الكلمة هي إفراز جملة من العطاءات الذاتية والوجدانية والعقلانية·· وتأتي قيمة الكلمة في قيمة ماهيتها الإعلامية والاجتماعية والتاريخية·· من حيث إنها مفتاح الحياة وبدءها!!
والكلمة تصبح كائناً مادياً حياً في عمق المتلقي إذا تناضجت أبعادها الحضارية والإنسانية والذهنية وتدافعت إرادتها في طماح إرادة المتلقي!
للكلمة خصوصية تقنية وثّابة·· والإعلامي الذي لا يفجر هذه التقنية ويُفضي بها إلى روع المتلقي ويضعها في أطرها الصحيحة كي تلعب دورها التأثيري والإنساني المطلوب منها أن تؤديه في المجتمع هو إعلامي يوظف أدواته الإعلامية في مجالات إعلامية خارج تقنية الكلمة·· ولذا فإن مؤسسته الإعلامية تصبح رهن هامش تقنية الكلمة ومدلول أبعاد رسالتها الثقافية والإنسانية والاجتماعية· والإعلاميون هم أكثر الناس انتماء للكلمة·· بل إن الكلمة في حد ذاتها إعلام·· والإعلام في حد ذاته كلمة·· إن التداخل "الفيزيائي" بين الكلمة والإعلامي إذا تكافأت وتناغمت تقنية رسل طرفيهما في المؤسسة الإعلامية تأخذ الكلمة سمو دورها الإنساني والثقافي وتحقيق مصداقية أدائية تقنيتها المهنية·· على الوجه المطلوب!!
الإعلام سلوك والكلمة أيضاً سلوك وتأتي الصعوبة في توظيف هذين السلوكين المتجادلين والمتجاذبين والمتنافرين والمتباعدين والمتآلفين والمتناقضين المشمولين في إطار أدائية مهنية واحدة:
في البدء كانت الكلمة المادية وكان "الإعلامي" إفرازا طبيعياً للكلمة وحركته إثراء طبيعياً لحركة الكلمة التي هي - بالضرورة -ـ إثراء طبيعي لحركة "الإعلامي"·
إن هذا الخلق الإبداعي يتجدد بنسبيته الموضوعية والذاتية في الطبيعة والفكر والمجتمع منذ الأزل وفقاً لقوانين الجدل!!
الكلمة هي المادة الإعلامية التي يعمل عليها الإعلامي في تقنية ذهنية وإبداعية من أجل إعادة خلقها وإظهار قسمات نبلها الإنساني والاجتماعي والإبداعي والثقافي·· وتقديمها إلى المتلقين من أبناء المجتمع!!
الكلمة في البدء من حيث إنها مفتاح الحياة وصفحة كتابه الأولى المفعمة بالنبل والطهارة والبراءة·· قد تشوهت تخلقاتها الإنسانية والحضارية عبر حمم التحولات الاجتماعية والطبقية·· إذ لعب الإعلاميون دوراً مبرزاً في تشويه قسمات معانيها الإنسانية والفلسفية والثقافية والحضارية·
إن إشكالية التشويهات للكلمة وحرف مسارات بوصلتها إلى وجهات مغايرة للمعاني الإنسانية لجوهرها·· تتمثل في سلوكية الإعلامي وارتباطاته الهامشية بالقيم الإنسانية والثقافية للكلمة· ويأتي واقع الخلل في سلوكيات الإعلامي الذي هبط بها إلى الحضيض ووضعها على سكة مغايرة لسكتها وتفنن في تشويه تخلّقاتها الإنسانية وتعسف حقيقة مصداقيتها بنزواته السلطوية المضغوطة بهمزات الدولة ومؤسساتها!!
الكلمة هي صادقة بواقع فطرتها الإنسانية التي فُطرت عليها منذ الأزل وتشيأت خيراً وعدلاً ونبلاً وسعادة بتلقائية نشأة ولادتها الأولية!!
مادية الكلمة في بدئها·· لم تكن واقعاً موضوعياً مكتسباً إلا بعد استمرارية تشكلات مراحلها التاريخية·· أما الإعلامي فهو واقع مكتسبات وتخلقات اجتماعية وثقافية وفكرية·· وقد تشكل في عمق استمرارية تطور مراحل الكلمة التاريخية·· إنه يعيش ويتنفس ويتشكل عبر مراحل الكلمة اللاحقة من تطورها وفي حميمية حركتها·· وما كسيف تشوهات تخلقها إلا امتداد واستمرار لكسيف تشوهات نفوس وعقول إعلامييها!!
وإذا كانت الكلمة إفرازاً موضوعياً لحركة الإعلامي فإنها تجددت وتطورت ونمت عبر إفراز حركة الإعلامي·· في الاستخدام والاستثمار والتوظيف والتوجيه والتأثير·· وقد تأسست ركائزها عبر التطورات التاريخية اللاحقة·· وراحت تتشكل وتُوظف وفقاً للمنظورات الطبقية في حركة الشعوب·· حتى أخذت أبعاد مراحل تشكلاتها المؤسساتية في فكرة وزارة الإعلام·· التي خرجت أول ما خرجت من رحم الحكم الديكتاتوري والشمولي وعلى أعتاب النهوض النازي حيث ابتكرها النازي الشهير الهر جوزف جوبلر·· إذ راح الإعلام النازي في تضليل الشعب الألماني زاعماً أنه الشعب الأكثر نقاء وعرقا ودماً واقتدارا للنهوض فوق أعراق الشعوب الأخرى واستعبادها وإذلالها والسيطرة على ثرواتها·· وقد رفع الشعار المشهور اكذب·· اكذب·· ثم أكذب حتى يصدقك الناس وتصدق كذبك بنفسك·· ولم تعرف دول أخرى من قبل نمطية وزارة الإعلام·· إلا أن دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية في مواجهة دول المحور استخدموا الأساليب نفسها في حشد رجالات الإعلام والمثقفين بجانبهم للتصدي إلى أكاذيب وتلفيقات أجهزة وزارة الإعلام الهتلرية ومخاطر سطوة إعلامها الدعائية!!
وقد افترس الإعلام النازي القيم الإنسانية للكلمة وفض مصداقية طهارتها وشوّه ملكتها الإنسانية والديمقراطية وأحالها إلى سلعة ساقطة يتقاذفها عهر وإفك الافتراءات والأكاذيب·· وكان القائمون على وزارة الإعلام النازية بقدر ما حّوروا ومسخوا وقولبوا وشوّهوا معلومة الكلمة والخبر كانت فرائصهم ترتعد أمام مصداقية الكلمة والثقافة، وقد كان جوزف جوبلر يقول: عندما أسمع كلمة ثقافة أضع إصبعي على زناد مسدسي!!
إن الكلمة بطبيعتها تحمل مدلول تنوع حرية وواقعية تخلّقها في واقعية تنوع حركة الحياة·· والإعلامي بضرورة عمله ينشط ضمن مدلول واقعية هذا التخلّق المنوط بتنوع حرية حركة الكلمة ومصداقيتها تجاه الإنسان!!
ومن تنوع الحياة·· وتنوع الكلمة وتنوع المفاهيم وتنوع العقول وتنوع الحقوق وتنوع الواجبات وتنوع الفئات والطبقات·· يصبح الأخذ بنظام الإعلام الواحد في حد ذاته تناقضاً فظاً مع هذا التنوع العظيم في الطبيعة والفكر والمجتمع!!
ومنذ الحرب العالمية الثانية فقد طرأت تغييرات كثيرة على طبيعة الإعلامي والكلمة وفقاً لطارئ المتغيرات العاصفة في الطبيعة والفكر والمجتمع·· إذ أصبح العالم من ألفه إلى يائه وبكامل حركة تنوعاته·· رهن حركة أجهزة إعلام متطورة متنوعة·· وإن خصائص هذا التطور يمكن أن تعطى ثمار تطوراته الإيجابية اللاحقة على قواعد الحرية والتعددية في حقول سلطات المجتمع التشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية·· ففي بريطانيا - مثلاً - كانت سلطة الإعلام حرّة التنوع والحركة وكان مفهوماً إن الإعلام يعبر عن المصالح الطبقية·· وإن المستضعفين لا أثر لهم في عالم المعلومات·· وكانت فكرة حياد الدولة كما يقول الكاتب المصري (أحمد عباس صالح) بين المصالح الطبقية المختلفة والمتصارعة تنضج على عكس المفاهيم السائدة بعد الحرب العالمية الثانية خاصة في صفوف الماركسيين واستطاع المفكر البريطاني "أنورين بيغان" من حزب العمال أن يدلل على تطور جهاز الحكم في بريطانيا إلى أن يُصبح حيادياً حتى مجيء أحزاب أيديولوجية إلى السلطة ويبدو أن المجتمع البريطاني كان ميالاً إلى إيجاد حكومة محايدة خاصة بالنسبة للإعلام· وظهرت فكرة إنشاء مؤسسة إعلامية ليست تعبيراً عن اتجاه معين من الاتجاهات المتصارعة إنما تعبير عن الدولة· وليست طبقة معينة· ولكنها في الوقت نفسه هيئة مستقلة وهكذا نشأت هيئة الإذاعة البريطانية في الراديو والتلفزيون وعلى الرغم من نجاح هذه الفكرة إلا أنه ثبت مؤخراً أن الهيئة لم تكن مستقلة تماماً فقد ثار جدل في الصحف البريطانية منذ عدة سنوات حول وجود لجنة أمنية تتدخل في تعيين الإعلاميين وفصلهم· وقد عولج الموضوع ولكن مازال وضع هذه الهيئة ونظام عملها مثار جدل لم يُضعفه إلا تعدد قنوات البث البريطانية المستقلة فضلاً عن محطات البث العالمية الآتية من كل مكان·· إن واقع المتغيرات العالمية في طبيعة حركة عولمة الإعلام تشير إلى ضرورة إعادة النظر في الأسس الإعلامية التي أكل وشرب عليها الدهر منذ الحرب العالمية الثانية وإحداث متغيرات تجديدية وتطويرية في صلب نظام الإعلام الواحد!!
إن عولمة الإعلام تصب في الارتقاء إلى واقع وموضوعية القيم الموضوعية والذاتية المنوطة بالإعلام العالمي·· وفي طبيعة حركته المتجذّرة بحرية الكلمة وديمقراطيتها وفقا لتناول مصداقيتها في واقع متناول تنوعها وتعجيل القيام بإجراء عملية جراحية في مفاصل أروقة بيروقراطية دهاليزها الوازرية!!
الإعلام العربي بشكل عام يلهث دون المستوى المطلوب الذي يجب أن يلعبه بواقع اختناقات والتهابات وتورمات وتعفن جيوب متنفساته·· ولا يمكن الارتفاع به إلى المستويات التي تليق بمضامينه الإنسانية والاجتماعية والثقافية والوطنية في ظروف الأجواء "العولمية" المُطبقة بشراستها التوجيهية والتربوية·· إلا بتجديد مساراته وانفتاحاته وتنوعاته وآفاق فضائياته على الحرية والتعددية وفقاً لمقتضيات مخاطر الجديد القادم الذي تدفع بمساراته حركة العولمة·· وأبعاد مضامينها الاجتماعية·· لكي يصبح الإعلام مهمة اجتماعية موضوعية في متناول حرية الجميع·· ولا غرو فإن الإعلام أحد الأركان الأساسية في إظهار الحقائق وإيصالها إلى الناس·· وهو في حد ذاته إحدى الركائز الأساسية للسلطة السياسية·· وأهميته كسلطة رابعة يضطلع بدور تأثيري وتوجيهي خطير على السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وإن العبث والاخلال بالنسق الإعلامي وماهية موضوعية مضامينه الإنسانية في الصدق وإظهار الحقائق·· أو غمطها وتشويهها وإظهارها على غير واقع مظهرها·· هو بالضرورة يعكس دورها سلباً أو إيجاباً على الحركة التشريعية والتنفيذية والقضائية·· فسلبها وإيجابها من سلبه وإيجابه·· ولا يمكن تصور سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية حرّة ونزيهة من دون إعلام حرٍ نزيه·· وفي القديم قال الصينيون: "لتتفتح مئة زهرة ولتتسابق مئة مدرسة·· تعايش مديد ورقابة متبادلة"·
والإعلام الدعائي الأجوف القائم على الكذب وتمرير النهج السياسي الجاري وتغطية الأخطاء والتستر على فضائح الفساد·· لا يمكن أن يلعب دوره الطبيعي في المراجعة والنقد والتقويم·· وإظهار الحقائق·· بل يكون معول هدم للقيم والأخلاق السامية الممثلة في الصدق والنبل والوفاء والاستقامة·· إن هذه القيم الإنسانية تتوارى ماهيتها الاجتماعية وتضعف تحت عشوائية التربية على الكذب وإشاعة الباطل والتستر على الفساد· وإعطاء صور خارقة للزعماء والرؤساء!!
فالمواطنان العربي وغير العربي·· تراهما يكتسبان الكذب والنفاق والتزوير والمغامرة والمواربة والتحلل الأخلاقي والنفسي والتفسخ القومي والوطني·· وعدم المصداقية في الأداء تجاه الدولة والتشكيك في مصداقية صناعة قراراتها في ضوء إعلام يقوم على هامش حقوقهم وواجباتهم·· ويلقنهم ويربيهم على مثل هذه الأخلاق والتخلق وغرسها في نفوسهم وعقولهم بشكل مباشر وغير مباشر، فإصلاح الإعلام من إصلاح المواطن والوطن على حد سواء!! |