التقيتها في إحدى العواصم الأوروبية·· فتاة عراقية يافعة·· انتقلت بحكم عمل زوجها الى الخارج، وهو الذي غادر العراق هاربا من بطش "البعث" وظلمه منذ أكثر من عشرين عاما·
لم يسبق لمها، وهو اسم فتاتنا العراقية، أن غادرت العراق، حيث كان حزب البعث يحظر مغادرة "القطر" إلا بإجازة أو رخصة من السلطات، لكنها استطاعت أن تتأقلم مع ظروف الاغتراب، وتنصهر مع محيطها، حدثتني مها عن تجربتها، خاصة أنها تنتمي الى الجيل الذي فتح عينيه على "صدام" وحزبه، وبدت من حديثها أكثر تفاؤلا تجاه الوضع في العراق، لكنها أثارت مسألتين ترى مها أنهما يشكلان الشغل الشاغل لكل أهل العراق·
ترى مها أن الأمر الذي عزز تفاؤلها تجاه المستقبل قد كان في التحسن الملموس الذي طرأ على راتبها الشهري، حيث تعمل مها في سلك التدريس، وكانت تتلقى ما يساوي الثلاثة دولارات كراتب شهري، أما بعد الإطاحة بنظام "صدام حسين" فقد أصبح راتبها خمسمئة دولار·
بالنسبة لمها، فإن "معيار" نجاح الولايات المتحدة في العراق هو مرهون بتحسن أوضاعها المعيشية، وهو "المعيار" الذي يشاركها فيه الملايين من الشعب العراقي الذي ذاق ضنك العيش إبان حكم "صدام حسين" ويريد أن يلمس النجاح الذي يتحدث عنه أهل السياسة، وتردده أجهزة الإعلام والفضائيات في كل مرة يأتي الحديث فيها عن الحرب في العراق·
لا ينكر أحد أن إنجاز الحرب الأولى كان في إقصاء "صدام حسين" وحزبه، وأن هذا الإنجاز يصب مباشرة في صالح كل مواطن عراقي، لكنه يبقى إنجازا لا يطعم خبزا، ولا يشفي مرضا ولا يؤمن سكنا، أو على الأقل هذا ما يراه المواطن العراقي وهو يصارع الظروف المعيشية في سبيل تأمين الخبز له ولأهله، فبالنسبة إليه، تأتي "استراتيجية النصر" خاوية وبعيدة جدا عن الواقع طالما لم تطل بنودها مشاكله واحتياجاته اليومية والمعيشية·
ونعود من جديد الى "مها" فتاة العراق لنستعرض معها المسألة الثانية التي تشغل بال المواطن العراقي· والتي لخصتها "مها" بقولها إن قلوب أهل العراق قد أصبحت مزروعة بحقد وكراهية لكل من ينتمي للعرب وللعروبة وهو شعور برأيها يغذيه يوميا إعلام عربي مساند - ولو بصورة مبطنة أحيانا - لنظام البعث ورموزه، بالإضافة الى مجاميع من "المجاهدين" العرب الذين احتلوا الساحة العراقية ليفجروا فيها غضبهم وحقدهم·· وحربهم المجنونة·
وهو أمر لم يعد خافيا على المواطن العراقي الذي تبث قنواته الإعلامية مقابلات مع أولئك "المجاهدين" يرون فيها مصادر تحويلهم ومصدر قياداتهم الممتدة فوق خارطة الوطن العربي·
مؤلم ولا شك حال العراق اليوم، فبالإضافة الى حرب "الآخرين" فوق أرضه، والتي يذهب ضحيتها كل يوم عشرات من شباب العراق وأهله، هنالك حرب أخرى تشتعل داخل النفس والروح العراقية، حرب يؤججها شعور بالغبن وخيبة الأمل تجاه الأشقاء والإخوة في الدين والتاريخ، وتلك هي المعضلة الحقيقية التي سيواجهها العراق مستقبلا، أزمة مع التاريخ، وأخرى أفرزها واقع الجغرافيا في خريطة العرب·
ينشر بالتزامن مع "البيان'" الإماراتية
suad.m@taleea.com |