د· محمد سلمان العبودي *
لا يمكننا الحديث عن هذا الرجل دون الحديث عن دولة شيدها على سطح الماء! ولا يمكننا الحديث عن هذه الدولة دون الحديث عن هذا الرجل الممشوق القامة، المبتسم الوجه، بملامحه التي تعيدنا إلى آلاف السنين الماضية من تاريخ العرب الضارب في القدم· وعندما نتحدث عن الدولة التي شيدها طوبة طوبة وشبرا شبرا لا نملك إلا أن نعجب بإصراره وعزيمته التي يندر أن نجد لها مثيلا· وعندما تمر سيرته لا نستطيع أن نغمض أعيننا عن مساحة لا متناهية من مزيج من الأخضر والأصفر·
ولد في عمق الصحراء، وعاش بين الكثبان الرملية اللامتناهية بنباتاتها نادرة الوجود التي تحمل في أغصانها دواء لكل داء· وكانت قدماه الحافيتان تغوصان في الرمال الناعمة وهو يسير متقلدا خنجره باحثا عن القدر الذي ينتظره في منتصف الدرب· ذهب ليكتب تاريخا لم يكن ليكتب بغيره! ويشيد دولة ما كانت لتقوم من دونه! ويعيد للعرب من المحيط إلى الخليج شيئا من كرامتهم المفقودة المهزومة الخاسرة منذ سقوط غرناطة!
رجل ربما لا يعرف الكتابة ولا القراءة إلا قراءة القرآن العظيم الذي استقى منه عزته! ولم يذهب ليتلقى العلوم في جامعات هارفارد وكمبريدج ولم يقض الليل والنهار بين مجلدات الكتب والمراجع لتنسيق بحثه للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه ولم يلتحق بأقسام السياسة والإدارة بجميع فروعها! وهو الذي أدهش العالم ببراعته السياسية ونظرياته الاقتصادية وحنكته الإدارية! كان يلبس عباءة البدوي وعقال البدوي وثوب البدوي ويأكل التمر العربي ويشرب القهوة العربية ويقود سيارته بنفسه وهو يتمنى لو أن العرب قد صنعوها له، ويقطع بها الصحراء القاحلة في منتصف شهور الصيف القاتل وبينما درجة الحرارة الخارجية تشير إلى أكثر من 50 درجة مئوية!ويحاول صاحبه أن يثنيه عن مواصلة الرحلة، فيأبى! ليصل بعد ساعات وساعات من الطريق الوعر إلى قرية صغيرة نسيها الزمن في عمق الصحراء، فيلتقي بأفرادها فردا فردا ويسأل عن أحوالهم طفلا وشيخا وامرأة ومريضا ومحتاجا·· ويجلس معهم على الأرض ويأكل من طعامهم المتواضع ويشرب من مائهم غير العذب وغير المعبأ في زجاجات فولفيك وإيفيان، ويحضن أطفالهم ويداعبهم ويتحدث إليهم أمام دهشة عدسات كاميرات العالم التي تعودت أن تلاحق رؤساء الدول من على بعد عشرات الأمتار وهم يركبون أفخم السيارات ويأكلون في صحون من البلور الأغلى ثمنا وبملاعق من فضة ويحتمون بصدور من الفولاذ المقاوم للرصاص وهم محاطون برجال الأمن من كل جهة، ولا تتعدى حدود تنقلاتهم المواقع الرسمية المحاطة بالسرية وبكل أنواع كاميرات المراقبة الأمنية· بينما هذا الرجل الضاحك الوجه تنقل بحرية البدوي في الصحراء التي ليس لها حدود إقليمية ولا جوازات سفر من الورق المقوى ولا أختام دخول وخروج ولا حقائب من الماركات الراقية! وعندما يحين وقت الصلاة، وقف وحيدا وبهامته الرفيعة وبكل تواضع الإنسان وخشوع المؤمن وانحنى بها لتلامس جبهته الغراء رمال تلك الصحراء الممتدة على مدى السراب اللامتناهي! ترى كم منا ربع هذا الرجل في شخصيته ووقاره!
كان يحب الله ويحب شعبه ويحب الأرض ويحب الأوراق الخضراء أينما نبتت وكيفما نبتت· ولطالما اشتكى منه مهندسو الطرق في كل شارع وفي كل مدينة! فكان يأمر بأن ينحرف مسار شارع بأكمله أمام شجرة صغيرة واحدة! وينحرف الشارع المستقيم عنها وتقف هي بكل كبرياء الطبيعة· لقد أعطى الورقة الخضراء حقها في الحياة، ولو لم يكن هو لقطعت من جذورها دون رحمة! ومما يحكى عنه - إذا صدقت الرواية - بأنه طلب من مجموعة من خبراء الزراعة الفرنسيين بزراعة إحدى المناطق الصحراوية القاحلة التي تقع على أطراف الربع الخالي حيث لا ماء ولا هواء ولا أنهار ولا حياة!
فأخبروه باستحالة ذلك وعادوا مسرعين من حيث أتوا· وبعد عشر سنوات طلب استدعاءهم مرة أخرى، وأخذهم بنفسه إلى ذلك الموقع ذاته، فصعقوا أمام المنظر الذي رأوه بأم أعينهم: جنات من الفاكهة والأشجار المثمرة والمياه الجارية! فعادوا مطأطئين رؤوسهم خجلا واستحياء!
إنها إرادة وعزم وتفاؤل الرجل الذي علمنا كيف تكون الإرادة وكيف يكون العزم وكيف يكون التفاؤل! وعلمنا كيف يكون التحدي! فأي اتحاد أو وحدة أو اتفاق أو معاهدة بين دولتين عربيتين استمرت لأكثر من سنتين أو ثلاث وانفرط العقد بعدها وذهبت أحلامها أدراج الرياح؟! بينما هذا الرجل البدوي الأصل والحكمة والذي لا يقرأ ولا يكتب يقيم وحدة راسخة بين سبع إمارات تدوم لأكثر من أربع وثلاثين سنة ولا تزال!
رجل حتى ولو لم يبق شيء من سيرته فستبقى كلمته الخالدة التي سترويها أجيال الأمة العربية والإسلامية إلى يوم الدين: (لن يكون النفط العربي أغلى من الدم العربي!)·· فلم ترهبه طائرات إسرائيل وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة ولا مدافعها ولا جيوشها، فضرب به المثل في التحدي! رجل لم يرهب شعبه ولم يصادر ممتلكاته وحرياته ولم يقم بإعدام من خالفه الرأي والموقف، رجل لم يعتد على جيرانه بجيوشه وعتاده، بل تنازل عن جميع حقوقه وأرضه لهم لحقن دماء العرب: وعندما سئل عن ذلك قال: ما دامت قطعة الأرض لدى جاري فهي عندي، رجل لم يغلق عليه أبوابه ونوافذه، ففتح قلبه لمن أحبه ولمن حقد عليه!
إنها شخصية ذلك الرجل الكاريزماتي الذي لا يتكرر في التاريخ مرتين! رجل كان بيننا قبل عام، ولكنه غادرنا في مثل هذه الأيام صائما راضيا عن نفسه وعن شعبه! فبكاه حتى من لا يعرفه!
* جامعة الإمارات
ينشر بالتزامن مع "البيان" الإماراتية·
dralaboodi@gmail.com