رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 24 ذوالقعدة 1425هـ - 5 يناير 2005
العدد 1660

هناك جدل بين مؤيد ومعارض
العولمة والثقافة: عرض وصفي – نقدي(1)

                       

 

·    في ظل العولمة: العالم سينشطر إلى ثقافتين أقلية غنية وأغلبية فقيرة

·    التطورات التكنولوجية وانهيار الاتحاد السوفييتي وبروز أمريكا كقوة اقتصادية وعسكرية ساهمت في بروز ظاهرة العولمة

·    مؤيدها: تؤدي الى تفعيل حقوق الإنسان وانتشار الديمقراطية وحرية السوق

·   عارضوها: تزيد من نسب البطالة والفقر والجريمة وانتعاش التوجهات الأصولية

 

دراسة للدكتور علي زيد الزعبي:

تعتبر علاقة العولمة بالثقافة من أهم المواضيع التي زخرت بها، ولا تزال، الأدبيات الاجتماعية المعاصرة،  وقد نتج عن تلك الكتابات العديد من الآراء ذات الطابع الاختلافي خاصة في تفسير كل من "العولمة" و"الثقافة" أو في تبيان الإشكاليات التي ستنتج عن علاقة كل منهما بالآخر، لا سيما إشكالية "التوقع الثقافي الكلي" على ثقافة واحدة محددة أو "الإذعان الكلي" للثقافة الاستهلاكية التي تطرحها العولمة·  وتأتي أهمية هذا البحث في الكشف عن هذه الآراء والتوجهات من خلال تقديم عرض وصفي-نقدي لا ينتهي إلى تبيان نوعية وطبيعة أدبيات العولمة والثقافة فقط، بل يهدف -أيضا- إلى تقديم بعض من الآراء الذاتية التي تقدم منظورا آخر من شأنه أن يخلق، من خلال الاستفادة من أدوات العولمة، حالة من "التقارب الحضاري" فيما بين الثقافات الإنسانية المتباينة من أجل المساهمة في بناء مجتمع إنساني عالمي قادر على مواجهة التحديات والمخاطر المستقبلية والمتمثلة في زيادة نسبة البطالة، والفقر، والجريمة، وتفاقم المشاكل البيئية المتنوعة، وانتعاش "التوجهات الفكرية الأصولية" في مقابل انحسار أو تهميش بعض من المبادئ الإنسانية كالحرية والديمقراطية·

منذ عشر سنوات، شغلت "علاقة" العولمة بالثقافة أو الثقافة بالعولمة والإشكالية المترتبة على هذه العلاقة بال الكثير من الباحثين، حتى أصبح لهذه الدائرة البحثية حضورها المكثف على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية الرسمية منها وغير الرسمية، وللدرجة التي أصبح فيها من المتعذر على المتابع حصر جميع الأدبيات التي تناولت هذا الموضوع·  ويبدو واضحا أن الاهتمام بهذا الموضوع قد فاق في "سخونته" و"إغرائه" جميع المواضيع والقضايا التي شغلت فكر البشرية في المئة عام الأخيرة، لا سيما قضايا "الحداثة" و"ما بعد الحداثة" و"التنمية" و"الديمقراطية" وغيرها·  والمدهش في كل ذلك هو أن "مناقشة" العلاقة فيما بين العولمة والثقافة لم تعد محصورة على النخب الفكرية فقط، بل إنها أصبحت حديث الجميع بمن فيهم رجل الشارع العادي·

وعلى الرغم من أهمية ما تطرحه الأدبيات التي تناولت موضوع "العولمة والثقافة"، إلا أن المفارقة التي تلفت انتباه المشتغل في حقل الثقافة الإنسانية، تكمن في أن غالبية هذه الأدبيات قد حصرت جل اهتماماتها في دائرة "استشراف" العلاقة فيما بين "المتغير الاقتصادي" (المعولمُ) و"المتغير الثقافي" (المحلي) دون أن تسعى، وبشكل إيجابي، إلى تقديم منظور موضوعي من شأنه أن ينظم علاقة العولمة بالثقافة أو الثقافة بالعولمة من أجل تجاوز إشكالية "التقوقع الثقافي الكلي" على ثقافة واحدة محددة أو "الإذعان الثقافي الكلي" لـ "أيديولوجية السوق المعولم"، خاصة إذا ما علمنا أن استراتيجية "التقوقع" أو "الإذعان" الثقافي سوف تفشل في مجابهة أخطار المستقبل الحادة والمتنوعة·

أما المشكلة الأخرى التي عانت منها  الأدبيات، والتي أخفقت في صياغة "بعد جديد" للعلاقة فيما بين العولمة والثقافة، فيتمثل في تركيزها على الأطروحات والمنطلقات الفكرية النابعة من الاقتصاد والسياسة فقط· ولعل هذا ما يجعل المرء يجادل على ضرورة معالجة هذه العلاقة من خلال "منظور آخر" يهدف إلى  تحقيق المكاسب المتبادلة فيما بين المجتمعات الإنسانية وثقافاتها المتباينة في العصر القادم، عصر الاقتصاد المعولم، وهذا ما يسعى الباحث إلى تحقيقه في سياق هذا البحث·

 

إن أهمية هذه الدراسة، فيما أزعم، تكمن في تقديمها لـ "منظور" هو "المنظور الثقافي"، والذي هو عبارة عن "مساهمة بحثية" تفترض ضرورة استغلال التطورات التكنولوجية الهائلة في مجال الإعلام والاتصالات من أجل خلق حالة من التقارب الحضاري-الإنساني فيما بين الثقافات الإنسانية المتباينة، مع أحقية كل منها بالاحتفاظ بخصوصيتها وتجربتها التاريخية والإنسانية·

من ناحية أخرى، يرتكز هذا المنظور الثقافي في مكوناته على مفهومين مهمين هما: "الشراكة المستقبلية" و"المبدأ الحواري"، فهذان المفهومان يشكلان آلية من شأنها أن تخدم البشرية قاطبة في تجاوز المشاكل الخطيرة المتوقعة في المستقبل غير البعيد، والتي تهدد حياة الإنسان، سواء في الشمال أو الجنوب·

 

العولمة والثقافة: الاحتفاليون في مواجهة العصابيين 1

 

ساهمت التطورات التكنولوجية في مجال الإعلام والاتصالات، وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وانهيار المنظومة الشيوعية الشرق أوروبية، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة اقتصادية - عسكرية تتربع على عرش العالم، أقول ساهمت تلك التطورات في  بروز ظاهرة "العولمة" (Globalization)، والتي تهدف إلى تحقيق "سيادة نمط اقتصادي عالمي واحد له قواه المنتجة، وله أيديولوجيا وفكر وثقافة وأدب معبرة عنه وعن طبيعته" (منير الحمش، 1998 : 53)·

وعلى الرغم من أننا أمام ظاهرة جديدة مازالت في بداية تشكلها، إلا أن القراءات والآراء التحليلية لظاهرة العولمة وتداعياتها المستقبلية اتسمت بالتناقضات الحادة والتي بطبيعتها تعكس إدراكا ذاتيا يعتقد أنه موضوعي وصادق·  ولا عجب، إذاً، أن هناك من يقابل قدوم هذه الظاهرة "بروح احتفالية" باعتبارها مرحلة تعلن عن "نهاية للتاريخ"2  وانتصار لـ "الليبرالية الجديدة" (3 Francis Fukuyama، 1989: p.p. 3-18)، وهناك من يقابلها "بروح عصابية" باعتبارها فخاً للرفاهية الاجتماعية وللديمقراطية ولإنسانية الإنسان (هانس-بيتر مارتين وهارالد شومان، 1998: 60، و Michel Chossudovsky ، 1998: p.p. 5-7)، أو باعتبارها استعماراً أمريكياً جديداً هدفه "أمركة" العالم (مصطفى الطحان، 1998: 25)، أما الآخرون فإنهم يشككون بمسألة تحقق العولمة بصورتها الكاملة، لأن التاريخ الإنساني وتطوره قائم على مبدأ "تصادم الحضارات" (4 Samuel Huntington، 1993: p.p. 22-48)، أو لأن محاولة إخضاع النظم الاجتماعية، المحلية والعالمية، لمتطلبات قوانين سوق العمل هي عبارة عن مشروع وهمي غير قابل للتطبيق (منير الحمش، 1998: 52)·

هذا فيما يختص بالجانب السياسي-الاقتصادي·  أما فيما يختص بالجانب الثقافي، فإنه يلاحظ أن الأدبيات التي تناولت موضوع علاقة "العولمة بالثقافة" ومستقبل هذه العلاقة قد تمخضت هي أيضا عن آراء اختلافية متنوعة، وإن كان الاختلاف يأخذ الشكل البسيط-المحدود في بعض الأحيان والشديد-المتناقض في أحيان أخرى·

فهناك من يرى أن العولمة لا تحترم مبدأ السيادة الثقافية (أحمد المشيحي، 1999: 2)، إذ أن الهدف الرئيسي الذي تسعى إلى تحقيقه هو تذويب الثقافات الإنسانية المتباينة بثقافة ذات طابع أحادي لها القيم والمعايير نفسها (السيد يسين، 2000: 27، ومحمد عابد الجابري، 2000: 301)   ولأن ثقافة العولمة "تروج لما هو سهل وسريع وبسيط" (هانس-بيتر مارتين وهارالد شومان، 1998: 46)، فإن اعتمادها الرئيسي يقوم على تطوير التكنولوجيا وخدماتها للتأثير على حياة الناس وأسلوبهم في المعيشة والتفكير والمعتقد واللغة والزواج وغيرها من مكونات الثقافة الأخرى·

وإذا كانت ثقافة العولمة هي ثقافة الصورة والبلاغة الإلكترونية، فإن طبيعة هذه الثقافة، كما يرى البعض الآخر، تتميز في أنها "… تبشر بلذوية الحاضر من خلال كل آليات المتع الحسية وتقنيات الإثارة المصاحبة لها" (مصطفى حجازي، 1998: 151)، ولذلك فهي تسعى إلى تحقيق سيادة "نمط التشيؤ"5 من خلال العمل الجاد على تحويل كل شيء إلى سلعة متداولة في السوق، بما في ذلك مكونات الثقافة التي ستخضع لقانون العرض والطلب مثلها مثل أي سلعة أخرى (أحمد حجازي، 1999: 130، وعبد السلام المسدي، 1999: 115)· ولا يتردد مصطفي الطحان 1998: 27))، والذي يتفق مع هذه الرؤية، في تقديم صورة سوداوية عن ثقافة العولمة التي يعتبرها نوعا من الهيمنة الأمريكية في الناحية الثقافية، والتي تهدف في محصلتها النهائية إلى تمجيد الجنس، وانفلات المرأة تحت ستار التحرر، والإباحية، وتغيير النظرة العامة تجاه الشواذ·

ويذهب (الأنثروبولوجي Gernot Kholer 1993: 263) إلى ابعد من ذلك عندما جادل على أن العولمة ستقود إلى مرحلة من "التمييز العنصري المعولم" 6 (Global Apartheid) في جميع مظاهر الحياة بما فيها الثقافة، إذ أن العالم وفقا لبنائية هذا النوع من التمييز سوف ينشطر إلى ثقافتين: "ثقافة الأغنياء" (الأقلية) التي ستتحكم في العالم و"ثقافة الفقراء" (الأكثرية) والمغلوبة على أمرها (ثقافة من يملكون في مقابل ثقافة من لا يملكون)، ولكل ثقافة من هاتين الثقافتين بنيويتها وقيمها وسلوكياتها الخاص بها·  ويتحدث المفكر العربي علي حرب عن "المجتمع السبراني" (Cyber Society) الذي هو عبارة عن مجتمع ذي ثقافة عالمية بدأ يتشكل فوق جميع المجتمعات الإنسانية وثقافاتها، والذي يقوم على أساس رابطة جديدة ناشئة عن الاشتراك في شبكات الإنترنت، وهو مجتمع يتميز أفراده بالتحرر من الانتماءات اللغوية والقومية أو الثقافية والدينية أو الجغرافية والوطنية(2000: 104) 7 ·

على العكس من ذلك، ترفض الأنثروبولوجية Anna Tsing  قبول الفكرة التي تدعي أن بمقدور العولمة المساهمة في صنع ثقافة إنسانية واحدة، لأن العولمة - كمنهجية اقتصادية - تقوم على "برامج متعددة وتطبيقات متنوعة وعمليات مختلفة لا أحد يعلم إن كان جميعها ستتوحد مع بعضها البعض في مرحلة تاريخية قادمة أم لا" (2000 :334 أما أولف هانرز 2000: 225) فإنه يعتقد في أن هناك ثمة سوء فهم لما تتميز به الثقافة العالمية الموجود الآن، والتي، وعلى النقيض مما ذهب إليه الكثيرون، تهدف إلى تنظيم التنوع الثقافي وليس لإحداث التجانس، لأن التجانس الكلي لأنساق المعنى والتعبير على المستوى الثقافي لم يحدث ولن يحدث في المستقبل·

من ناحية أخرى، يذهب كل من (سيمون ديورينج 1999: 39 وحيدر إبراهيم 1999: 120) إلى رفض الفكرة التي تدعي أن بمقدور العولمة تذويب الثقافات الإنسانية المتباينة في ثقافة إنسانية واحدة·  والحجة التي ينطلقان منها هي أن تشابه المجتمعات الإنسانية في استهلاك "وقت الفراغ" وانتشار "الثقافة الاستهلاكية" بين أفرادها لا يعني ضرورة التشابه في القيم والمعايير والسلوكيات والتصرفات الاجتماعية، لأن هذا النوع من التشابه/التأثير لا يمس جوهر الثقافات ورؤيتها للعالم والتي تتمظهر عادة في دين أو عقيدة أو قومية·  إن الثقافة، وكما يجادل سيمون ديورينج، "هي المجال المحدد الذي تبرز فيه بكل وضوح الخلافات والحدود الداخلية في نطاق النظام الكوني" 1999: 49))·

وإن كان البعض يرى أن تحقق العولمة بمظهرها الكامل سوف يؤدي إلى خلق ثقافة إنسانية واحدة أو خلق ثقافتين متمايزتين، وإن كان البعض الآخر يشكك في ذلك ويجادل على أن الثقافات سوف تشكل "بؤرة الصراع والمقاومة" ضد عملية التنميط الثقافي ذي البعد الواحد والذي تسعى العولمة إلى تحقيقه، فإن هناك من يرى أن مثل هذه الافتراضات هي في غير محلها·  إن تمايز الثقافات المحلية وتلاقيها مع بعضها البعض يخدم الرأسمالية العالمية من خلال التباين في الاختراعات وإنتاجها وتسويقها وهو ما ينتج عنه منافسة عالمية اقتصادية (أولريش بك، 1999: 74)· فالعولمة، وفقا لرأي بك، تقوم على، أو لا يمكنها أن تقوم إلا على، ضرورة التباين والتنوع الثقافي والمكاني·

وعلى الرغم من تعدد الآراء وتضاربها حول علاقة "العولمه بالثقافة" والآثار المستقبلية المترتبة على هذه العلاقة، إلا أنه من الواضح أن معظم الآراء، والتي يصعب حصرها، تدور في فلك الرأيين التاليين: تلك التي " تحتفل" بـ أو " تتخوف" من سيادة ظاهرة العولمة وأيديولوجيتها على جميع جوانب الحياة، لاسيما الجانب الثقافي·  بعبارة أخرى، يؤمن البعض من الذين تناولوا هذا الموضوع، وبصورة لا تدعو للشك، في أن المجتمعات الإنسانية وثقافاتها هي في طور الدخول إلى مرحلة تاريخية سيسودها الفكر الليبرالي الجديد القائم على مبادئ عدة لعل أهمها : سيادة حرية السوق، وعالمية انتقال رؤوس الأموال، وسقوط الحواجز الجغرافية، وانتشار الديمقراطية، وتفعيل حقوق الإنسان، وغيرها·

أما البعض الآخر فقد رأى في الآثار الأولية لظاهرة "العولمه" مؤشرات سلبية وخطيرة على الإنسان وثقافته، وهي مخاطر تتمثل في زيادة نسبة "البطالة" و"الفقر" و"الجريمة"، وانتعاش "التوجهات الفكرية الأصولية" في مقابل انحسار أو تهميش بعض من المبادئ الإنسانية المُثلى كالحرية والرفاهية والديمقراطية·

والنتيجة التي نصل إليها هي أن مثل هذه الآراء السابقة لابد أن  تقودنا إلى منظور مفاده انشطار العالم إلى عالمين: عالم الثقافة الإلكترونية وعالم الثقافة الأصولية8)  مصطفى حجازي، 1998: 172)·  هذا الانشطار الثنائي، أو التضاد الثنائي، المتمثل في "التكنولوجيا" مقابل "التراث"، يعبر نظريا، وبصورة واضحة، عن توجه يعكس، دون وعي، الصراع اللاهوتي الثنائي القديم والقائم على فكرة "الجسد" مقابل "الروح" (انظر Sahlins Marshal  ، 1995: p.p. 3-4) والتي تدرجت تاريخياً في الفكر الإنساني حتى وصلت أقصى درجات تطورها في "الثنائية الحديثة" التي قالت بها مدرسة ليفي ستراوس "البنيوية" التي تصور عالم الإنسان باعتباره نِتاجاً لثنائيات متناقضة مصدرها البُنى الخفية للعقل الإنساني، والتي يطلق عليها منطقـة "اللاوعي" (انظرLevi-Strauss ، 1963: Ch. 1 passiim)  ولعل خطورة هذه الثنائية المتضادة تكمن في الوقوع في المحظور المتمثل في التالي: إما "أن نكون مع العولمه"، أو "نكون ضدها"! بعبارة أخرى إما على المجتمعات الإنسانية أن تستسلم وتفتح الباب على مصراعيه "لقوى السوق" وأيديولوجيتها وتقبل بذلك الخضوع لعملية "الاستلاب  الحضاري"، أو أن عليها التقوقع في ذاتيتها معلنة "الانعزال" و"العزلة" عن الآخرين·

ما بين "الاستلاب" و"الانعزال" تبدو التفسيرات أقل منطقية وأكثر ضبابية، لأن التاريخ الإنساني لا يدعم فرضية "السيطرة الحضارية" المطلقة، كما أنه، وفي الوقت نفسه، لا يقر فرضية "العزلة الثقافية" التامة· بناءً على ذلك، تتأتى أهمية صياغة المنظور الثقافي، والذي هو عبارة عن مشروع إنساني متواضع يمكن الاستفادة منه في فهم وتطوير العلاقة فيما بين العولمة والثقافة·  إنه مشروع يهدف إلى تجاوز إشكالية العلاقة فيما بين العولمة والثقافة باعتبارهما ظاهرتين متناقضتين ومتصارعتين، ويتجاور -أيضا- الآثار السلبية المستقبلية الناجمة عن التطبيقات السلبية لأيديولوجية العولمة، والتي ستؤدي إلى ازدياد الاضطرابات الايكولوجية نتيجة لتلوثات البيئة، ناهيك عن دخول العالم في حالة من "الهيجان" أو "الهستيريا" بسبب زيادة الفوارق الطبقية بين "القلة الثرية" والجموع الهائلة من البشر التي تزداد فقراً يوماً بعد يوم بسبب العولمه، والتي ستؤدي، أي هذه الحالة الهستيرية، إلى بروز أيديولوجيات الاستبداد والعنف والإرهاب·

 

المنظور الثقافي: شراكة المستقبل ومستقبل الشراكة

 

تنطلق أهمية المنظور الثقافي من كونه منظورا شاملا يتجاوز في فلسفته مشاكل المنظور السياسي القائمة على فلسفة "الصراع"، و"القوة "، و"تحقيق المصالح"، ومشاكل المنظور الاقتصادي القائمة على فلسفة "الإنتاج"، و"التكلفة"، و"الربح والخسارة"·  على سبيل المثال، يلاحظ أن المنظور الاقتصادي، والذي حددته قوى العولمه، لا يهدف فقط إلى سيادة حرية السوق المطلق تحت شعار "دعه يعمل"، وإنما، وهنا تكمن الخطورة، يجنح -أيضا- نحو إرغام الدول على نزع "المزايا الاجتماعية" عن الموظفين والعمال من خلال تقليص الخدمات الاجتماعية لكي تصبح هذه الدول أكثر إغراءً وجذباً للمستثمرين (جيرالد بوكسبرغر وهارالد كليمنتا، 1999: 33)·

ويُلاحظ أن التركيز على "المتغير" الاقتصادي، وتجاهل المتغيرات الأخرى المهمة في حياة الإنسان، لا تنم فقط عن "تعسفية" قوى العولمه، بل -أيضا- عن عدم إدراك هذه القوى لما تطرحه من أيديولوجية ترتكز على مفاهيم وخطوط متناقضة: ففي الوقت الذي تنادي فيه قوى العولمه بالحرية، تسعى هذه القوى إلى تحقيق دكتاتورية السوق؛ وفي الوقت الذي تنادي فيه بالتعددية والديموقراطية، تحاول هذه القوى فرض الرأي الواحد والنمط الاستهلاكي الأحادي؛ وفي الوقت الذي تنادي فيه بالرفاهية، تطالب هذه القوى بنزع المزايا الاجتماعية وتوسعة دائرة الفقر·  ولعل ذلك ما حدا ببعض الاقتصاديين أمثال ميشيل كامديسو، رئيس صندوق النقد الدولي، وجيمس ولفنسون، رئيس البنك الدولي، أن يتحدثا، ولأول مرة، عن ضرورة مراعاة البُعد الاجتماعي في قرارات وممارسات صناع العولمه وأباطرتها (انظر مصطفى الطحان، 1998: 29)· بل ويذهب البعض من المفكرين الغربيين إلى أبعد من ذلك حين يطالبون بضرورة "إعادة تأهيل الاقتصاديين … بيئياً واجتماعياً" (مصطفى حجازي، 1998: 176)·

من جهة أخرى، يلاحظ أن المنظور السياسي لا يراعي الأبعاد والآثار المترتبة على تحول المجتمعات الإنسانية نحو نظام اقتصادي واحد، تحكمه قوى واحدة، وتحاول من خلاله فرض اتجاه مجتمعي وثقافي واحد·  فالحكومات والبرلمانات توقع الاتفاقيات وتسن القوانين التي من شأنها أن تلغي الحدود والحواجز لتسهيل عملية نقل رؤوس الأموال والسلع بين الدول، ولكن دون خلق ضوابط قانونية تحمي حقوق المواطنين وتحد من اتساع دائرة البؤس والفاقة، وهذا أمر سيؤدي ، آجلاً أو عاجلاً، إلى العديد من المخاطر والأزمات السياسية، والتي من أهمها بروز النزعة المتطرفة نحو تأسيس أنظمة استبدادية في العالم، خاصة في العالم الغربي، كتلك التي يتزعمها بوب بوكنان (Bob Buchanan) في الولايات المتحدة الأمريكية، وونستون بيترز (Winston Peters) في نيوزلندا ، وجورج هايدر (George Haider) في النمسا، وهي توجهات أضحت تنتشر كرد فعل على تطبيق الفلسفة الاقتصادية التي تتبناها قوى السوق الجديدة 9·   إن هذه النزعة المتوقع حدوثها في المستقبل تعكس الحقيقة التالية: "كل ما تعمقت ]العولمة[ الاقتصادية تشرذمت الأبنية السياسية، فتظهر النزاعات القومية كرد فعل لهذه العملية، تلك النزاعات التي تأخذ أحياناً صوراً بالغة التطرف، دفاعاً عن الانتماء، سواء كان وطنياً أو قومياً أو دينياً" (أحمد حجازي، 1999: 127)·

ولتجاوز الأزمات والكوارث المستقبلية، الناتجة عن ضيق أفق المنظورين السياسي والاقتصادي، تبرز أهمية المنظور الثقافي الذي لا يقر مبدأ "الاندماج الكامل" في العولمة أو مبدأ "العزلة التامة" عن العالم·  إن المنظور الثقافي يعي جيداً خطورة آلية العولمة المتمثلة بـ "الأغنياء يزدادون غُنى" و"الفقراء يزدادون فقراً"، لأنها ستخلق، بصورة أو بأخرى، مجتمعاً بلا مستقبل (جيرالد بوكسبرغر وهارالد كليمنتا، 1999: 186)، كما يعي -أيضا- خطورة صراع "الشركات المعولمه" فيما بينها على السيادة العالمية، والذي سيشكل طبيعة الصراع في المستقبل (محمود حيدر، 1999: 14)، ذلك الصراع الذي لن تردعه تفاؤلية فرانسيس فوكوياما (1996) في كتابه الذي خصصه للحديث عن "ثقة" الشركات ببعضها البعض و"الفضائل الاجتماعية" المترتبة على تلك الثقة·

إن المنظور الثقافي، وعلى النقيض من المنظورين السياسي والاقتصادي اللذين يركزان على متغيرات جزئية محدودة، يؤكد، وبصورة مكثفة، على "تناول الإنسان بكليته، جسداً، وروحاً، وعقلاً، ووجداناً" (زكي ميلاد، 1999: 18)، أي التركيز على جميع المتغيرات التي تشكل حياة الإنسان، والتي إن فهمناها فهماً جيداً فسوف تقودنا، وبسهولة، إلى تطوير العلاقات الثقافية وآليات المثاقفة فيما بين الدول والشعوب·  إلا أن هذا لا يعني مطلقاً تجاهل أهمية الدور الذي تلعبه كل من "السياسة" و"الاقتصاد" في حياة الثقافات الإنسانية وفي صنع عالم اليوم والمستقبل·  إن ما يهدف له المنظور الثقافي هو إدخال "البُعد الثقافي" في فهم العلاقات الثقافية-الدولية، بما فيها العلاقات السياسية والاقتصادية، من أجل تخفيف حدة الأزمات السياسية والاقتصادية، وتجاوز معضلة الانحدار الاجتماعي المستقبلي والناتجة عن الحروب الأهلية، والفقر، والمجاعات، والمخدرات، والإرهاب، والجريمة المنظمة ·· وكلها مشاكل ستقود إلى "تفجير كثير من المتناقضات الداخلية القائمة بين مفاصل الحلقات التي تتشكل منها سلسلة العولمة" (عبدالسلام المسدي، 1999: 117)·

يتبع

 

·         البحث نشر في مجلة السياسة الدولية عدد 158 أكتوبر 2004·

 

* * *

 

الهوامش

 

(1) في هذا البحث، يستخدم مصطلحي "الاحتفاليون" و"العصابيون" بقصد التمييز بين الكتابات التي تناولت ظاهرة العولمة·  فمصطلح "الاحتفاليون" يشير هنا إلى تلك الكتابات التي استقبلت ظاهرة العولمة بروح من الاحتفال والتفاؤل لاعتقادها بأن العولمة ستهيئ المجتمعات الإنسانية للدخول في مرحلة جديدة تسودها حالة من الرفاهية والديمقراطية والحرية·  أما مصطلح "العصابيون" فيشير إلى تلك الكتابات التي عكست نوعا من التوجس والتخوف والتردد من سيادة نمط العولمة لأنها، وكما تجادل هذه الكتابات، ستقود العالم نحو كوارث إنسانية وبيئية متنوعة لصالح ثلة من القلة المنتفعين والذين يهدفون إلى السيطرة على ثروات وخيرات هذا العالم·

 

(2) "نهاية التاريخ" هي عبارة عن مقولة استخدمها المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما للتعبير عن انتصار الحضارة الغربية وقيمها على بقية الحضارات الإنسانية الأخرى·  فمثلما استخدم الفيلسوف الألماني نيتشه مقولة "موت الإله" للإشارة إلى نهاية الفلسفات الميتافيزيقية، جادل فوكوياما على أن العالم هو في طور الدخول إلى مرحلة الاقتصاد الرأسمالي الغربي المعولم والتي ستنتج عنها حالة تاريخية جديدة تنتشر فيها وتسود من خلالها ثقافة العالم الغربي في مقابل اضمحلال الثقافات والايديولوجيات العالمية الأخرى·

 

(3) الليبرالية الجديدة أو الليبرالية المحدثة، كما تسمى أحيانا، هي عبارة عن مذهب اقتصادي روج له الاقتصادي الأمريكي ملتون فريدمان في كتاباته المتنوعة التي صدرت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين·  ويرتكز هذا المذهب على مبدأين أساسيين هما(1)  تقويض "التدخل الحكومي" في شئون الاقتصاد، و(2) تحرير الاقتصاد الرأسمالي من خلال عمليات "إعادة الهيكلة" و"الخصخصة" و"إزالة القيود الجمركية" (انظر جبرالد بوكسبرغر وهارالد كليمنتا، 1999: 36)·

 

(4) صدام الحضارات هي فرضية قدمها المفكر الأمريكي صامويل هانتغتون·  وتذهب هذه الفرضية، والتي دعمت بشواهد تاريخية، إلى القول في أن العالم مسكون بحضارات متمايزة من حيث التاريخ واللغة والثقافة والدين، مما يجعل من الحضارات حالة من النزاع والصراع والتنافس الأبدي·  وقد أستخدم هانتغتون هذه الفرضية للرد على فرضية فرانسيس فوكوياما والتي جادلت على القرن الحادي والعشرين هو قرن سيادة الحضارة الغربية·

 

(5) لقد تم استخدام هذا المصطلح ولأول مرة من قبل الفيلسوف Herbert Marcuse  (1966)  في كتابه المشهور One-Dimensional Man: Studies in the Ideology of Advance Industrial Society.  لقد وظف Marcuse  هذا المفهوم لتوضيح كيف تلعب المجتمعات الصناعية دورا مهما في تشكيل قيم وسلوكيات وأفكار الإنسان ليصبح مجرد شيئا مثل الأشياء الأخرى، مما ينتج عنه بالتالي تواؤما فيما بين هذا الإنسان وما تنتجه الشركات من سلع·  وقد استفاد الدارسون المعاصرون لظاهرة العولمة من هذا المفهوم من خلال ربطه بظاهرة العولمة·  ففي رأيهم أن العولمة تعمل جاهدة على تحويل كل شيء بما في ذلك الإنسان وعاداته وقيمه إلى سلع متداولة في السوق لصالح قوة حرة جديدة تتمثل في الشركات العابرة للقارات (أنظر أحمد حجازي، 1999: 130).

 

(6) قدم Gernot Kholer  فكرة "التمييز العنصري المعولم" من خلال إقامة مقارنة تحليلية جادة بين سياسة التمييز العنصري التي كانت تتبع في دولة جنوب أفريقيا و"بناء" المجتمع العالمي المعاصر·  ويرى Kholer  أن التعريف الرسمي لظاهرة "التمييز العنصري المعولم" يمكن فهمها على أنها "بناء للمجتمع العالمي الحالي" والذي يتألف من تنافرات (تضادات) اجتماعية واقتصادية وعرقية تصنف عالم اليوم على النحو التالي(1): أقلية بيضاء تتمتع بالغنى الفاحش، وأكثرية تتألف من أجناس متنوعة غير بيضاء تعيش حالة من العوز والفقر،(2) التداخل الاجتماعي فيما بين هاتين المجموعتين صعب جدا بسبب حواجز المظهر العام (خاصة لون البشرة)، والمكانة الاقتصادية، والحدود السياسية، ومجموعة أخرى من العوامل، (3) النمو الاقتصادي لكل من المجموعتين مستقل عن الآخر، و(4) الأقلية الغنية البيضاء تتمتع بامتلاك كبير للسلطة السياسية والعسكرية والاقتصادية في المجتمع العالمي المعاصر، وهي قوة تفوق بكل المقاييس ما تملكه مجموعة "الأغلبية غير البيضاء" من قوة·  إنه في ظل عدم التوازن هذا تتجسد حالة "التمييز العنصري المعولم" في بناء المجتمع العالمي المعاصر·

 

(7) يعرف علي حرب 2000: 199)" السبرانيات") في أنها "علم التحكم والضبط·  والسبراني هو وصف للواقع أو للعالم الناتج عن ثورة المعلومات التي تنتج، بتقنياتها المعقدة والفائقة، الاتصال والمراقبة والعمل من على مسافات بعيدة·"

 

(8) تقوم ثقافة العولمة على "الثقافة الإلكترونية" والتي يُعبر عنها من خلال الصورة والبلاغة الإلكترونية في وسائل الأعلام المتطورة·  وترتكز هذه الثقافة على الطابع الاستهلاكي الذي يستهدف الإنسان وكيانه بقصد حالة من "التنميط الثقافي الكوني"·  أما "الثقافة الأصولية" فهي تلك الايديولوجيات المرتكزة في مقوماتها على التاريخ واللغة والتراث·  إنها ثقافة "الإيمان باليقينيات التي انهارت"، لذلك فهي تدعي القدرة على تحقيق خلاص الإنسان من قهره وغبنه وشعوره بالضياع وفقدانه السيطرة على المصير نتيجة انغماسه بـ "عبودية المادة" و"ألوهية السوق" (أنظر مصطفى حجازي، 1998: 12، 84، 85، 151) )·

 

(9) تتميز هذه الحركات الغربية المتطرفة في أنها ليست فقط متخصصة بالتطرف ضد الآخر غير الأبيض-المسيحي، وإنما تقدم نفسها -أيضا- كأيديولوجية لها تعاريفها الخاصة في "الحياة"، و"الاقتصاد"، و"الطبيعة"، و"المجتمع"·  إنها، وباختصار، حركات "جهادية" ثقافية ترفض "الاندماج" مع الآخرين من غير الجنس الأبيض-المسيحي وتحبذ "العزلة" عنهم، ولذلك فإنها ترى في "العولمة" خطرا يهدد كياناتها الثقافية الخاصة (أنظر، على سبيل المثال، M. Marty and R. S. Appleby  ، 1994).

طباعة