رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 23 مايو 2007
العدد 1775

مجتمع منزوع الدسم
علي عبيد
aliobaid2000@hotmail.com

بحلول شهر أغسطس من عام 1986 كان قد مر ستة أشهر فقط على انتخاب "كورازون أكينو" رئيسة للفلبين بعد أن قادت ثورة شعبية ضد "فرديناند ماركوس" الذي كان وراء اغتيال زوجها ذي الميول اليسارية "نينوي أكينو" في مطار مانيلا الذي أُطلق عليه بعد ذلك اسمه، وهو عائد من الولايات المتحدة بعد ثلاث سنوات قضاها في المنفى· في هذا الشهر تعرضت أكينو لمحاولة انقلاب عسكري لم يتحقق له النجاح· وحدث حينها أن أشاع "لويس بيلتران" الذي يُعدّ واحد من أبرز الصحافيين في جريدة (ذي فيلبين ستار) ضمن العمود الذي يكتبه في الجريدة أن الرئيسة أكينو قد اختبأت تحت سرير نومها عندما بدأت عملية الهجوم من قِبَل عدد من الانقلابيين العسكريين المكلفين باحتلال مقرها الرئاسي·

فشل الانقلاب وقتها كما فشلت انقلابات أخرى تلته، وبقيت أكينو على رأس السلطة في بلادها، واعتقد بيلتران أن النسيان قد طوى الإشاعة التي أطلقها ضد أكينو ولم تعد تتذكرها بعد أن انشغلت بالإرث الثقيل الذي خلفه لها ماركوس بعد عقدين من الزمان جثم خلالهما على صدور الفلبينيين وعاث في البلاد فسادا· بعد أكثر من عام على العمود الذي كتبه بيلتران، وفي الثاني عشر من أكتوبر عام 1987 دعت أكينو عددا من الصحافيين لزيارة جناحها الخاص داخل القصر الرئاسي· وكان أول شيء فعلته هو إطلاعهم على سريرها الذي كان يرتفع عدة سنتيمترات عن مستوى أرضية غرفة النوم قائلة لهم" هذا سريري، ويستحيل أن أختبئ تحته· ثم أضافت أنها ستقوم بمقاضاة بيلتران بدعوى السخرية والتشهير لتلقنه درسا لن ينساه طوال حياته، وأنها لن تدعه يفعل ذلك مرة أخرى ثم يفلت من محاسبة القانون·

بهذه الطريقة تعاملت كورازون أكينو مع الإشاعة التي أطلقها لويس بيلتران ضدها رغم أن الشعبية التي كانت تتمتع بها وقتها كانت كفيلة بجعل الناس تُعرِض عنها وتمتنع عن تصديقها· ولأن الإشاعة غالبا ما تجد لها رواجا في الظروف الملتبسة عندما يسود نوع من الاضطراب والفوضى الوسط الذي تنتشر داخله فقد استخدمها الساسة والعسكريون أسلوبا من أساليب الحرب النفسية في أوقات الحروب· وكان أشهر من برع في هذا الفن وغدا مدرسة قائمة بذاتها هم الألمان الذين وظفوا الشائعات خير توظيف في حربهم ضد أعدائهم، وقدموا نماذج ما زالت تُدرَّس في كليات الإعلام وأكاديميات العلوم العسكرية· فقد حدث على سبيل المثال في السنة الثانية للحرب العالمية الثانية أن حاول البريطانيون عدة مرات تدمير محطة السكك الحديدية الرئيسة في برلين ولم يفلحوا في محاولاتهم تلك· لكن الألمان نشروا تقارير توحي بأن البريطانيين قد نجحوا في تدمير المحطة· وعندما وصلت هذه الإشاعة إلى بريطانيا سارع الإنجليز إلى إذاعة الخبر معتبرين ما وصلهم من تقارير تأكيدا لنجاح محاولاتهم· وكانت الخطوة التالية التي أعدت لها وزارة الدعاية الألمانية هي أن قامت بأخذ عدد من الصحافيين الأمريكيين إلى محطة السكك الحديدية لإثبات كذب الإذاعة البريطانية· الأمر الذي هز ثقة المستمع بالإذاعة وأدى إلى الحط من شأنها ووصم أنبائها بالكذب·

نسوق هذا كله قبل أن نصل إلى الإشاعات التي أخذت تنتشر في مجتمع الإمارات خلال الفترة الأخيرة وتجد لها رواجا بين الكثيرين، وتسويقا من قبل فئات كثيرة من المجتمع، خاصة في ظل وجود تقنية الرسائل الهاتفية القصيرة والوسائط المتعددة والبلوتوث في الهواتف المتحركة، وفي ظل المواقع الإلكترونية التي لا حصر لها، ومنها ما هو متخصص في نشر الإشاعات، ومع وجود تقنية رسائل البريد الإلكتروني التي غدت ناقلا سهلا وسريعا لتداول الإشاعات والأخبار التي لا يستبين صدقها من كذبها إلا بعد حين·

ولو حاولنا أن نرصد ما تم تداوله من أخبار عبر هذه الوسائل خلال الفترة الأخيرة لوجدنا أن أغلبها يقع تحت بند الإشاعة الذي نتحدث عنه، بدءا بإشاعة البطيخ المحقون بفيروس الأيدز التي نسبت المعلومة لطبيب بمستشفى الملك فيصل التخصصي بالمملكة العربية السعودية، مما حدا بالمستشفى إلى نفي هذه الإشاعة وتكذيب نسبتها إلى أي من العاملين فيه· ثم تلتها الإشاعات الكثيرة التي سبقت الإعلان عن التوصل إلى العصابة التي قامت بعملية السطو على أحد محلات المجوهرات بمركز وافي بدبي وإلقاء القبض على بعض أفرادها ونشر صورهم من قبل شرطة دبي التي تعاملت كعادتها مع الأمر بحرفية أمنية وشفافية عالية· وما أن انحسرت الأضواء عن هذه القضية حتى ظهرت إشاعة الأرقام القاتلة التي تزعم أن مكالمات خارجية مجهولة تسبب إصابات قاتلة لمن يتلقاها وترسل إشعاعات عبر الهواتف المتحركة تُحدِث تلفا في المخ، ليثبت أيضا كذب وسذاجة مثل هذا الأمر الذي لا يمكن أن يصدقه طفل صغير، ومع ذلك صدقه الكثير من الكبار· وخلال الأسبوع الماضي خرج علينا هواة نشر الإشاعات ومروجوها بصورة لطفلة مشوهة تم نشرها بواسطة الهواتف المتحركة وعلى بعض المواقع الإلكترونية مدعين أنها مولودة لنزيلة بمستشفى الأمل في دبي، رابطين بين التشوه الذي تعاني منه والإدمان، بينما عزا البعض التشوه لأسباب أخرى لا مجال لذكرها· وقد أوضحت مديرة المستشفى من خلال برنامج البث المباشر بإذاعة "نور دبي" عدم صحة الخبر، وتساءلت عن الغرض من نشر مثل هذه القصص وتناقلها بهذه السرعة وعلى هذا النحو الذي لا يخدم القضية حتى لو كانت الغاية نبيلة·

يقول خبراء الدعاية والحرب النفسية إن الإشاعة تجد لها أرضية خصبة في المجتمعات الهشة، حيث تسود أجواء التوتر النفسي والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية غير المستقرة· ولا نعتقد أن مجتمعنا يعاني من أوضاع مثل هذه أو يحمل العوامل التي تؤدي إلى ظهور الإشاعات وانتشارها بهذا الشكل اللافت خلال الفترة الأخيرة، فمجتمع الإمارات ولله الحمد مجتمع متماسك، أبعد ما يكون عن الهشاشة التي تتطلبها أجواء الإشاعات، يتمتع باستقرار اجتماعي، ووضع اقتصادي وأمني تحسدنا عليه كثير من شعوب الأرض· كما أن الإشاعات عادة ما تنتشر في المجتمعات التي يسود فيها الجهل وينخفض فيها الوعي· ولا نعتقد أن هذه الشروط متوفرة أيضا في مجتمع الإمارات المستنير بدرجة لا تسمح بتنامي مثل هذه الظاهرة إذا كانت قد وصلت فعلا إلى مستوى الظاهرة التي تستحق أن تعمل جميع فئات المجتمع ومؤسساته لإيقافها منعا لتداعياتها، ودفعا لأضرارها التي تصبح وخيمة، خاصة في المجتمعات الصغيرة ديموغرافيا كمجتمع الإمارات الذي يمكن أن تنتشر فيه الإشاعات في زمن قياسي مع توفر وسائل الاتصال الحديثة وصغر المساحة التي تنتقل في مجالها الإشاعة·

صحيح أن الإشاعات التي راجت حتى الآن لم تصل إلى درجة الخطورة التي يمكن معها أن تهدد أمن المجتمع واستقراره، لكن توقع الخطر خير ألف مرة من انتظاره· لذلك نتمنى أن ترتفع درجة وعي المجتمع وترقى فوق ما يحاول بعض الجهلة وذوو النفوس الضعيفة بثه بيننا بغرض التسلية حينا، ولأغراض خبيثة أحيانا، فالمجتمعات القوية السليمة هي المجتمعات التي لا تتيح الفرصة للعابثين الذين لا يدركون خطورة ما يفعلون، ولا يقيمون وزنا لأمن وسلامة المجتمع الذي إليه ينتمون· فهل نأمل في رؤية مجتمع خالٍ من الإشاعات أم نخضع لرغبة البعض ممن يرى أن مجتمعا بلا إشاعات هو أشبه ما يكون بالحليب المنزوع الدسم الذي ينصح به الأطباء وأخصائيو التغذية للحصول على أجسام رشيقة رغم طعمه الذي لا يستسيغه عادةً من يتمتع بذائقة سليمة؟

* كاتب إماراتي

aliobaid4000@yahoo.com

�����
   

الحالة الفلسطينية: من الثورة إلى الرضوخ لشروط مميتة:
د. نسرين مراد
المواطنة الاقتصادية الخليجية:
مريم سالم
الغارقون في السياسة:
ياسر سعيد حارب
نحن لانستحق صفة الإنسانية:
الدكتور محمد سلمان العبودي
إشكالية الثقافة:
د. لطيفة النجار
كيف نسكت ضوضاء نفوسنا:
د. فاطمة البريكي
لبنان.. لا تتركوه وحيدا!:
سليمان صالح الفهد
النضج السياسي:
د.عبدالمحسن يوسف جمال
"إلا المجلس"!:
سعاد المعجل
النائب "أبو القنادر":
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
أبحري يا سفينة الحمقى!:
فهد راشد المطيري
لقد اقترب الفرج:
فيصل عبدالله عبدالنبي
عندما يتحرك الشباب:
محمد بو شهري
خليفة علي:
على محمود خاجه
اتحاد عمال البترول:
المحامي نايف بدر العتيبي
الأمم المتحدة بين الأمس واليوم:
آلاء عادل الهديب
59 عاما على نكبة فلسطين(1):
عبدالله عيسى الموسوي
مجتمع منزوع الدسم:
علي عبيد
وزراء الكويت..
تحية إلى شرفاء الأمة..
على الإصلاح السلام..:
محمد جوهر حيات
بقالات..
ثنائية اللغة!:
علي سويدان
بوش: انقل تمثال الحرية!!:
د. محمد عبدالله المطوع