رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 9 رجب 1425هـ - 25 أغسطس 2004
العدد 1642

لحرث تربة الأساطير وجسد التاريخ
نصوص تتشابك أصابعها·· بين الفيلكاوي وعباس منصور

كتب المحرر الثقافي:

قد نختلف في عموميات النصين، ونقتسم بعض الاتفاق في تفاصيلهما، ونترك مساحة لمناقشة فكر كاتبيهما، إنما نتفق على أهمية هذه الكتابة، وإلحاح زمانها وتوقيتها·

مقالة بعنوان “مواريث اليقين ومنابع العنف·· بين أحفاد إسرائيل وحفدة إسماعيل” لزميلنا الكاتب الشاعر عباس منصور، يحفر بإزميلها وجه التاريخ، وأساطيره اليهودية، البعيدة والحاضرة، يحاول أن يفضح وينسف المتعارف عليه بالفكر الأممي، ويشاكس الطاغي  من الرأي، أو ما يراد له أن يكون طاغيا، والذي تراكم بفعل أيد نعترف بذكائها وحرفيتها في نسج رداء أسود أسدلته - عبر قرون - على جدار الحقيقة، هناك على أرض نازحة عن جغرافيتنا الكونية، اُستلبت وأُفردت - بفعل التاريخ أولا - تحت ضرب معاول الادعاء·

عباس منصور بمقالته يعبر بنا نفق التاريخ، يفتش ويحقق ويتساءل، فبماذا جاء شاعرنا علي حسين الفيلكاوي بنصه الشعري “حين يقدح برق المواسم”؟؟

بقراءة نص الفيلكاوي باستطاعتنا أن نتحقق من مكانه وموقعه حيث يخاطبنا!

هو هناك في الجانب الآخر للنفق، أي إن كان عباس منصور ينقلنا معه بعربة التاريخ من حاضرنا الى الماضي، فإن الفيلكاوي يقف هناك على بلاطات ذلك الزمن (الماضي) ليخطو بنا الى إضاءات حقائق “حاضرنا”·

إن سلمنا باتجاهات النصين حيث يذهبان، وسايرناهما، فإننا حتما سنلتقي مع “ذواتنا” من جديد، وفي مناطق جديدة أيضا، غير محايدة·· وتلك هي المفاجأة·

برغم سطوع نص المقال، وثقل شموسه من جانب، وشفافية النص الشعري، وتحليقه، وتواريه خلف غيمات معانيه من جانب آخر·· حاولنا شدهما الى بعض، ليلتقيا في سماء وسطى، ذلك بالمزج بين العبارة الشعرية وإدخالها في ثنايا ردهات المقالة، وفي المكان الذي تريده العبارة الشعرية (أو جمل المقالة) دون ربكة أو تعسف·

فليسمح لنا زميلانا الفيلكاوي (الشاعر)، وعباس منصور (الكاتب هنا) أن نتصرف بنصيهما، وننشرهما بالشكل الذي ارتأيناه، ووفق “التوليفة” التي نظن أنها لن تخدش مرايا المعنى·· خصوصا وأننا رأينا أنهما (النصين) كُتبا بمداد واحد·· أحمر!!

لذا حاولنا المزاوجة·

في المبتدأ أتلمس خاشعا للخالق القيوم - جل مقامه عن كل عزيز - راجيا مددا عاصما عن كل زلل أو مذلة· ويخطر لي أن أقر بضعة إقرارات أراها لازمة لتوضيح مسلكي أمام بصيرة قارئي ومنها:

الله العظيم الخالق القيوم أكبر وأعظم من أي إحاطات تتكىء على لغة الكلام·· وأعتقده أعظم من كل نص وأكبر من إمكانات الكلام وهذا في مبتدأ الوعي الإنساني وحتى نهايته وعلى الدوام·

حياة البشر في التاريخ حسب ما أتيح للوعي الإنساني أن يصل إليها مرت حتى الآن بثلاث مراحل كما أرى أولها الاعتماد على اليقين الأسطوري لفهم واستيعاب طبيعة المخلوقات والحكمة من خلقها ثم كانت المرحلة التالية التي قامت على اليقين الديني المعتمد على خطاب السماء لأهل الأرض ثم المرحلة الأخيرة التي حل فيها العلم التجريبي للقيام بمهمة فهم العالم وطبيعة الخلائق والتعامل معها هذا وإن بقيت بعض التأثيرات غير المركزية في سيرورة الوعي تستمد مقوماتها من المرحلة السابقة والمرحلة الأسبق بدرجة أقل على خريطة الوعي البشري بامتداد الأرض الإنسانية·

أيها الوطن المستبد به

المستبد بنا

من·· يحررنا·· منك

أحفاد إسرائيل هم أبناؤه الاثنا عشر والذين تناسلوا في أرض مصر وأنجبوا أمة عرفت فيما بعد ببني إسرائيل خرج بهم نبيهم موسى من مصر بعد أربعمئة سنة صوب أرض تواترت النصوص المقدسة (التوراة - القرآن) على أن الله وعدهم بها وكتبها لهم وظلت تلك الأمة تتواتر حتى الآن·

يفتح وجه السكون ملامحه

يتسلق وحي المعابد

تاريخ أجسادنا

حفدة إسماعيل من الخطأ اعتبارهم والنظر إليهم على أنهم هم العرب فقط وذلك لاعتبارين الأول أن إسماعيل نفسه لم يكن عربيا فأبوه إبراهيم عليه السلام نزح من أرض العراق “أور الكلدانيين” صوب أرض الكنعانيين (فلسطين) وأمه سيدة مصرية تكرم عليه بها ملك مصر ضمن مكرمة كبيرة، وشيعه بها بعد ما اكتشف أمره وأن إسماعيل عليه السلام وإن يكن اتخذ من قبيلة جرهم نسبا له إلا أن أمه اتخذت له من قبل زوجة مصرية أيضا وأنجب إسماعيل حسب روايات التوراة (العهد القديم) اثني عشر ولدا كما جاء في سفر التكوين “وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل وقيدار وأربنيل ومبسام ومشماع ودومة ومسا وحدار وتيما ويطور ونافيش وقدمه· هؤلاء بنو إسماعيل وهذه أسماؤهم بديارهم وحصونهم اثنا عشر رئيسا حسب قبائلهم· وهذه سنو حياة إسماعيل مئة وسبع وثلاثون سنة وأسلم روحه ومات وانضم الى قومه وسكنوا من حويلة الى آشور التي أمام مصر حينما تجيء نحو آشور أمام جميع إخوته نزل”· وهذا الاعتبار الأول· أما الاعتبار الآخر والذي أراه أكثر وجاهة أن إسماعيل وإن كان ابن إبراهيم إلا أن اليهود لا يعدونه عبرانيا لأن أمه ليست عبرانية ولا يعدونه من أنبيائهم ولم يأخذوا عنه شيئا وفي المقابل نجده جد الرسول محمد عليه السلام رفع مع أبيه قواعد أول بيت لله وضع للناس في الأرض·· وأن الأمة في الإسلام لا تقوم على عرق كما اليهود بل تقوم على الرسالة ولذا يكون من المناسب والأوفق والحال كذلك أن نعتبر كل المسلمين من عهد محمد عليه السلام وحتى الآن هم حفدة إسماعيل·

فيما يتعلق بدور أحفاد إسرائيل في تاريخ البشرية تختلف الرؤى وتتعارض في أحيان كثيرة ما بين النظرات الدينية والرؤى التاريخية التي لم تكن محل اتفاق أبدا·

إذا كان هناك صراع بين أحفاد إسرائيل وأمة أخرى فالأكيد حسب معتقدات الإسرائيليين وحسب الحصاد التاريخي أن الأمة المرشحة لهذا الصراع هي أمة المسلمين وليست أمة العرب والفرق بينهما كبير·· فالعرب وحسب التاريخ كانوا يتعايشون سلميا كأروع ما يكون مع الإسرائيليين في بلاد العرب وخصوصا يثرب، كما أن العرب وزعيمهم أبا سفيان تحالفوا مع الإسرائيليين في حصار المسلمين في يثرب ومن الوجهة الحضارية لا أجد أمة مرشحة للتوافق مع بني إسرائيل أكثر من العرب، وخصوصا إذا نظرنا للمواريث الحضارية للأمم المجاورة على تلك البقعة من شرق المتوسط فبين العرب وبني إسرائيل وخصوصا قبل الإسلام قواسم حضارية مشتركة أهمها أن كليهما لا يمتلك من صيغ الحضارة سوى النص القائم على اللغة كما أنهم يتخذون من التجارة والرعي سببا للعيش، بينما تمتلك الأمم المجاورة شرقا وغربا صيغا وأسبابا أخرى·· وقد جاء الإسلام طارحا نصا جديدا ينسف احتكار الإسرائيليين للوعي الديني وينال من مكانة الشعر والشعراء لدى العرب·· ولذا يمكننا فهم واستيعاب هذا النفي المتواصل والحاسم بأن يكون القرآن شعرا أو أن يكون الرسول شاعرا “وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين” (69 يس)·

آلهة الحرب يقتسمونك خارطة للدمار

وأنت على غيمة الزيت ما مت

منتظرا موعدا للحصاد القديم··· الحصاد الأكيد

أعنف مواريث اليقين ذلك الذي يقوم على الدين وخصوصا الجانب الغيبي منه إذ لا بد أن تكون كل قناعة مطلقة ويبدو البشر أمامه صنفين لا غير إما مصدق أو مكذب، مؤمن أو كافر ولا قناعة نسبية أمام ما يطرحه· ندخل الى تفصيل مواريث العنف بين الإسرائيليين والمسلمين (حفدة إسماعيل) وأول ما يقع عليه الوعي في هذا السياق التصور الخاص للإله، فصورة الإله في أسفار العهد القديم تتناقض كلية مع صورته في القرآن الكريم، كتاب حفدة إسماعيل·· ولعل الحوار المدهش بين أبي بكر الصديق وفينماس (أحد اليهود بيثرب بعد الهجرة إليها بوقت قصير)، لعله يلخص التصور الإسرائيلي عن الإله كأبلغ ما يكون يقول الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه حياة محمد “وبلغ الجدال بين اليهود والمسلمين حدا كان يصل أحيانا مع ما كان بينهم من عهد الى اعتداء بالأيدي وحسبك لتقدر هذا أن تعلم أن أبا بكر على ما كان عليه من دماثة الخلق وطول الأناة ولين الطبع تحدث الى يهودي يدعى فنخاص يدعوه الى الإسلام، فرد فنخاص بقوله: والله يا أبا بكر ما بنا الى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا· وإنا عنه أغنياء وما هو عنا بغني ولو كان غنيا عنا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم· ينهاكم عن الربا ويعطيناه ولو كان عنا غنيا ما أعطانا” وفنخاص يشير هنا الى قوله تعالى “من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة” 245 البقرة، فالإله لدى العبرانيين وخصوصا بني إسرائيل هو إله خاص بهم وليست له وصاية أو قيومية على أمم أخرى وقد انتخب هذا الشعب ليكون إلها عليهم وبذا فالإسرائيليون هم شعب الله الذي اختاره وإله بهذه المواصفات انسحبت ملامح صورته على العهود السابقة على نبيه إسرائيل منذ بدء الخلق حيث خلق الكون·

المعروف وغير المعروف في أيام ستة وتعطل عن العمل في اليوم السابع فاتخذه بنوه عيدا لهم وحرموا العمل فيه· والإنسان في هذا التصور هو ابن الله على صورته خلقه بينما المرأة ليست من الإنسان بل هي بنت الناس وبعد ما خلق إله العبرانيين الإنسان (آدم) وزوجته خشي منه وخصوصا بعدما أكل من شجرة المعرفة فانكشف عنه غطاؤه وصار عارفا بما حوله فبادر الرب بطرده من الجنة حتى لا يأكل من الشجرة الأخرى والتي هي أصل الخلود، ومن أكل منها صار سرمديا لا يموت ولذا يجيء النص في سفر التكوين كالآتي “وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا الى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة”· فمن الواضح أن إلها بهذه الصورة يخشى من قدرة الإنسان على منافسته والنيل منه أنه يتعارض كليا مع صورة الإله لدى المسلمين ويكفيك تذكر سورة الإخلاص في القرآن الكريم·· “ولم يكن له كفوا أحد” أو آية الكرسي في سورة البقرة “الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم”·

وضع ذلك في مقابل تلك “وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولدهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات· فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا· فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان الى الأبد· لزيفانه هو بشر وتكون أيامه مئة وعشرين سنة· كان في الأرض طغاة في تلك الأيام· وبعد ذلك أيضا إذا دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا· هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم· ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض· وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم· فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض· وتأسف في قلبه· فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته” من 1 الى 7 الإصحاح 6 التكوين·

وكان ذلك مبررا لتدمير البشرية بالطوفان أيام نبيه نوح وقبل قدوم الإسرائيليين· ولك أن تلاحظ أن الإله يندم ويتأسف ويحزن على أنه عمل الإنسان· وبعد أن اختارهم شعبا له منذ النبي إبراهيم وخصص لهم أرضا سيمكنهم منها بعد حوالي 600 عام على يد نبيهم يوشع بن نون فتى النبي موسى الذي خرج بهم من مصر عقب 400 سنة من الحياة في أرض المصريين· يقول لهم إلههم في زمن نبيهم يوشع بن نون “وأعطيتكم أرضا لم تتعبوا عليها ومدنا لم تبنوها وتسكنون بها ومن كروم وزيتون لم تغرسوها تأكلون” 13 سفر يوشع 23·

نعرف الآن

تعرف·· تفهم·· نعرف··

كم كان رب العهود القديمة

يهوى المرابين

كم كان يجلس بين مقاهي الشتات

ويكتب ميثاقه الأبدي

يوقِّع صك الإبادة

يسرق من نبضك الزرع

يطعمه للخريف

فمن المفهوم في سياق كهذا أن للعالم آلهة كثيرة إلا أن إله إسرائيل يغار ويغضب عندما يتركه شعبه ويعبدون آلهة الشعوب الأخرى فيتخلى عنهم ويتركهم نهبا لتلك الشعوب “وعادوا بنو إسرائيل يعملون الشر في عين الرب وعبدوا البعليم والعشتاروت وآلهة آرام وآلهة صيدون وآلهة مؤاب وآلهة بن عمون وآلهة الفلسطينيين وبيد بني عمون” 6 قضاة 10·

وهذا نفسه ما يشير إليه القرآن حيث هناك عهد بينهم وبين الله الذي يظل وفاؤه للعهد معهم بالتزامهم هم بالعهد فعلام عاهدهم الله؟ وعلام عاهدوه؟ “يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون” 40 البقرة· “يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين” 46 البقرة، وإذا تتبعنا السياق سنجد أن ذكر بني إسرائيل ورد ثلاثا وأربعين مرة في القرآن، كلها في مقام التذكير بالعهد والتوبيخ على الإخلال به هذا بالإضافة الى المواضع التي ورد فيها ذكر اليهود عن طريق نبيهم موسى أو يا أيها الذين هادوا أو اليهود “وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين· يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين” 20، 21 المائدة·

تحتبل الأرض·· أرضك كنعان

تصبح بين فضائين

أغنية للخلاص

وبابا صغيرا يدق الرياح العتيقة

فإذا كان لنا أن نجتهد في مسألة فالأولى أن ننصرف نحو تحديد طبيعة ذلك العهد بين الإسرائيليين وربهم والذي أراه بعد تقصي الكثير من آيات القرآن الكريم وما ورد في أسفار العهد القديم أراه لا يخرج عن إلزامهم بعبادته والإخلاص لتعاليمه في مقابل رعايته لهم وجعلهم فوق الأمم المجاورة يسودون عليهم ويرثون أرضهم·· “وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذوي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون” 83 البقرة “ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل” (12) المائدة·

أمة تلو أخرى تصلي

وراء نهاياتها

مرة تلو أخرى على هيكل الدم نذبح

نمنح تاريخنا الوهم

يمنحنا الراحلون الى القادمين

بأمواتنا وبأوهامنا

لا تزال هنا وهناك

معلقة في فضائين أقدامنا

نقتفي أثرا كان أو لم يكن

بل إن إله الإسرائيليين وضع لهم حدا كعلامة فاصلة تبين الالتزام بالعهد والقيام عليه وهي “يختتن منكم كل ذكر· فتختتنون في لحم غرلتكم· فيكون علامة عهد بيني وبينكم” 10، 11 تكوين 17، وأما العهد فهو “أما أنا فهو ذا عهدي معك وتكون أبا لجمهور من الأمم· فلا يدعى اسمك بعد إبرام بل يكون اسمك إبراهيم· لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم· وأثمرك كثيرا جدا وأجعلك أمما· وملوك منك يخرجون وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا”· من 4 الى 7 تكوين 16·

تسن الرياح

ويقدح برق المواسم

مفتتحا للرجوع البيادر

يبذرك الضوء تحت دم الشهداء

تعود بأجسادهم من جديد

وفي هذا السياق وبخصوص علامة العهد التي هي الختان حيث يقوم الإسرائيلي الملتزم بالعهد باقتطاع جزء من جسده “لحم غرلته” كدليل على الوفاء بالعهد بخصوص ذلك يذكر علماء الآثار والحضارة ومنهم جيمس بريستد أن عادة الختان كانت موجودة عند قدماء المصريين قبل الميلاد بأكثر من خمسة وعشرين قرنا ومن المعروف أن إبراهيم نزل الى مصر وعاش فيها مدة في القرن الثامن عشر قبل الميلاد تقريبا كما أن نسل إسرائيل بأكمله تغرب في أرض المصريين أربعة قرون قبل خروجهم صوب أرضهم الموعودة·

تعرف كنعان

تفهم

قبل ولادتنا

قبل أن يولد الوقت

نحن الذين نموت

بلا وطن وبلا جسد

لا تزال على الهيكل الدموي

تسطر أضلاعنا

إن البحث عن طبيعة الدور الإسرائيلي في حياة البشرية يتطلب إلماما بسياقات كثيرة منها الأدب العبراني وكتب الإسرائيليين المقدسة، وكذلك القرآن الكريم ونتاجات أبحاث علماء الآثار والحضارة ومن المدهش أن تطالعك تلك اللغة المثيرة في قوله تعالى في القرآن الكريم “وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون” 61 البقرة·

ليذبح سور المعابد أوثانه

ويطفئ وحي المساجد

ضوء الكنائس

رب المرابين

ما زال يطعم مزماره حجرا

وتطارد منفاك لعنته الأبوية

لعنته الأبوية تشطر رأسك نهرين

فمن المعروف من خلال القرآن وأسفار اليهود وحتى زمن النبي موسى لم يكن الإسرائيليون أو العبرانيون قد قتلوا أحدا من الأنبياء فالأنبياء ومنذ إبراهيم وحتى موسى متواترون لم يقتل منهم أحد إنما القتل قد حدث بعد ذلك في أزمنة لاحقة بعد استقرارهم في أرض الفلسطينيين بعد الخروج من مصر، والأنبياء المتواترون في القرآن والعهد القديم لتلك الفترة هم إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف ثم موسى ولم يقتل منهم أحد فكيف يذكر السياق القرآني في الآيات السابقة “ويقتلون الأنبياء”؟ ربما يحتاج الأمر فهما آخر ومن المنظور الإيماني الحق الى فهم حقائق الرسالات المنوطة بكل ما خلق الله من كائنات وأجناس وخصوصا إذا تذكرنا أن بني إسرائيل من أكثر الأمم التي تجاوزت التشريعات السماوية وأن الخالق حسب النص القرآني قد حرفهم في إحدى عقوباته لهم عن طبيعته لهم عن طبيعة الإنسية فجعل منهم القردة والخنازير الأمر إذن بحاجة الى تمحيص وأفق آخر للبحث ليس مقامه الآن·

نطلب الآن أن لا نموت

بلا جسد وبلا·· ثمن

ومن أكثر المفاهيم إثارة للعنف بين أحفاد إسرائيل وحفدة إسماعيل في الموروث المقدس إضافة الى فهم طبيعة الإله وحقيقته هناك قصة الخلق قصة بيوت الله في الأرض ما بين أرض الفلسطينيين في الشام وأرض العرب في الجزيرة وهذا أمر يقصد بنا المقام لتناوله في هذه الصفحات·

نمتطي الانفجار

ونجمع كل صراخ الجهات

ونركن في غرفة الصمت

نخشى السلام ويرهبنا اللاسلام

وفي كل حرف لنا ألف خوف

فمن تحتنا الخوف يجري ومن فوقنا

وربما يكون من الملائم أن أختم هذه اللغة بقول جيمس هنري بريتسد في كتابه “فجر الضمير” الذي انتهى من وضعه عام 1933 قبل أن يكون للإسرائيليين دولة معاصرة على أرض الفلسطينيين مرة أخرى!! يقول بريستد “كان ظهور العبرانيين للمرة الأولى في ميدان التاريخ في خطابات تل العمارنة التي يرجع تاريخ أقدمها الى ما بعد سنة 1400 قبل الميلاد بقليل أي في عهد يسبق بكثير أي أدب عبراني وصل إلينا وهذه الخطابات المسمارية تكشف لنا عن وجود جماعات من العبرانيين الرحل كانوا ينزحون الى فلسطين التي كانت وقتئذ تحت سيطرة مصر حيث كانوا يدخلون هناك في سلك الجنود المرتزقة ولا نعرف من شأنهم بعد ذلك شيئا مدة قرنين من الزمان الى أن كان وقت ذلك الأثر المصري الذي أقامه في طيبة “الأقصر” مر نبتاح بن رعمسيس الثاني قبل 1200 سنة قبل الميلاد بنحو عشر أو عشرين سنة فقد حفظت لنا فيه أنشودة نصر نجد فيها ذلك الملك يفتخر بقوله “وإسرائيل قد دمرت وبذرتها محيت” وقد كان ذلك الحادث في عهد القضاة”·

كنعان·· يكبر··

كنعان يحرث ذنب أبيه

ومن تحت أقدامه

يُنبت الحقل أنهاره

ويذوب به الغيم

وهذا الاقتباس السابق يلقي بإضاءات في غاية الخطورة حول مصداقية الأحداث والوقائع التي فصلها العهد القديم “التوراة” حيث يتطلب الأمر إعادة فتح قضايا الإيمان وبحث الإنسان عن خالقه وإقرار مبادئ في هذا الشأن بدأت قوية ومتماسكة منذ ثلاثين قرنا قبل الميلاد وكذلك إذا تصورنا وجود هذه الأمة - العبرانيين - الإسرائيليين - داخل نطاق حضاري خصب يمتد من بلاد الرافدين شمالا وحتى جنوب مصر·

يعودون

مثلك ينتصبون على عشب حقلك

تسلبك الأمم المتحضرة الغد

والأرض كنعان أرضك

أرضك كنعان··

منذ تنفس أول غصن بها

منذ

قبل

الحياة

ويعود بريستد ليقرر في موضع آخر من كتابه “ومن الحقائق المدهشة أن يكون ذلك الإرث العظيم قد وصل الى المدينة الغربية من شعب خامل الذكر سياسيا منزو في الركن الجنوبي الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط فإن الشعب شعب إسرائيل لم يقم له نظام قومي خاص به إلا منذ العشر أو العشرين سنة السابقة لعام 1000 قبل الميلاد ولم يبق أمة موحدة إلا نحو قرن واحد على أكبر تقدير، وعلى أثر انحلال تلك الدولة الصغيرة نجد أن الجزأين اللذين قاما على تراثها ظلا يكافحان البقاء، فاستمر أحدهما مدة قرنين تقريبا وإنما الجزء الآخر فإنه مكث مدة قرن وربع قرن من سقوط الجزء الأول قضاها في حياة قلقة شبه مستقلة تداولته فيها أيدي ممالك الشرق العظيمة قديما وقد حاق به كذلك الفناء التام بعد سنة 600 قبل الميلاد بزمن قليل· بذلك تكون حياة العبرانيين القدامى القومية المستقلة - أو حياة جزء منهم - والتي بدأت لأقل من ثلاثين عاما قبل عام 1000 قبل الميلاد قد مكثت حوالي أربعة قرون وربع القرن وختمت في باكورة القرن السادس قبل الميلاد، أي أن هذا العهد من الحياة العبرانية القومية قد وقع بأكمله تقريبا في النصف الأول من ألف السنة الأخيرة قبل الميلاد المسيحي· وفي تلك الفترة كان تقدم الثقافة في مصر وفي بابل قد نضب معينه وصار يعد خبرا من أخبار التاريخ القديم·

السماء تمد يديها إليه

وتنسل من بين أخوته

وحده يعتلي عرش عتمتها

ويتوج بالمطر، الضوء وحشة غيماتها

كالمقدس تجري العصافير

تسجد بين يديه

يضيع به الوقت···

المقالة للكاتب عباس منصور

النص الشعري لعلي حسين الفيلكاوي

طباعة