رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 18 جمادى الأخرى 1425هـ - 4 أغسطس 2004
العدد 1639

في دراسة لباحث إماراتي(2-2)
الدولة الخليجية:"سلطة أكثر من مطلقة ومجتمع أقل من عاجز"

·       الشيخ عبدالله السالم قاد الكويت في عملية تحديث هائلة شملت المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وكانت نموذجا يحتذى لدول الخليج

·         وضع العمالة غير المواطنة يشكل عنصرا من عناصر استقلالية السلطة عن المجتمع

·         الغرب سعى الى تجميد الإصلاح السياسي في داخل دول الخليج

·         القرن الثامن عشر شهد تحولات سياسية واجتماعية لدول الخليج

 

تسعى هذه الورقة إلى تسليط الضوء على خصوصية النظام الاجتماعي في دول الخليج الأعضاء في مجلس التعاون، وفهم آلية عمل السلطة السياسية فيها، والتحولات المختلفة التي لحقت بها لتكون ما هي عليه اليوم·

قدم باحثون كثيرون الكثير من الفرضيات لتفسير جمود المنطقة الخليجية عن اللحاق بالعالم على صعيد الديمقراطية، ولكونها محتوية على أنظمة ملكية مطلقة أو غير دستورية ليس لتركيزها في منطقة صغيرة نظيراً في العالم، وقد طُرحت نظريات كثيرة لفهم طبيعة السلطة السياسية في دول الخليج العربي الأعضاء في مجلس التعاون· حيث يمكن تقسيم هذه النظريات إلى ثلاثة مفاهيم أساسية ذات تباين واضح: نظرية القبلية الخلدونية، نظرية الميراثية العائدة إلى "ماكس فيبر" ونظرية الدولة الريعية العائدة إلى الباحث الإيراني مهداوي، وستعرض الورقة أيضاً نظريتين إضافيتين من المهم رصدهما حتى وإن لم يتمتعا بالقبول الكبير من جانب المجتمع البحثي، ستناقش الورقة نقدياً هذه النظريات وستحاول عبر هذه المناقشة رصد ظاهرة السلطة في الخليج وتمييز آليات حركتها في وسط مجتمعها وفي البيئة الإقليمية والدولية·

 

محمد عبيد غباش - كاتب وباحث-الإمارات العربية المتحدة

m.ghubash@alazmina.info

 

 

رابعاً: غياب النظريات

 

تدور نظرية بتروورث حول الخضوع الظاهر للمواطنين في العالم العربي إزاء أنظمة حكم مكروهة، ويرى الباحث أن الحياة السياسية في العالم العربي تختلف بشكل بيِّن عن الحياة السياسية في الغرب نتيجة غياب أي معتقدات حول الحاجة الأساسية للسيادة الشعبية، هذا الغياب هو ما يفسر في رأي بتروورث كيف أن المواطنين في الدول العربية لا يحتجون كثيراً ضد الأنظمة غير المقبولة التي يعيشون في ظلها، والباحث يرجع ذلك إلى عدم اجتراح أنظمة فكرية سياسية تحد من الطغيان السياسي وتؤسس بناء حقوقياً للمواطنين (بالمعنى السياسي) في وجه الدولة:

"ما يُسهّل قبول أنظمة الحكم القائمة على حكم فرد أو قلة ليس وجود أي مجموعة محددة من الأفكار في الفكر السياسي العربي بل غيابها، لو عبرنا ببساطة: لا يوجد في تاريخ الفكر السياسي العربي شيء يقارن بالقطيعة الجذرية مع الماضي التي قام بها مكيافللي وهوبز في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والتي تم تطويرها لاحقاً ضمن عقيدة الديمقراطية الليبرالية في الأجيال التالية على يد لوك وروسو والتي جعلت مفهوم السيادة الشعبية مبدأً لا يشك فيه، بل ربما غير قابل للشك"·

ظاهرياً من السهل أن نرى أن الباحث قام بتبسيط مفرط حين فتش عن تفسير للخضوع في غياب وجود نظرية ليبرالية في الفكر السياسي العربي والإسلامي، بالإمكان الرد على مثل هذه الرؤية المثالية بأن التاريخ لا يصنع فقط في الكتب بل إنه يصنع فيها وفي العالم المادي أيضاً، عالم العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ومن السّهل أيضاً أن نحاجج بأن الديمقراطيتين اليابانية والهندية لم تنبثقا من قاعدة فكرية نظرية محلية،شينتوية أو بوذية أو هندوسية ليبرالية،وأن الدور الخارجي، الأميركي والبريطاني على التوالي،كان حاسماً في تأسيسهما، لكن يختفي وراء منظور بتروورث موقف من الثقافة العربية- الإسلامية التي يوعز لها السبب في القابلية العالية للخضوع، بيد أنه بالإمكان الإشارة لوجود تراث شيعي وخارجي نشط ولفترات طويلة كتراث نظري (فقهي) حرّض ضد الخضوع للسلطة المركزية كشيء مماثل للعقائد الثورية الحديثة،وكان له الدور الأساس في توليد ثورة كبرى ضد الطغيان المحلي والتبعية الخارجية في انطلاق الثورة الإيرانية واستمرار نظامها السياسي لأكثر من (24) عاما حتى اليوم·

حتى التراث الفقهي السني الذي يمثل الغالبية والذي يمكن أن نُرجع له تنظيرات طاعة الحاكم تحت أي ظرف خوفاً من الفتنة، نجده في القرن العشرين قد انتفض تحت اجتهادات مفكري الإخوان المسلمين والأصولية الوهابية وولّد حركات ثورية في مختلف أنحاء العالمين العربي والإسلامي إلى الحد الذي يتعذر فيه قبول القول بغياب فكر رافض للنظم السائدة ولتقليد تقبل الاستبداد، من دون أن يعني قولنا هذا بالطبع أن الإنتاج الثوري الجديد وهو يرفض الطغيان القائم يسعى نحو الليبرالية التي دعى لها لوك أو سبينوزا أو الديمقراطية المباشرة التي دعا لها روسو·

جدير بالذكر أيضاَ أن هناك إشكالية في تشخيص الوضع الخليجي من حيث خضوعه أو خلوّه من التسيُّس، وكل النظريات الآنف ذكرها انطلقت من هذا الوصف كشيء مسلم به،برغم أنه من الممكن إقامة تشخيص مضاد أساسه أن التسيُّس هو أي شيء إلا أن يكون غائباً: الحرب الأهلية في منطقة الجبل الأخضر العمانية في نهاية الخمسينيات،الثورة المسلحة في إقليم ظفار في الستينات والسبعينات، المعارضة البحرانية الوطنية والدينية،انتفاضة 1979 في الحرم وفي المنطقة الشرقية، المعارضة السعودية الشيعية والسلفية، أنشطة منظمة القاعدة في داخل الخليج وخارجه،بالإضافة إلى اضطرابات داخلية لا حصر لها في كل دول الخليج في العقود الأربعة الماضية···

ومع ذلك فمن المهم أننا ونحن نرفض تفسيرات بتروورث لظاهرة غياب التسيّس (الخضوع لأنظمة حكم مكروهة لكن متروكة لتفعل ما تشاء) أن نوافقه الرأي في وجود الظاهرة نفسها في أوساط الكثير من المواطنين الخليجيين، مثلها في ذلك بقية الرقعة العربية في العقود الأخيرة، ومع التحفظ في أن فئات من المجتمع ذات وزن محسوس انغمست في أنواع من النشاط السياسي الذي اتخذ شكلاً سياسياً بل ومسلحاً في فترات مختلفة ودول خليجية عديدة·

يمكن الرد أيضاً على أطروحة بتروورث من جانب أن الخضوع يمكن إرجاعه بشكل مباشر للتدخلات الواسعة النطاق من قبل الأنظمة المسيَّرة بعقيدة الديمقراطية الليبرالية، هذه التدخلات التي تعزز من وجود أنظمة وتزعزع بقاء أنظمة أخرى، وفي الحالتين تعزيز الوجود أو زعزعته لا يتولّدان من إرادة داخلية صرفة بل ربما من نظام هيمنة خارجي، والدور الخارجي بالذات، وليس حضور النظرية أو غيابها هو ما ترتكز عليه النظرية التالية·

 

خامساً: "الدولة الطرفية"

 

يبسط "بول فياي" في مفهومه للدولة الطرفية طريقة السيطرة على المجتمع في العالم العربي حيث تمثل هذه الدولة شكلاً آخر من أشكال الدولة الناهبة القديمة القائمة على الاستيلاء على الثروة من التشكيلة الاجتماعية التي تقوم بحكمها، لكن هذه الدولة تعرضت علاقتها بالمجتمع للتغير في الأزمنة الحديثة؛ فبينما كانت الدولة الناهبة القديمة لا تتدخل في أكثر شؤون المجتمع طالما الإيرادات تتدفق نحوها بانتظام، إلا أن الدولة الطرفية ترى أنه من الضروري لها أن تخترق المجتمع وتهيمن عليه بشكل شمولي، فبالنظر لاعتمادها على السوق العالمية فهي تفكك التشكيلة الاجتماعية التي تحكمها وتعيد تنظيمها بحسب تمفصلها مع السوق العالمية، وبهذه العملية فهي لا تحكم المجتمع المدني لكنها تلغيه بمحاولتها ممارسة دوره، والدولة الطرفية الحديثة لا تحتمل وجود منظمة أو وظيفة مستقلة في المجتمع المدني: الاقتصاد والمجتمع والدين والتعليم بل حتى الأسرة مخترقين من قبل الدولة، وهي تكتسب قوتها أساساً من ارتباطها واعتمادها على القوى الدولية المركزية وليس على قاعـــــــدة قوتـــــها power base  المحلية (المجتمع)، والأخير في الواقع مبني من قبل الدولة وليس سابقاً لها (الدولة تصنع الأمة)·

يحتاج مفهوم فياي، إذا أردنا تطبيقه على الوضع الخليجي،إلى شيء من المناقشة، بداية· فإن المفهوم يقدم منظوراً وصفياً وليس تفسيرياً، فنحن نفهم كيف تتصرف الدولة الطرفية لكن لا نفهم لماذا تنجح في ذلك، إضافة لذلك فقابليه المفهوم للتطبيق على دول شمولية كالعراق (في مرحلة حكم البعث) وسوريا وليبيا أكثر وضوحاً من قابليته للتطبيق على الوضع الخليجي بالنظر للدرجة المفرطة التي تُخضع فيها تلك الدول مجتمعاتها؛ مع أنها ليست متمفصلة جيداً مع السوق العالمية، أو مرتبطة بعمق على الصعيد الأمني بالقوى الدولية المركزية المسيطرة اليوم (وإن كانت مرتبطة بقوى القطب الدولي الآخر سابقاً قبل سقوطه)·

 ومع ذلك، فإن الارتباطين الاقتصادي والأمني للدول الخليجية بقوى السوق العالمي والدول المركزية يلبيان شرطاً مهماً لتطبيق مفهوم الدولة الطرفية على الحالة الخليجية، ويبقى الشق الآخر للتطبيق وهو عملية تفكيك المجتمع وإعادة تشكيله واختراقه بحاجة لشيء من التحليل·

من نافل القول أن كل نظام اجتماعي أينما كان هو بناء ليس خالداً ويتعرض بمرور الوقت للعوامل غير المواتية وللتصدّع والخراب،وهو لذلك بحاجة إلى أن يعاد ترميمه وبناؤه باستمرار، ويُرجع فيريرو السبب في ذلك إلى أن مبدأ الشرعية الذي يقوم عليه النظام الإجتماعي هو شيء وقتي عابر لا يملي إرادته إلى ما لا نهاية·

ونحن إذا رصدنا التحولات السياسية والاجتماعية على المجتمعات والتشكيلات السياسية الموجودة في الخليج منذ منتصف القرن الثامن عشر، والتي يمكن تحديد بدئها بالانهيار المتزامن تقريباً للدولة اليعربية في عمان ودولة نادر شاه في إيران لوجدنا تغيرات بالغة العنف في مداها تصيب  أوجه الحياة الخليجية كافة برغم ما يزعم من اتصافها بالسكونية والاستمرارية، فعلى الصعيد الخارجي تم إلحاق المنطقة بقوى إقليمية جديدة صاعدة وبقوى دولية فرضت هيمنتها العسكرية والسياسية لفترة طويلة، وعلى الصعيد السياسي الداخلي برزت تشكيلات ما قبل دولتية على سواحل الخليج غرباً وجنوباً ذات أصول قبلية، ونجح الاستعمار في تحويل بعض هذه التشكيلات إلى كيانات ميراثية، من حيث تكوين السلطة المحلية، وحماها من تهديدات وأطماع الدول المجاورة،ومكن أغلبها من الصمود في وجه التحديات الداخلية، ورعى تطوير البنى السابقة للدولة لتصبح دولاً بعد رحيله·

بسطت بريطانيا هيمنتها على المنطقة في أوائل القرن 19 وقامت بتحويل الأنظمة القبلية إلى ميراثية، لكن الوضع لم يكن هيناً للحكام الجدد، فشح الموارد المرتبط باقتصاد كفاف وندرة لم يمكّن السلطة الوليدة من فرض قوتها بشكل حاسم، وأنتجت التحولات الاقتصادية تحديات كبيرة للحكام الجدد، وكانت حيازة الحاكم الخليجي لمكوس الجمارك وتصرفه فيها على هواه عاملاً مهماً في ظروف احتباس اقتصادي هائل يهدد طريقة الإنتاج والعيش التي استمرت لألفي عام على الأقل، ونشأت في الكويت والبحرين ودبي نتيجة انهيار اقتصادات الغوص على اللؤلؤ في الثلاثينات مجالس أو حركات إصلاحية حاولت استيلاد حلول اقتصادية جديدة بتحديث آليات الحكم التقليدية عبر توسيع دائرة المشاركة السياسية·

وبرغم نجاح الحكام،وبدعم كبير من القوة الأجنبية،في التغلب على تحديات المجالس الإصلاحية، إلا أن الحكام أنفسهم قاموا بتبني جهود التغيير الاقتصادي والاجتماعي،بل والسياسي في حالة الكويت في ستينات القرن الماضي، ومكّن تدفق الموارد النفطية في يد السلطات الخليجية من أن تقود عملية تحديث هائلة مسّت كل جوانب الحياة،ولم تشرك أياً من بقايا القوى الاجتماعية التقليدية (ممثلة بالقبيلة وبالمؤسسة الدينية) ولا بالقوى الاجتماعية الصاعدة تاريخياً،كرجال الأعمال أو المثقفين، في تحديد شكل التحديث وغاياته، ووجدنا أن حكاماً عرقلوا أو تباطأوا في السير في الطريق الجديد تمت إزاحتهم بالقوة؛ كمثل شيخ أبوظبي،شخبوط بن سلطان،وكذلك سلطان عمان،سعيد بن تيمور·

وإذا تتبعنا بدقة الهندسة الاجتماعية هذه لوجدناها غير مسبوقة تاريخياً في قصر فترتها،وفي عنفها إزاء أنماط الإنتاج والاستهلاك التقليدية، بل وحتى في وجهها الثقافي، أي إذا استعدنا لغة بول فياي: عملية إعادة تشكيل واختراق شاملة للمجتمع، والصفة التي يجدر رصدها بدقة في العقود الثلاثة الأخيرة،على الصعيد السياسي،تكمن في تمتع السلطة الخليجية باستقلالية لا مثيل لها عن مجتمعها، ويكتسب هذا الاستقلال ثلاثة أوجه يجب أخذها جميعاً بعين الاعتبار:

 

الأول: الاستقلال الاقتصادي

 

وهو ما شكل أساس مفهوم الدولة الريعية والذي استند على تحليل عوائد النفط، لكن الاستقلال الاقتصادي لا يتركز فقط في عدم الاعتماد على فرض ضرائب على المواطنين،لكنه يشمل قدرة السلطة على ممارسة ما أسماه بول فياي تفكيك المجتمع،وإعادة تشكيله واختراقه، وفي النهاية الهيمنة عليه، ولا تشكل عمليات الرعاية Patronage  التي ركّز عليها مفهوم الدولة الريعية إلا أقل الأمور أهمية مقارنة بفتح البلاد على مصراعيها لاكتساح قوى السوق العالمية التي لا تشمل السلع المادية وحسب بل الوسائط الخدمية والثقافية،إضافة إلى البنية الحقوقية والقانونية·

 

الثاني: الاستقلال عن العمالة المحلية

 

 يشكل وضع العمالة غير المواطنة ذات النسب الكبيرة عنصراً من عناصر استقلالية السلطة عن المجتمع، فمن الواضح أن قوة العمل الأساسية في هذه المجتمعات يتم استيرادها كسلعة من الخارج للاستخدام لفترة محددة من دون أي حقوق سياسية وبأقل الحقوق التفاوضية في سوق العمل، وهي معرضة للترحيل حينما تنتفي الحاجة لها، إن هذه الوضعية تمكن الدول الخليجية من الانتفاع من قوة عمل ماهرة من دون التعامل معها كجزء من مجتمعها التمثيلي Constituency  الذي يجب عليها أن تلبي، أو على الأقل أن تظهر استجابتها لتلبية حاجاته وتحقيق قيمه (هكذا تُفهم عملية توليد الشرعية والمحافظة على استمرارها)·

بالمقابل فإن هذه الأعداد الضخمة من قوة العمل الخارجية،عربية كانت أم أجنبية،تُهمش المجتمع المحلي سياسياً أمام نظام حكمه وذلك عبر إزاحته من مواقع الإنتاج التي يمكن من خلالها أن يتم صراع اجتماعي أو سياسي·

 

الثالث: الاستقلال الأمني/العسكري

 

برغم صغر أسواقها،فإن دول الخليج تقوم بإنتاج سلعتين استراتيجيتين على الصعيد الدولي،النفط والفوائض المالية، وهو ما أدى إلى مد الضمانات الأمنية الغربية إلى جميع دول الخليج، وهذه الضمانات التي جرى اختبارها مراراً بنجاح (على سبيل المثال في ظفار في السبعينات، وفي الكويت في التسعينيات) تضيف ركناً حيوياً لتقوية السلطة الخليجية وحمايتها مما يتهددها من التحديات الداخلية والخارجية·

وقد سعى الغرب أثناء الحرب الباردة والعقد والنيف اللذين تلاهما إلى الإبقاء على الأوضاع القائمة في الخليج من دون تغيير بسبب خوفه أن تدخلاً أقل ربما يقود لنجاح الاتحاد السوفيتي في التأثير على المنطقة أو أن الاضطراب في الخليج قد يجرّ إلى اضطراب إمدادات النفط مع ما يحمله ذلك من زيادة لا تحمد عواقبها في الأسعار·

من آثار هذا التدخل تجميد عملية الإصلاح السياسي في الداخل، وكنتيجة للاعتماد على الضمانات الأمنية الغربية برزت استقلالية السلطة في الميدان الأمني حيث بات الاعتماد الطبيعي على مواطنيها للتعبئة العسكرية أمراً قليل الأهمية، ومن الواضح أن الحاكم الذي لا يستمد وضعه من الرضا الداخلي عليه بل من حماية القوى الأجنبية ،يعيش علاقة فريدة مع شعبه،  فالأدبيات السياسية تكاد تُجمع أنه من المتعذر أن تستمر تشكيلة حاكمه دون دعم داخلي من طبقة اجتماعية أو إثنية أو طائفة تسند الحكم في وجه مناوئيه في الداخل وتوفر له الشرعية، وبمقابل هذه الشرعية يقوم الحاكم بأداء واجبه في عقد صريح وإن لم يكن مكتوباً وهذا الواجب بالغ التعقيد، ويتضمن فيما يتضمن توفير الأمن وإدارة نظام قانوني يضمن حقوق الأفراد والجماعات، ويلبي ضرورات اقتصادية في حد معين يتفاوت من مجتمع لآخر يمكن للأفراد عبره من الإنتاج والعيش، بيد أن هذا التوازن بين واجبات الحاكم وحقوق المواطنين ينهار حينما تأتي قوى خارجية لتضمن للحاكم وجوده رغم أنف مجتمعه·

إن هذه الدولة البالغة الاستقلال تظهر قوية جداً أمام شعبها، فهي لا تتمتع فقط بمزايا اقتصادية وأمنية وسكانية تغنيها عن الاعتماد على مواطنيها، إنها فوق كل ذلك،ونتيجة لكل ما سلف ذكره،تتمتع بأهم مزية: إلغاء الحاجة لنيل الشرعية، بمعنى آخر فإن النهاية المنطقية لدولة بالغة الاستقلال في مجال الاقتصاد وتوفير قوة العمل والأمن هو تحرير السلطة من قابلية المحاسبة، من ضرورة قيامها بتقديم تبريرات حقيقية أو ظاهرية تقول أنها تلبي مطالب شعبية أو أنها تسعى لتحقيق أهداف عامة مرغوبة لهذا فإن المشكلة الملازمة لكل الدول الحديثة وهي مكابدة أزمة دائمة للشرعية تصبح مشكلة لا وجود لها في الخليج·[27]  ومن هذا يتبين أنه برغم وجود كل الشروط التقليدية لوجود أزمة إلا انه لا تظهر على السطح أية أزمة، وليس صعباً معرفة السبب: إن السلطة الخليجية لا تملك شعباً؛ وهو الشيء نفسه الذي نصفه حينما نقول بأن الشعب الخليجي لا يملك سلطة·

لهذا فإن اتجاهات الرأي العام الخليجي اللامبالية ظاهرياً تجاه السياسة، يجب تفسيرها في الاستقلالية البالغة التي تتمتع بها السلطة الخليجية، وهذا ربما يكون حجر الزاوية في عملية الإقصاء السياسي التي تتصف بها المنطقة الخليجية·

وعلى عكس مفهوم الدولة الريعية القائم على تحقيق الشرعية عبر ما يمكن أن تسميه "رشوة عامة" فإننا صرنا نمتلك تصوراً أكثر تماسكاً، وهو تصور وإن لم يكن ينكر دور الإنفاق العام والتحرر من ضرورة دفع الضريبة في تهدئة المواطنين إلا أنه تصور يضع بالإضافة إلى المداخيل النفطية العاملين الإضافيين، السكاني والأمني كأركان أخرى لنجاح النظام الخليجي في ضبط مواطنيه، ونتيجة ذلك كله هو الإخــــلال بالتوازن الدقيق بين الحكام والمحكــومين وبدفع السلطة إلى منزلة شاهقة من الهيمنة على المجتمع·

 

الخاتمة:

 

- للوهلة الأولى قد يبدو هذا التحليل متشائماً في إمكانات تطوير النظام السياسي الخليجي، وتعميق المشاركة السياسية فيه، وتوسيع دور مجتمعه المدني، لكنني لن أكتفي فقط في الإجابة بأن الباحث غير مطلوب منه تقديم صور ملونة للواقع وأن الأمانة تقتضيه كشف الوضع على علاته مهما تكن النتائج، هذه الإجابة سهلة ومشروعة في الوقت نفسه، لكني أود التنويه أن الورقة ركزت البحث بالدرجة الأولى على علاقة السلطة بالمجتمع وهي علاقة بالضرورة غير مكتملة إذ أنها لم تتطرق إلى تحليل مجموع هذين الكيانين؛ السلطة السياسية والمجتمع المدني،أي الدولة؛ وهو كيان له آليته وطريقة عمله الخاصة خصوصاً في تفاعلاته مع أشباهه من الدول إقليميا ودولياً، ومن الواضح أن الدولة الخليجية،وبخلاف سلطتها، ليست دولة قوية، فهي وإن كانت ترث قوة سلطتها السياسية الداخلية إلا أنها ترث أيضاً ضعف مجتمعها المدني، لهذا فهي دولة ضعيفة، سواء في محيطها الإقليمي والدولي أو في المجالات اللاسياسية؛ في مجال التقنية والاقتصاد والإعلام والتعليم، وليس من الصعب إدراك أنه وكما كان العبيد على مدى آلاف السنين محاربين سيئين فكذلك فإن مجتمعاً مدنياً منهاراً لا يستطيع أن يكسب الصراعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي غدت السمة التي تميز العصر الراهن·

الدولة الخليجية منكشفة أمنياً لاعتمادها شبه التام على غيرها، وهي معرضة لضغوطات قد تكون كارثية من الدول الداعمة أمنياً،ومن الدول التي تستورد منها اليد العاملة التي أصبحت اثنتان منها دولاً نووية، والانكشاف الاقتصادي باد للعيان من جراء الاعتماد المفرط على تصدير النفط الخام الذي قد يواجه بدائل طاقة منافسة من جراء تحولات وتقدم تكنولوجي ليست في الحسبان، والانكشاف باد للعيان بسبب الإيكولوجيا الخليجية الشديدة الحرارة والشحيحة بالمياه والمفتقدة للأراضي الخصبة·

- يشير التحليل السابق إلى أن أحد المحددات الأساسية،بل لعله المحدد الأهم لسلوك النظام السياسي الخليجي يكمن لا في استرضاء المجتمع بل في استرضاء الدولة الراعية أمنياً، وهي هنا الولايات المتحدة، والرصد الدقيق لعملية الاسترضاء يقتضي فهم ما تتطلبه الولايات المتحدة من الأنظمة المحمية، فالاصطفاف بوجه الاتحاد السوفياتي وحلفائه كان الهاجس الأكبر في الماضي وهو الذي حول طبيعة الحكم لتكون معادية للتيارات اليسارية وداعمة للحركات الإسلامية ذات الخطاب المعادي للشيوعية أثناء الحرب الباردة·

والاسترضاء لا يعني بحال الخضوع التام للولايات المتحدة في كل ما تريده، في كل الفترات، فمن دون شك يمكن رصد مواجهات وخلافات على قضايا مختلفة بين القوة الدولية الحامية والنظم الخليجية المحمية، كالخلاف على الوضع الفلسطيني وعلى المحاور المختلفة للصراع العربي الإسرائيلي،لكنه يعني أن الأنظمة الخليجية تمتلك هامش حركة ضيّق ومحدّد في المرجع الأخير بتحديدات أميركية،خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وعناوين مثل "محاربة الإرهاب" و"الإصلاح الديمقراطي" و"التخصيص الاقتصادي" و"التطبيع مع إسرائيل" من دون شك تمثل شيئاً ضاغطاً وضروري التبني حتى وإن كان "كريهاً" من منظور أنظمة لا تريد أن تصطف بشكل تابع، وبأقل قدر من الإرادة المستقلة وراء البرامج المصاغة في واشنطن، وبالطبع فإن القوى الاجتماعية القادرة على التماهي مع هذه البرامج،كرجال الأعمال مثلاً،تمتلك تأثيراً هائلاً على النظم الخليجية، لا لقوتها الذاتية بل لتطابق البرامج الأميركية مع مصالحها (في مجال التخصيص)·

- من الواضح أننا لنحدد واقع الحال الخليجي في المستقبل القريب من المهم لنا أن نرى ما يحدث بالضبط في هذين الحقلين: حقل الضمانات الأمنية الأجنبية المقدمة لنظمنا السياسية وهي تواجه مطالب شعوبها في المشاركة السياسية، وحقل استعادة الشعوب الخليجية لمواقعها في سوق العمل التي تمت إزاحتها منها، ومن خلال الرصد لهذين الحقلين سنستطيع أن نحدد بدقة إن كانت هناك فرص حقيقية للتحول إلى الديمقراطية، ومع أن الإدارة الأميركية الراهنة تتبنى علنياً مشروعاً سياسياً إصلاحياً لمنطقة الشرق الأوسط يستند إلى الديمقراطية والعلمنة، لكن من المشكوك فيه أن يتخطى المشروع حيز التنفيذ الجاد وذلك لأن القوى الأكثر تأهيلاً للبروز في الوضع الديمقراطي هي الحركات السياسية الإسلامية، والتي تنظر لها الولايات المتحدة وحلفاؤها على أنها الخصم الأمني والسياسي والعقائدي الأول، ولهذا فالتجارب "الديمقراطية" في الخليج سوف تبقى في حدها الأقصى في إطار شكلي مشابه للتجارب الديمقراطية المزعومة في مصر والأردن والمغرب·

انتهى

 

-----------------------------

 

في تعقيب على ما جاء في ورقة الكاتب محمد غباش:

عبدالمحسن مظفر: وضعنا الخليجي أفضل من جمهوريات عربية!!

 

 

                                                                     

جاءنا من السيد عبدالمحسن تقي مظفر رد على ما جاء في الجزء الأول "العدد الماضي" من دراسة عن "الدولة الخليجية سلطة أكثر من مطلقة ومجتمع أقل من عاجز للكاتب والباحث محمد غباش، وهي عبارة عن تعقيب للسيد مظفر للورقة التي قدمها الكاتب غباش·

وأكد مظفر خلال تعقيبه أن الدول الخليجية ربما تكون أفضل حالا من بعض الدول العربية الجمهورية، وضرب مثلا على ذلك بليبيا والعراق وسورية، وقال إننا "نطمح في الدول الخليجية الى مزيد من التطوير، والمشاركة الشعبية وتغيير العلاقة بين الحاكم والمحكوم" وفيما يلي نص التعقيب:

الورقة قيمة، وما ورد فيها من نظريات في تصوري الخاص تنطبق على كثير من الدول العربية وليس فقط مجتمعنا الخليجي انطلاقا من العنوان البارز في غلاف الورقة، سلطة أكثر من مطلقة، ومجتمع أكثر من عاجز، أعتقد بهذا التوجه مع تقديري واحترامي لفكر الدكتور غباش والآخرين الذين تكلموا في هذا الاتجاه، بهذا التوجه قد يكون من الصعب الوصول الى أي نوع من الاتفاق أو الحوار أو المناقشة الجدية مع أصحاب الشأن في هذه المنطقة، سلطة أكثر من مطلقة، إذا كان الحديث عن دول الخليج، فأنا أقول سلطة أكثر من مطلقة في جميع الدول العربية، هذا التحليل الجيد الذي أثاره الدكتور غباش في هذه الورقة القيمة ليس حكرا على منطقة الخليج، وربما أتفق في كثير مع ما قاله الأخ أنور النوري عندما أشار الى أسباب في الفكر التراثي المتداول في هذه المنطقة منذ مئات السنين، وتأثيرها في العلاقة بين الحاكم والمحكوم في كل المنطقة العربية، بل ربما يكون في كل المنطقة الإسلامية، نحن نتحدث عن سلطة أكثر من مطلقة، إذا كنا نتكلم عن الخليج ونتحدث عن مجتمع أقل من عاجز، دعنا نقارن بين ما هو حاصل في هذه المنطقة مع اعترافي وتسليمي واتفاقي معكم بعيوب هذه المنطقة، وقصورنا عن تحقيق ما نطمح إليه من آمال وتطلعات مستقبلية بإذن الله، دعنا نقارن الوضع في هذه المنطقة بمناطق عربية أخرى، أولا لا بد من التسليم بأن هذه المنطقة على الأقل فيما هو معلن من سلطاتها، أنها سلطات باعترافها ومن دون أي اعتراض من أحد أنها سلطة وراثية، لم تدع أي سلطة خليجية أنها سلطة جمهورية أو رئاسية أو جاءت برغبات شعبية بالطريقة التي نطمح إليها، في المقابل هناك الكثير من الجمهوريات العربية نجد أن السلطة فيها أكثر إطلاقا مما هي حال السلطة في المنطقة الخليجية، ويستمر الحاكم فيها عشرات السنين من دون أي تغيير حقيقي يحدث، على الرغم من الكبت، وهدر الحريات، وتكميم أفواه الناس، وملء المعتقلات بالسجون، من دون أن يكون هناك ما يمكن تسميته بمجتمع غير عاجز، أنا أضرب مثالا مع التقدير للشعوب التي أضرب المثال بها، المثال الذي في ذهني هو العراق وسورية وليبيا، أقول لا نصور الداء على أنه داء خليجي، هذا الداء داء عربي، وقد يكون داء إسلاميا، وقد يكون داء الدول المتخلفة بصورة عامة، هذا الداء الذي نشتكي منه لا ينطلق فقط من كوننا دولة ريعية، أو دولة تمتعت لفترة من الوقت بإيرادات نفطية فائضة عن الحاجة واستغلتها السلطات للسيطرة على الشعوب كما نقول، هناك دول أخرى دول جمهورية ظلت 35 سنة على الأقل من الحكم الديكتاتوري المطبق في العراق، والشعب العزيز في العراق لم يتمكن من تغيير ذلك الوضع المأساوي إلا بالتدخل الخارجي، مدة مشابهة من الزمن مع التسلط واللعب نفسهما في مقدرات الناس وهدر الإمكانات المالية في السلطة الليبية، والشعب الليبي عاجز عن التحريك، آخرها كان الاستهتار بالزوال العامة في الدولة الليبية الشقيقة بوضعها في يد الآخرين في صورة تعويضات لجرائم ارتكبتها الحكومة الليبية، الوضع السوري: هنا نتكلم عن حكم وراثي وميراث، الدستور يتغير في ربع ساعة لكي يتولى ابن الرئيس الرئاسة، وراثية تحت نظام جمهوري، أنا لا أقول هذا لكي أهون من قضايانا، أنا أقول هذا لكي أبين أن القضية هي أشمل من أن تكون دولة ريعية، أو دولة فيها مصادر نفطية، أو دولة سيطرت فيها الحكومات نتيجة للأوضاع التي ذكرت في هذه الورقة القيمة، أنا أقول إن الداء أكبر من ذلك، والمشكلة ليست مشكلة خليجية، المشكلة مشكلة عربية، المشكلة في التراث، ونحن قد نكون أقدر من غيرنا في المناطق العربية، ولسنا أقل من عاجزين، مثل هذا المنتدى الذي استمر في هذه المنطقة لمدة 25 سنة، مثل ما قال الدكتور علي فخرو، لا أعتقد أن مثله متوافر في أي إقليم من الأقاليم العربية، ويتمكن من الاستمرار في مناقشة هذه الأمور بكل هذه الجرأة والصراحة، وينشر هذا الفكر مكتوبا، ويتم تداوله بعلم السلطات القائمة في هذه المنطقة، أنا لا أريد أن أزين صورة السلطات القائمة في هذه المنطقة، لكن أقول لا نبالغ في جلد ذاتنا في هذه المنطقة الخليجية، أنا أتصور وضعنا أفضل بكثير من أوضاع في مناطق أخرى من الوطن العربي، نحن نطمح الى المزيد من التطوير، نطمح الى المزيد من المشاركة الشعبية، نطمح الى تغيير العلاقة بين الحاكم والمحكوم في هذه المنطقة، نعم، ولكننا لسنا عاجزين، نحن مقتدرون ولدينا الإمكانات، لكن يجب أن يكون توجهنا إذا كان خطابنا مع السلطة التي نشتكي من سوء العلاقة بيننا وبينها، يجب أن يكون خطابنا موزونا ومتعقلا بحيث تكون هناك استجابة لأفكارنا من قبل هذه السلطة، نحن نقول إننا عاجزون عن تغييرها، إذن يجب أن يكون لدينا مقدرة على التفاهم معها على المدى البعيد·

طباعة