رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 24 ذوالقعدة 1425هـ - 5 يناير 2005
العدد 1660

زيد الحرب.. المفتون في حب الوطن*

                                                  

 

بقلم: غنيمة زيد الحرب

حين تؤوب الشمس الى خدرها

يأتي محملا بالهدايا

يطبع على وجنتي طفلتيه الصغيرتين

قبل المساء

 

يحتويهما بذراعيه·· وينظر بعشق الى زوجته ويدندن:

البارحة يا بدر شيٍّ جرالي         يوم أنا شفت من شوفـه طــريفة

التَفت من يميني ومن شـمالي       وردتـــين من المهرة العفيـــفة

شوف دسمان وغير ما طــرال    عن قعدة الكشك تغنينا الصريفة

لي حضرنا حكمـنا ما نبالي        حكــم "ديلي" فـي دار الخليـفة

 

كلمات بسيطة ناعمة ولكنها تحمل كمّا من القيم: الدفء الأسري القناعة والحرية والديمقراطية كان أبا رائعا·· فتح بينه وبين ابنتيه أبواب الحوار·· وأعطاهما من الثقة ما لم يعط لكثيرات في مثل ذلك الوقت··· لقنهما تعاليم الحرية الفكرية·· وأتاح لهما حرية التعبير·· وحرية الاختيار··· وفر لهما فرص التعليم في مرحلة مبكرة وحثهما على الاستزادة من العلم والمعرفة··

قاد أسرته الى النور حتى بعد أن فقد بصره·· ولم يكتف بما حقق لابنتيه من سعادة وطمأنينة واستقرار بل إنه عمل من أجل مستقبليهما حتى اللحظات الأخيرة من عمره المديد·

الشاعر زيد عبدالله الحرب

استقبلته الشمس في أواخر العقد قبل الأخير من القرن قبل الماضي·

كان شاعرا مفتونا بالوطن، متيما بترابه·· وكانت الكويت هي حبه الأول والأخير، فهو القائل:

الوطن أول وتــالي        نشـتريـه بكـل غـالي

نبغي المرقب العالي        ونجمع الراي السديد

 

ولم يكن حبه لوطنه مجرد كلمات معسولة، بل إنه عمل مع أبناء جيله على بناء هذا الوطن، ودافع عنه بالسيف والكلمة والعمل - حين لم يكن لهذه الأرض سوى فلذاتها الذين نشؤوا وكبروا في السنوات الجفاف بين رمال عقيمة وبحر - كما وصفه في إحدى قصائده: "دوم تطبخ غبيه··" أي أنه شبّه قاع البحر بحالة الغليان·

ويعبر الشاعر عن معاناة الكويتيين آنذاك، مركزا على انتمائهم لهذا التراب في أزمنة الجدب كما في أزمنة الرخاء· فيقول:

حنا هل الديرة وحنا لها عيال          وحنا ذراها في الليالي الصعيبة

وحنا عليها نكد بسنين الامحال           لي غار عنها الجن واخلى جليبه

 

وبعد أن تبدلت الحال، وأخرجت الأرض ثرواتها، نجد ابنها العاشق يقف على شواطئها معاتبا، شأنه في ذلك شأن كل العاشقين، حين يواجهون بالقطيعة والصدود، فلنسترق السمع إليه وهو يهمس في أذن محبوبته بهذه الكلمات:

ولا دريت اني على الدرب مسبوق         ويوخذ دخيل زابن في حماها

الكويت أمي وعني الباب مغلوق          يا من يقول الأم تطرد ضناها

بلادي تسد الدرب دوني بطابوق          وزود على الطابوق تردم حصاها

قزر شبابي بحربها دوم ماسوق          وسخرت نفسي دايمِ في هواها

ويوم استوت كالورد في حق مطبوق      وأقبل ثمرها أقبلت في جفاها

تقلط غريب الدار والغوج مفهوق           تحضنت لجناب وحنا قفاها

وياما نختنا وهلهلت صافي الموق        يوم العدو بجنود جيشه وطاها

تقول جاني الضد بـ خيلٍ ومسبوق        وسقنا العمار الغالية في فداها

 

هذه الأبيات الجميلة تضمنتها قصيدة مطلعها:

يا ناس قلبي بين الأضلاع محروق            وعيني على مافات زايد بجاها

كل ما نخيط الشق نلقاه مفتوق          الشق في كبدي ولا حد رفاها

 

وتتعاقب الأبيات في هذه القصيدة الرائعة، فيتبع بعضها بعضا كسرب من الطيور المهاجرة حين يلفها الليل والشجن:

يا غيمة جتنا بها رعود وبروق          تمطر ولا شفنا على القاع ماها

تسقي بعيد الغرس وتسيح بعروق         تذكر عذاري ما سقت من حذاها

تقطعت صملان قلبي وأنا أسوق            ولا جربة منها ربطنا وجاها..

 

هذا الرجل الذي غاص في الأعماق: بحارا·· وشاعرا، وفارسا ذاد مع الكثيرين من أبناء جيله عن حمى وطنه·· هذا العاشق المتيم، بأرضه، تنتصر لديه مشاعر المحبة على كل ما يكدر صفو علاقته بالوطن·· فيصرخ معلنا حبه:

مفتون أنا ياناس في حب الأوطان         غير الوطن ياناس ماهو هوى لي

بالك تعالجني على كل ما كان            أموت وأحيا يا فتى في محلي

 

واسمحوا لي في هذه العجالة أن أتطرق الى جانب ميز هذا الشاعر·· فقد كانت لديه نظرة مستقبلية، يتنبأ من خلالها بما هو آت، وذلك باستقراء التاريخ والاستفادة منه ومن هذه القصائد ذات الرؤية البعيدة، قصيدة حذر فيها من أطماع العراق في الكويت، وكان ذلك في العهد الملكي إبان حكومة نوري السعيد، الذي لقبه في قصيدته بالشقي: وقد تطرق في هذه القصيدة الى "حلف بغداد"، وكلكم تعرفون هذا الحلف الذي كان قائما بين العراق والأردن ودول أخرى والذي انهار بانهيار النظام الملكي في العراق إثر انقلاب عسكري حدث في الرابع عشر من تموز عام 1958···

يقول في بداية قصيدته مخاطبا صديقه الشاعر: "رومي الديحاني"

يا طارشي سلم على الليث رومي         ود التحية صوب ستر العذارى

الشاعر اللي بكل واد يهومي           وكل راوي يشرب سواكب ابياره

قله يقول الجو مملي غيومي              وما ينعرف له الليل امن النهارا

 

الى أن يقول:

وحلف مع بغداد عده معدومي              ترى دماره خير لك من عماره

وعز تريده بعزهم ما يدومي               غصن الشري لا تظن تحلا اثماره

ولي بغيت الصج وصافي العلوم            من بار في شعبه ترى فيك بارا

ولي عطاك الصلح عطنا الرخومي          طبعه ترى النكران خاين بجاره

ولا بد ما بتبان بيض النجوم                واللي مغطى تنكشف لك أسراره

وأعرف قصير السو يا شيخ زومي         يضحك وهو خلافك سوات المشاره

الصبح ياتيكم صديج محشومي              وعند الدجى يرسل عليكم أشراره

 

هذه الصورة التي وردت في الأبيات السابقة، أصبحت واقعا ملموسا في صبيحة الخميس 2/8 عام 90، أي أن ما حذر منه الشاعر في الخمسينات حدث بحذافيره في مطلع التسعينات من القرن الماضي، ويسترسل الشاعر في قصيدته الى أن يقول:

مير انهضوا قبل الشقي لا يقوم              وقظٍ به الدخان ســـده بحجاره

ومن لا يطفي النار قبل اللزوم               تعلى الحرايج والسبايب شراره

 

وهناك أكثر من قصيدة تنبأ فيها بالمستقبل على ضوء معطيات الحاضر ومؤشراته، فقد تنبأ - على سبيل المثال - بثورة 23 يوليو عام 52 وبالثورة العراقية التي قضت على الحكم الملكي كما سبق ذكره·

وقد أورد هاتين القصيدتين على النحو التالي:

قال متنبئا بالثورة المصرية، في قصيدة يمتدح فيها رئيس وزراء إيران في ذلك الوقت السيد "مصدق"، وذلك بمناسبة تأميم شركات النفط الأجنبية في بلاده عام 1951·

يقول:

قالوا "مصدق" قلت يصدق بما قال        غاسق وقب السم من يسير

هذا الرجل إن كان في الشرق رجال       وهذا الوزير إن قيل حطوا وزير

شوف أزرق العينين من ضربته شال        من ظن "عبادان" عنها ينير

 

الى أن يقول:

إن كان في مصرٍ صناديد ورجال           ماصار في طهران فيها يصيرِ ِ

وإن طاب له "النحاس" وزانت الأحوال    ماعاد له في الشرق مفرش حصير

وأذنابه الخوان كنازة المال                  لا بد لايرغون عقب الهدير

طاح الجمل والشيل من غاربه مال         كثروا سكاكين اللحم للبعير ِِ

وعدوكم لي طاح دوسوه في الحال        ترى أن نهض ينهق مناهق حمير

تغانموا الفرصات لو شرب فنجال          تمركم مثل السحايب تطير

 

أما بالنسبة للقصيدة الثانية، فهو يتطرق فيها الى أحداث لبنان ثم يعرج من خلالها الى الأوضاع في العراق وعلى ضوء معطيات الواقع ومؤشراته يتنبأ أو يتوقع بثورة في العراق فيقول:

بهذا "الشقي" ويا "الوصي" وشتقولون          تزبدوا "لندن" خبيثين الأشوار

ما هي محبة أو حماسة لـ "شمعون"            ولا هي مودة أو حمية على الجار

لا شك فيهم ذل مما يخافون                     خوف تثور شعوبهم سر وإجهار

وهذا صحيح العلم لازم يثورون                  ما يلبسون الذل فروخ الأحرار

أما بشهر "آبٍ" وإلا بْتموز                      يجيك من "بغداد" تفصيل الأخبار

اصبر قليل شوي وفيهم تشوفون                وما صار في لبنان بيعم الأقطار

··· إلخ

الشقي: أي نوري السعيد·

الوصي: عبدالإله (خال الملك فيصل)

كان زيد الحرب رجلا متفتحا، مستنيرا سابقا لعصره دعا في قصائده الى تشجيع المدارس وفتح الأندية الثقافية والرياضية، بل إنه ذهب الى أبعد من ذلك، فطالب الدول العربية بإقامة المصانع في أراضيها أسوة بالدول المتقدمة، فقال مخاطبا الحكومات العربية:

وانتم تعذرتم من قل الأوضاع            وقلتم المصانع راي اوروبا عمرها

انتم لكم راي وأبصار وأسماع           وهذي المصانع من بغاها قدرها

مير الردى ماله على العز مطلاع         راعيه عينه دايم في سهرها

ألهتكم الدنيا في كثر الأطماع           ودياركم قل المصانع دمرها

 

لقد استطاع شاعرنا بفطرته السليمة، وأدواته التعبيرية البسيطة ولغته اليومية المتداولة أن يتواصل معنا وأن يصل إلينا عبر قطار الزمن، كما كان متواصلا مع أبناء جيله ملتحما بهم معبرا عن همومهم·· مثلما عبر عن قضايا أمته وهمومها فقد صور لنا خريطة العالم العربي وقد خلت من الفواصل والحدود حالما بوحدة عربية شاملة·· داعيا الى نبذ الخلافات بين دول هذه الأمة مدركا أن شتاتها هو السبب الرئيسي في ضياع حقوقها وتخلفها عن الحضارة والمعاصرة·

ويتضح هذا الأمر في قصيدة قالها بمناسبة انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة عام 1961··· ونشعر بغصة المرارة في حنجرته الى حد اليأس أحيانا حين يشخص الحالة العربية فيقول:

والعجب كلــهم خوال مع عمام    والمثل مابينهم شاةٍ وذيب

لا زعــيم ولا شريف ولا إمــام    لا معلم لا محدث لا خطيب

كل منهــم قاضبٍ حد الســهام    يقطع العرقوب لو عنه تغيب

قص هـذا مـن لحم هـــذا إدام    وصفهم كالحوت في وسط الغبيب

الكبير ياكــل صغيره بالهــمام    وياطي الصاحي على كبد الصويب

ولي بغيت الصج والعلم التمام    التولّف بينهم أمر صعيب

 

هذا قليل من كثير، فهناك القصائد الكثار التي تناول فيها القضايا العربية الكبرى وفي مقدمتها قضية فلسطين التي شغلت الشاعر منذ بداية النكبة - في وقت لم تكن فيه وسائل الإعلام متاحة شأنها في وقتنا الحاضر - وهذا يدل على الوعي السياسي لدى شاعرنا الذي أدرك - كما أدرك الكويتيون جميعا وفي مرحلة مبكرة - أنهم جزء من هذه الأمة·

ولهذا كان لما تعرضت له الكويت عام 1990 فعل الصدمة على الكويتيين، خصوصا وأنهم قد فوجئوا بتأييد بعض العرب لهذا الاعتداء السافر·

 

* ورقة قدمتها ابنة الشاعر بمناسبة الاحتفاء بذكراه ضمن "منارات ثقافية"

طباعة  

زيد الحرب "منارة ثقافية كويتية"
د. حصة الرفاعي: إبداع شاعرنا في نظرته الثاقبة وقراءته للأحداث

 
وتد
 
تصدرها "مؤسسة الفكر العربي"
"حوار العرب".. مصارحة الفكر الساكن بالصدمة!

 
إصدار