بالمرض وتمكنت هذه العصابات من احتلال المدينة بسهولة· لقد نجحت هذه الأساليب لدرجة أنهم أرسلوا فرقة من الهاغاناه ترتدي الزي العربي الى غزة، حيث كانت ترابط قوات مصرية· لقد ضبطهم المصريون وهم يضعون بكتيريا التيفوس والدوزنطاريا في مصادر مياه الشرب دون أدنى اعتبار لحياة السكان المدنيين·

وقد كانت عكا قادرة على الدفاع عن نفسها لولا قيام الهاغاناه بتلويث جدول المياه الذي يغذي المدينة بحاجتها من مياه الشرب· وكان هذا الجدول يعرف باسم "كابري" ويأتي من الشمال ويمر بالقرب من إحدى القرى الزراعية اليهودية· وعند حدود هذه القرية وضعوا البكتيريا في مياه الجدول المتجهة الى عكا· ونقل عن أحد عناصر الهاغاناه الذين ضبطوا في غزة قوله: "في الحرب ليست هناك عواطف"·

لقد بدأت نشاطي السياسي بعد وقت قصير من تلقي رسالة من حزب اشتراكي صهيوني يطلب مني المساعدة في إصدار صحيفة له باللغة العربية، ولكني حين عملت مع الصحيفة قوبلت بالتمييز ضدي لأنني يهودي عربي، حتى أنهم خصصوا إدارة يهود العرب أطلقوا عليها "الغرفة رقم 8"· التي طلبوا مني مراجعتها، فقلت في نفسي إنها سياسة العزل العنصري· إنها تشبه إدارة السود (في أمريكا في الماضي)· لقد شعرت بالاشمئزاز والاستياء، وقررت ترك الصحيفة· وكانت تلك بداية احتجاجي المفتوح· وفي العام ذاته، نظمت مظاهرة في أشكلون ضد سياسات بن غوريون العنصرية· وشارك في المظاهرة أكثر من عشرة آلاف شخص·

ولم تكن هناك الكثير من الفرص أمام اليهود من أمثالي الذين عوملوا كمواطنين من الدرجة الثانية، ليغيروا في هذا الواقع في وقت تخوض فيه الدولة حربا مع أعداء خارجيين· وبعد حرب عام 1967، كنت في الجيش وحاربت في سيناء، ولكن وقف إطلاق النار مع مصر عام 1970، منحنا فرصة لرفع أصواتنا عاليا·

وقد خرجنا في مظاهرات الى الشوارع ونظمنا أنفسنا سياسيا، للمطالبة بالمساواة في الحقوق· وقلنا إنه إذا كانت هذه بلادنا ونعرض حياتنا للخطر من أجلها، فإننا نتوقع أن نحظى بالمساواة فيها·

 

الفهود السود

لقد صعدنا نضالنا وأصبحنا معروفين على نطاق واسع في البلاد لدرجة أن الحكومة الإسرائيلية حاولت التقليل من شأن حركتنا بأن أطلقت علينا "فهود إسرائيل السود"· لقد كانوا يفكرون بمنظور عنصري حقا بافتراضهم أن الجمهور الإسرائيلي سوف يرفض منظمة يتم تشبيهها بالمتطرفين السود في الولايات المتحدة· ولكننا رأينا أن عملنا لا يختلف كثيرا عما كان يناضل ضده الأمريكيون السود وهو العزل العنصري والتمييز والمعاملة غير المتساوية مع الآخرين·

وبدلا من رفض تلك التسمية التي أطلقوها علينا، تبنيناها باعتزاز· وكانت لدي بوسترات لمارتن لوثر كنغ ومالولكم إكس ونيلسون مانديلا وعدد آخر من نشطاء الحقوق المدنية، معلقة في مكتبي·

ومع حدوث الغزو الإسرائيلي للبنان والتواطؤ الإسرائيلي في مجازر صبرا وشاتيلا، ضقت ذرعا بالعيش في إسرائيل· وأصبحت مواطنا أمريكيا وألغيت مواطنتي الإسرائيلية· ولم أتمكن من كتابة أو نشر كتابي في إسرائيل، حتى مع فرض الرقابة على مضمونه·

وحتى في الولايات المتحدة، واجهت صعوبة كبرى في العثور على ناشر، لأن معظم الناشرين يتعرضون بشكل أو بآخر للضغوط من إسرائيل وأصدقائها· واضطررت لدفع مبلغ 600 ألف دولار من جيبي الخاص لنشر كتابي بعنوان: "فضائح بن غوريون: كيف قامت الهاغاناه والموساد بتصفية مواطنين يهود"· فقد كلفني نشر الكتاب بيع بيتي في إسرائيل ودفع ثمنه كاملا·

وحتى بعد ذلك، كانت لا تزال لدي مخاوف من أن يتراجع صاحب المطبعة أو تقام دعاوى قضائية لإجباري على وقف النشر، كما فعلت الحكومة الإسرائيلية لمحاولة منع الضابط السابق في الموساد فكتور أوستروفسكي من نشر كتابه الأول· لقد تعين علي ترجمة الكتاب "فضائح بن غوريون" من لغتين هما العبرية والعربية الى الإنكليزية، واستعجلت المطبعة خوفا من أي حدث غير متوقع·

 أما الآن وقد نشرت الكتاب، فإن أي دعوى ضدي ستمنح الكتاب مزيدا من الشهرة والجدل حوله· لقد حرصت على حفظ الوثائق التي اعتمدت عليها في كتابي في خزينة خاصة بأحد البنوك· وهذه الوثائق والتي منها ما صورته بطريقة غير مشروعة من الأرشيف في إسرائيل، تؤكد ما رأيته بأم عيني وما سمعته من عدد من الشهود، وما كتبه عدد من المؤرخين البارزين وغيرهم حول التفجيرات الصهيونية في العراق والمبادرات السلمية من جانب العرب التي رفضها الإسرائيليون وحوادث عنف وقتل تورط فيها يهود ضد يهود آخرين في محاولة لإجبار اليهود في العالم العربي وأماكن أخرى من العالم من الهجرة الى فلسطين·

 

 

المصدر: COURTESY THE LINK

VOLUME 31 .  ISSUE2

"  APRIL_MAY,1998"

 

 

طباعة