تمثل التطورات في مختلف الساحات العربية قضايا أساسية وملحة على الإدارات السياسية والقوى المنظمة ومنظمات المجتمع المدني لتكيف موقفها بما يتطلبه الأمر في كل حال·· هناك مسألة الصراع العربي الإسرائيلي والذي أصبح محددا بما يتصل بالصراع في الساحة الفلسطينية وأهمية إنجاز الاستقلال الوطني، والانسحاب من هضبة الجولان ثم مسائل التطبيع في العلاقات السياسية والاقتصادية·· وإذا كان الانسحاب من غزة يمثل تطورا مهما في مراحل عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلا أن هناك شوطا مهما للوصول الى شاطئ الاتفاق النهائي بشأن الدولة الفلسطينية العتيدة··· لا تزال المستوطنات الإسرائىلية في الضفة الغربية تمثل أكبر عائق أمام التحرر من الاحتلال الإسرئيلي حيث يظل للمستوطنين صوت عال على التأثير على القرارات المصيرية في مسار الصراع بين الجانبين·· ومهما كان رجال السلطة في إسرائىل على قدر من الواقعية واستيعاب أهمية القبول بالمطالب الفلسطينية المشروعة والتي تدعمها القرارات الأممية، بما فيها القراران 242 و 338، إلا أن المستوطنين قادرون على تعطيل التوجهات الدافعة لإزالة تلك المستوطنات والتي يقطنها الآن ما يقارب من ربع مليون إسرائيلي·· وهناك مستوطنات أصبحت أساسية مثل مستوطنة "أريل" وتلك المستوطنات المحيطة بالقدس بما يمثل عوائق أساسية أمام مسيرة التسوية والسلام·
وتظل هناك قضايا أخرى في الملف الفلسطيني مثل مسألة القدس وقضية عودة اللاجئين لهم بما يعني أن الحوارات حتى الوصول للتسوية سوف تتطلب جهودا دولية ضاغطة للوصول الى حلول منطقية ومقبولة فلسطينيا·· لكن يظل أمام العرب تحديات في هذا الملف الذي مازال يمثل عقبة أمام التقدم والتنمية في الحياة العربية، بما يعني أن هناك مفاهيم يجب أن تتغير وتنجح نحو القبول بالتسوية النهائىة على أسس الشروط المتفق عليها دوليا والتي تعززت بمبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مؤتمر بيروت عام 2002·· ذلك يعني أهمية إجراء مراجعة فكرية لكل القيم والمفاهيم التي سادت في المجتمعات العربية منذ بداية الصراع عام 1948 والذي تأجج على إثر الحروب العربية الإسرائىلية، خصوصا حرب يونيو 1967 الكارثية·· هناك أجيال عربية تأصل لديها العداء للتسوية والحل السلمي، فهل تغيرت قيم هذه الأجيال، أو على الأقل النخب المثقفة بينها بما يساعد على تطوير قيم جديدة تدعم الفلسطينيين في نضالهم السلمي نحو حسم الصراع؟
وإذا كانت القضية الفلسطينية قد شغلت العرب على مدى تجاوز أكثر من 57 عاما، فهل يمكن لهم، الآن، أن يعيدوا الأمور الى نصابها ويحددوا جدول أعمال مختلف يضع في أولوياته مسائل الإصلاح السياسي والاقتصادي؟ غني عن الجدال أن مسائل الإصلاح أصبحت أساسية بعد التدهور المتراكم في الحياة العربية وتراجع العرب عن ركب الحضارة الإنسانية، ولا يمكن أن ينجز الإصلاح دون توافر القناعات الثقافية والفكرية بأهميته·· أما التمترس بالقيم القديمة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، فذلك يعني أن العرب اختاروا التخلف وعدم التطور الحضاري·· إن الإصلاح، ويأتي الإصلاح السياسي في المقدمة وهو الأكثر أهمية، يتطلب أن تقبل الأنظمة الحاكمة بمشاركة الشعوب في تقرير مصيرها وتحديد هوية ممثليها من خلال صناديق الاقتراع وبشكل دوري وبشفافية وفي ظل تعددية حزبية منوعة·· هل يمكن للأنظمة الحاكمة في البلدان العربية أن تتبنى آليات للإصلاح بحيث تتحقق التحولات دون اضطرابات وإعاقات وبشكل حقيقي وليس على أسس تجميلية لا تحقق أهداف الإصلاح المنشود؟
أهم من كل ما سبق ذكره هو: هل المجتمعات العربية مستعدة لاستحقاقات التغيير المنهجي وبسلاسة ودون عنف واستبداد؟ كما أن هذه المجتمعات في صيرورة التغيير لا بد أن تكيف مفاهيمها وقيمها وطروحاتها لمنطلقات ثقافية جديدة تعتمد على الحوار والتأطير السلمي والاعتماد على حركة المجتمع المدني·· إن قيم التغيير لابد أن تتجاوز العصبيات الإثنية والقبلية والطائفية وتعتمد على البرامج الثقافية والسياسية التي تجنب البشر من خلال طروحات تتوافق مع مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية·· وإذا كانت مفاهيم الدين والتعصب القومي قد سادت لفترات طويلة وتمحورت شعارات الأحزاب والمنظمات السياسية حولها فإن ذلك لم يعد مفيدا ولا يمكن جذب البشر حيث إن المقياس هو مدى تحقيق إنجازات يستفيد منها المواطنون في مسيرة حياتهم، وهذا ما جبلت عليه المجتمعات الديمقراطية المعاصرة·· إن التحديات القادمة تستوجب ملامح جديدة في الحياة العربية، وربما تتفاوت هذه الملامح من مجتمع عربي إلى آخر، وهي تستلزم فهما لمعايير التغيير وضروريات الإصلاح·
باحث اقتصادي كويتي
tameemi@taleea.com |