ظلال.. تتسكّع
ركان الصفدي
"1"
الشهداء يزوّرون جوازات موتهم ويهربون من الوطن خلسة، يعلّقون بالرايات المنكسة دموعهم، ويمضون·· يغادرون دمهم الناصع، وينفضون جيوبهم من العشب وأزهار الأقحوان، ويرطنون بمنفى لا ملامح له·
شوارع الوطن مديدة·· أطول من حزن امرأة ثكلى·· شرايين نابضة ببقايا البشر الذين يلمون أحلامهم وعظامهم ويرحلون·· الشوارع أصابع·· مديدة باتجاه واحد·· المنفى!
السماء المثقوبة ببعض النجوم، والكثير من الصراخ، تتكور باشمئزاز، وتشيح بغيومها عن مدن مغبّرة ومعفّرة بتراب الهزائم·· السماء وعرة، موحلة!
وحدها الظلال تتسكع في أزقة الوطن: ظلال الأحلام، ظلال، الأغاني، ظلال الرجال، ظل الوطن!
"2"
كيف يجرؤ المواطن العربي على النظر في المرآة، ولماذا يتأمل وجهه فيها؟! أليرى قسماته المنهكة، جوعه الموغل في التاريخ،خوفه القابع في زنزانتين محدقتين أعلى الأنف، جبهته الشماء المخدّدة بذلّ مزمن، أنفه الأشم للانتصارات الباهرة التي شمّ رائحتها عن بعد، فمه المغلق بخيوط العنكبوت الأمني؟!·· بالله عليكم، لماذا يحدق المواطن العربي إلى وجهه في المرآة، هل ليتأمل تسريحة حزنه، أم تصفيف خيبته، أم ليتأمل خارطة انكسار الوطن في ملامحه، أم ليتأكد من وجوده ليشتمه، أم ليتأمل خارطة انكسار الوطن في ملامحه، أم ليتأكد من وجوده الذي لم يعد أكيدا ولا حتميا ما لم يتحسسه بالحواس الخمس؟ لو كان المواطن العربي ينظر إلى المرآة ببصيرته لا بصره لما بقيت مرآة واحدة سالمة من قبضة غضب، أو نطحة رأس يائس، ولامتلأ الوطن العربي الفسيح بالشظايا الزجاجية اللماعة!
"3"
لعلي بالغت كثيرا·· الشعب العربي أحلم الشعوب وأمرحها وأهنؤها وأطيبها وألينها·· وإلا ما تحمل كل هذه المآسي وهذه الإهانات التي يتجرعها مع قهوة الصباح وسندويشة الظهيرة وحساء المساء، إذ هل يقبل عاقل أن يحفر قبرا دافئا ويتمدد فيه من تلقاء نفسه، وينظر حواليه، ثم يموت من ·· الضحك؟!
"4"
علينا أن نجمع جميع الشهداء، والقديسين والأناشيد الوطنية والقصائد والأغنيات ونسكب عليها النفط العربي ونرقص حول هذه المحرقة، تشفيا، إذ لولا كل هؤلاء لما تورطنا بعبء هذا التاريخ·· الثقيل!
"5"
"أنا أفكر، إذاً أنا موجود" كذا قال ديكارت، ولكننا ننتظر ديكارت آخر يقول لنا: "أنا موجود، إذاً أنا أفكر" لأننا لو انتظرنا أن نفكر لنوجد لاحتجنا إلى عصور جديدة، فدعونا نوجد أولاً لعلنا ذات قرن·· نفكر!
"6"
القذائف التي أطلقت في الحروب العربية كافية لرمي اليهود في البحر، والدموع المذروفة من عيون العرب كافية لإغراقهم، ولذلك حين يطالب العرب بالسلام ويسعون إليه لا يفعلون ذلك عن عجز، وإنما لأنهم أدركوا أخيراً أن خير وسيلة لهزيمة الإسرائيليين أن يشركوهم في لعبة الكراسي العربية·
"7"
هكذا تحولنا جميعا إلى شعب مازوشي، نتلذذ بأقفاصنا العشرين، وننط من مرحلة إلى مرحلة أمام تصفيق العالم المدجج بالمستقبل، نحسن العرض وننتزع الإعجاب، ونتلقف فتات التكنولوجيا ونقشر الصواريخ ونمضغها بسرعة مؤكدين نظرية داروين، مع إضافة عربية أن الإنسان تطور عن القرد وانتهى إلى قرد!
"8"
عفا الله عما مضى، والسلام يجبُّ ما قبله، ولنعد إلى كتب الأنساب التي جعلت من العرب وبني اسرائيل إخوة، ومتى كانت الأخوة رابطة عربية؟! ولنوثق العرا والحبال السُرية، ونلقي برؤوسنا إلى مخدة التاريخ، لعلنا نحلم بكابوس جميل تمتد فيه أذرع الاخطبوط الاقتصادي الاسرائيلي، وتمسّد شعرنا وتمسح جباهنا الواهنة من ضربة شمس التاريخ، ثم تمسك بن ابحنان بالغ وترفعنا كما يرفع الكاهن طفلا مولودا، وتلقي بنا·· خارج الزمن!
"9"
أما آن أن ننهض من سباتنا الشتوي، وطمأنينتنا البترولية، ونكون للحظة تاريخية واحدة شعبا عمليا·· نعمل أكثر مما نتكلم، بل نعمل ولا نتكلم؟! فقد ثرثرنا بما فيه الكفاية عبر التاريخ، وكتبنا كثيرا، وشرحنا ما كتبنا، وعلقنا على ما شرحنا، وأقمنا ندوات نقدنا فيها ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وأنشأنا وزارات وهيئات ومهرجانات للثرثرة، ولم نعمل شيئا·· وبالطبع لا ندعو إلى قص الألسنة، ولكن ندعو إلى يوم للصمت·· نصوم فيه عن الكلام من مشرقها إلى مغربها، لعلنا حينذاك نتفرغ للعمل·· أي عمل·
"10"
أيها القرن الآتي·· ضع طلقة في "بيت النار"!