لقد شكلت إيديولوجية البعث في العراق بثوبها القومي والثوري، والتي انطلقت أساسا من شعلة أفكار المفكر السوري الأصل ميشيل عفلق خطرا على احتلال إسرائيل غير الشرعي لفلسطين وأراضي العرب الأخرى مثل الجولان وجنوب لبنان وازداد سعير هذا الخطر على إسرائيل عندما اعتلى سدة الحكم في العراق الرئيس صدام حسين 1979 بعد قرابة نصف عام على رحيل شاه إيران محمد رضا بهلوي والذي استبدل نظامه أيضا بنظام إسلامي ثوري حيث جاء الى السلطة آنذاك آية الله خميني عائدا من منفاه في فرنسا مما حدا بإسرائيل التي لم ترد الجميل للأمم المتحدة التي اعترفت بها أولا عندما جرى تقسيم فلسطين 1947 فضربت عرض الحائط بغالبية القرارات الشرعية الصادرة عنها خاصة تلك المتعلقة بضرورة إزالة احتلالها للأراضي العربية 1967، 1982 بينما أي إسرائيل نفذت فقط قرار الأمم المتحدة 1701 بعد حرب جبانة خاسرة خاضتها مع سكان جنوب لبنان وليس مع حزب الله كما ادعت وتدعي، وإسرائيل الدولة اليهودية الدينية المدعومة بالمطلق من الأخطبوط اليهودي الديني البالغ تعداده اليوم 13 مليون نسمة على خارطة العالم الصهيوني السياسي الثري والواسع الانتشار والمسيطر على الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا بالذات وبقوة لأن تضع العراق تحت المجهر، باعتباره قوة إن لم تكن حالية فمستقبلية مناهضة لها وتهدد كيانها، فتمكنت من ضرب المفاعل النووي العراقي مخترقة الأجواء العربية عام 1980 ثم لعبت دورا خفيا في تسخين الحرب العراقية الإيرانية الفاشلة بواسطة جهازها الاستخباري الشاباك وأجهزة استخبارية أخرى· كما عملت على استمرار الحرب هذه ثماني سنوات والتي راح ضحيتها أكثر من نصف مليون من المدنيين والعسكريين من الجانبين لضرب عصفورين بحجر واحد بقصد إضعاف العراق وإيران معا كقوتين ثوريتين مناهضتين لها، واستفادت بعد ذلك من رصد أخطاء النظام العراقي السابق الدكتاتورية والأوتوقراطية التي أدت الى اجتياح تاريخي خاطئ للكويت يضاف الى خطيئة الحرب مع إيران التي دفع ثمنها شعب العراق غالياً لاحقاً عن طريق محاصرته عشر سنوات متتالية بقصد إسقاط نظامه السياسي حيث رأينا كيف تحركت أمريكا وإنجلترا وبإشارات سياسية واستخبارية واضحة من إسرائيل عام 2003 لإنقاذ إسرائيل ذاتها من الخطر القادم الذي يهددها تحت ذريعة أحداث 11 سبتبمر / أيلول في نيويورك وواشنطن التي ثبت لاحقا "كما بدا" تورط تنظيم القاعدة بقيادة ابن لادن في أفغانستان بذلك الحدث الإرهابي الذي لم يؤذ أحدا من الإسرائيليين المتواجدين في أمريكا آنذاك بصورة جلبت معه الشكوك حول احتمال تورط إسرائيل فيه، بينما لم يثبت أي تورط لعراق صدام حسين بهذا العمل الإرهابي ولا بالعلاقة مع القاعدة ولم يثبت الوهم الاستخباري والسياسي لامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل الذي حاكه الصهاينة ضده بحجة أنه يهدد أمنها وانحصر الحراك الإسرا - أنجلو - أمريكي بعد ذلك بتشخيص دكتاتورية النظام السابق في العراق حيث تبين أنها وجدت ضد شعبه الذي يحاكمه حاليا بواسطة نظام جديد ديمقراطي غير قادر على السيطرة هناك على الرغم من الإسناد العلني من أمريكا، ووجهت دكتاتوريته هذه ضد بعض الشعوب المجاورة له مثل الفارسية في إيران والكويتية العربية في الكويت الى جانب إزعاجها الطفيف لتجمع الشتات اليهودي في تل أبيب وما حولها عن طريق قصفهم بصواريخ صوتية فارغة أطربت بعض العرب·
سيبقى الشرق الأوسط والعالم يعاني من التلاحم الجيوبوليكي "الاقتصاد البشري والجغرافي" بين إسرائيل وأمريكا خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990 على خارطة العالم بحاجة لعملية جراحية سياسية معقدة لفصل هذا التلاحم حتى يرتاح العالم بعد ظهور قطب ثان وثالث من الديمقراطية الوسخة التي يريدون نشرها في شرقنا الأوسطي وعلى خارطة العالم بينما هم يمارسون الاحتلال والنازية وجميع ألوان الكذب على مستوى الإعلام والدعاية والإعلان والعلاقات العامة عن طريق قلب الحقائق لصالح حرية اجتياح العالم والسيطرة على خيراته النفطية والزئبقية والذهبية على طريقة "شريك مضارب" فلا خيار ديمقراطيا إلا للشعوب نفسها باعتبارها المصدر الحقيقي للسلطات ولا حرية إلا بكفاحها وبنضالها ولن ينتصر في النهاية إلا الحق وستذهب دهاليز الاحتلال والكذب الإعلامي الى سراب، فالشعوب اليوم واعية متعلمة ومثقفة ولم تعد جاهلة·
نعم لقد أخطأ النظام العراقي السابق مرارا عبر محطات تاريخية مختلفة نظرا لتقديمه العسكرة على السياسة وعدم استيعابه لحجم تكالب صهاينة العالم عليه إذا ما تمادى في أخطائه وفي المقابل فإن صدام وقادة نظامه لم يهربوا من العراق تاركين السلطة والشعب لفكي الاحتلال وأثبتوا قدرتهم على السيطرة وعلى تدبير شؤون الناس والسياسة في العراق بدرجة فاقت بكثير قدرة النظام الجديد الديمقراطي المسنود أمريكيا وإن انتصرت أمريكا نيابة عن إسرائيل في العراق عن طريق هدم نظامه السياسي وهدم الدولة العراقية نفسها، إلا أنها أي أمريكا ومن يقف معها فشلوا في فرض الاحتلال عليه، والعراق بكل الأحوال ليس مرهونا باسم صدام حسين ونظامه السياسي السابق فقط بل ولكون العراق يمثل واجهة تاريخ الأمة وحضارتها وعراقتها ومكانتها وقلبها وهو ما كتبه أحمد منصور في كتابه قصة سقوط بغداد، لذا فإن تلويح عبدالله المالكي رئيس وزراء العراق الحالي بقرب احتمال إعدام صدام حسين سوف يعتبر خطأ سياسيا كبيرا ولن يحل مشكلة تصاعد مقاومة النظام السابق هناك والتي تعتبر في القاموس الأمريكي إرهابا بل سيزيد من اشتعال نيران المقاومة هذه، وسوف يدخل صدام حسين تاريخ العراق بطلا قوميا، وسيبقى صدى اسمه يدوي وسط شارع الشعوب العربية المنتشرة وسط أنظمتها السياسية المتعددة حاملا الصورة البطولية هذه وليس أمام العرب الآن سوى التوحد الاقتصادي والسياسي والعسكري من خلال دور متقدم لجامعتهم العربية· والاستعداد لتفعيل معاهدة الدفاع العربي بينهم إذا ما تعرض وطنهم الكبير أو جزء منه للخطر، وليس أمام الإعلان العربي الآن سوى التوحد خلف الصوت الواحد القوي والتوجه لمكاشفة جماهيريه العريضة وجماهير العالم بالحقائق والابتعاد عن الدعاية الرمادية والسوداء، ونيران احتراق العراق يجب أن تتوقف لأنها لا تصب إلا في مصلحة إسرائيل ومشروعه ولا تصب أيضا إلا في مصلحة تنظيم القاعدة الإرهابي ومشروعه الفاشل لإقامة الدولة الإسلامية الداعية لممارسة السياسة بواسطة الإرهاب والإساءة للإسلام الحقيقي باعتباره دين الوسطية والاعتدال والمحبة والرحمة والسلام، ولم يعد الحل السياسي في العراق يكمن في البحث عن شخصية شبيهة بصدام للسيطرة على الأمن هناك أو بالمطالبة بإعادة صدام ونظامه الى الحكم فالأمور سوف تزداد تعقيداً والعودة للدكتاتورية من جديد ليست الحل، وإنما الحل يكمن في تشكيل نظام ديمقراطي مؤسسي وطني قوي يمثل العراق بمعزل عن الاحتلال الإسرا - أنجلوا - أمريكي ونزواته، ينادي بوحدة العراق وباعتباره الوحدة مصلحة عراقية وقومية عليا وعندها سينتهي مصير الاحتلال في العراق الى مصير أشبه بانتهائه ونهايته في فيتنام·
يفيد تقرير جامعة هوبكنز الأمريكية بأن أكثر من 650 ألف عراقي سقطوا في العراق منذ اجتياحه ومن ثم احتلاله، وأن نسبة معدل الوفيات وصلت الى 2,5 مرة عن نسبة الموت العادي، فيما أفاد مقال في جريدة النيويورك تايمز كتبه نيقر أبونته بأن احتلال العراق أثار التطرف الإسلامي في كل العالم وليس في العراق فقط، وأكد قائد القوات البريطانية في العراق ريتشارد دونات لصحيفة ديلي مايل بأن تواجد القوات البريطانية في العراق يعقد من الوضع هناك ويذكي الإرهاب العالمي، الأمر الذي من شأنه أن يسرع في رحيل الاحتلال عن العراق والذي لم يحل أية مشكلة سياسية واقتصادية واجتماعية فيه بل عمل على خلط كل المشاكل هناك وزجها في أتون نيران واحدة·
بقي علينا هنا أن نقول بأنه: لا توجد دولة على خارطة العالم يمكن حل مشاكلها ونشر الديمقراطية فيها بالسطو المسلح والاحتلال، وإذا كان العالم يعج بالأنظمة الدكتاتورية وأشباه الدكتاتورية فإن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال الشروع باحتلالها وتدمير حاضرها ومستقبلها تماما كما يحدث الآن في العراق وفلسطين الجريحتين·
السؤال الأخير الذي يطرح نفسه هنا بقوة هو لماذا تقود إسرائيل المحرقة في العراق والفتنة الطائفية فيه وهي نفسها التي عانت في التاريخ القريب من محرقة الهولوكوست Holocaust إبان الحرب العالمية الثانية 1939/1945 وحصدت أرواح حوالي 6 ملايين يهودي فهل تريد إسرائيل معاقبة العراق، بالطريقة نفسها كي تنتصر للمحرقة مع فارق الزمن واختلاف الأسباب والظروف؟
جامعة البترا - الأردن |