هل أصبحت الثقافة مدجنة بما يتوافق مع المزاج السياسي المتسيد في المجتمعات العربية؟ ماذا يمكن أن ينجز من قبل المثقفين في ظل هيمنة الفكر الشمولي وسيادة القيم المستبدة؟ وليس بالضرورة أن تكون هذه القيم محمية من السلطة الحاكمة، بل يمكن أن تحتمي بتيار مجتمعي عريض، أو أن تنال مباركة تيار فكري متأصل سياسيا·· ولذلك فإن عددا من المفكرين العرب ظلوا، ولسنوات وعقود طويلة، يتحاشون نقد الفكر الديني، على الرغم من أن ذلك لا يعني تطاولا على الدين ذاته، وعمدوا الى عدم الجدل مع مفكري الإسلام السياسي حول مختلف القضايا المحورية التي تهم المجتمعات العربية مثل التواصل مع الثقافة العالمية أو تأصيل الديمقراطية وقيمها أو تحرير المرأة وتحديث البنى الثقافية في المجتمعات العربية·· مثقفون آخرون تهيبوا مجادلة الثقافة القومية التي تسيدت خلال سنوات الخمسينات والستينات، وظلوا حتى زمن قريب، يخشون من إثارة غضب أيتام الفكر القومي، ولم يجادلوا في أبجديات ذلك الفكر أو يطرحوا أفكارا جديدة تعمل على تطوير الفكر ذاته·· وكان هم أولئك المفكرون أن يتفادوا إثارة ما يفهم بأنه هجوم على مبادىء الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أو الأحزاب القومية الأخرى·
ولا شك أن هذا الفكر الاعتذاري Apologetic قد أوجد أرضية ثقافية للتأثير على الفكر العربي، حيث ظلت الأوضاع رهينة للقيم المستبدة المتسيدة، وبكافة صنوفها·· ولابد من الإقرار أن هذه الوضعية تمثل استبدادا ثقافيا وإرهابا لكل مجدد ولكل الذين يحاولون تحريك المياه الثقافية الراكدة وبطبيعة الحال إن هذه الأحوال لابد أن تضع قيودا على إمكانية الانتقال إلى الديمقراطية، حيث يصبح البشر مقيدين بتقاليد وقيم تجعلهم أسرى لثقافات وقيم شمولية·· ولهذا يصبح من السهل تفسير استمرار أوضاع سياسية دون تغيير لأمد طويل، حيث لا توجد هناك مقاومة فكرية، وإن وجدت فهي محدودة الأثر والتأثير واتساع رقعة القبول·· ومن المثير أن المناهج والبرامج التعليمية وضعت لتكريس هذه الأحوال الثقافية، فالتعليم يكرس التلقين ولا يجعل من التلامذة والطلاب أحرارا في سلوكهم في التحصيل العلمي والثقافي·· لقد نشأ جيل عربي خلال السنوات الثلاثين الماضية يعاني من الفقر الثقافي ومن الجهل تطورات الفكر الإنساني·
هل يمكن أن نتوقع أن تتغير هذه الأحوال وتنتعش الحياة الثقافية في أكثر من بلد عربي؟ لاشك أن ذلك يظل مرهونا لتطورات سياسية واقتصادية أساسية وفاعلة·· فكما هو معلوم أن الحياة السياسية لا تزال، على الرغم من عمليات التجميل هنا وهناك، مقيدة ولا توجد توجهات واضحة لنقل المجتمعات العربية إلى الحياة الديمقراطية العصرية·· يضاف إلى ذلك أن التحولات الاقتصادية لا تزال متواضعة وهي تمثل خطوات خجولة نحو تحرير الاقتصادات العربية، وهذه الخطوات لا تضع أسسا مؤكدة لدفع الحياة السياسية نحو الانفتاح والتحرر··· كما أن الطبقات الجديدة التي تمكنت من تنمية ثرواتها خلال سنوات الحكم الشمولي في أكثر من بلد عربي لا تملك قيما ثقافية عصرية، وهي تنتمي أصلا لفئات ريفية أو هامشية، ولكي تستطيع أن تقود التنمية الاقتصادية والسياسية بوعي، فهي بحاجة إلى عقود طويلة في ظل أوضاع مجتمعية مناسبة لتنمي قيما جديدة تتوافق مع العصر وهذا يعني أن المعضلة التي تعاني منها المجتمعات العربية مركبة ومعقدة·
وتظل مسألة ثقافة المثقفين الأشد تعقيدا في تطوير الحياة الفكرية في البلدان العربية·· هؤلاء المثقفون يتبعون مدارس سياسية متنوعة المنهج، ولكنها تتفق في أسلوب التعامل مع البشر من الأتباع والخصوم وهي مدارس ديكتاتورية لا ترحم المختلفين في الرأي معها·· وإذا كانت قد برزت في السنوات الأخيرة اهتمامات بشأن قضايا الديمقراطية وحرية الفكر وحقوق الإنسان في الاختلاف إلا أن هذه الاهتمامات لم تتأصل على أسس راسخة·· وحتى في منظمات حقوق الإنسان نجد، أحيانا، نزعات حادة ضد الخصوم السياسيين والفكريين، ولا تزال نزعة الانتماء السياسي طاغية على أعضاء في هذه المنظمات على حساب اهتماماتهم الجديدة بحقوق الإنسان·· ولاشك أن البشر لا يتطهرون من أدرانهم بيسر وسهولة ويتطلب الأمر مرورهم بتجارب طويلة في أطر الاهتمامات الجديدة لكي يصلوا إلى الطهر الديمقراطي المنشود·· كما أن عدم توفر البيئات التي تحيط بعملهم والتي توفر لهم النضال الديمقراطي السليم لا يمكن من تأصيل القيم الجديدة في نفوسهم·
إن المعايير الفكرية الضرورية لخلق حياة ثقافية عصرية في البلدان العربية تستلزم وجود مثقفين أحرار قادرين على تحمل تبعات اختياراتهم لمواجهة السلطة السياسية والمؤسسات المجتمعية المعادية·· وقد يتحمل هؤلاء عداء المجتمعات العربية، بأغلبيتها، لأمد طويل ولكنهم سوف يتمكنون من حرث الأرض وبذر الفكر الديمقراطي ومن ثم يحصدون القبول في أوساط تلك المجتمعات·· لكن يجب، أيضا، أن نهتم بتطوير البنية الاقتصادية بما يمكن من خلق العوامل الموضوعية لبناء مجتمعات عصرية تستوعب الفكر الحر·· وربما تساهم التقنية الحديثة في مساعدة العرب على تجاوز التخلف والاستبداد، حيث يتمكن أبناء هذه المجتمعات، وخصوصا، الشباب من متابعة ما يحدث في العالم ويدفعهم لقبول التحرر من معوقات المدارس الفكرية الشمولية·· هل نأمل أن تشهد السنوات العشر المقبلة تطورات باتجاه الفكر الحر؟ |