على الرغم من أن الجميع تناول وتحدث عن قضية طالبة المعهد التطبيقي، إلا أنها تبقى قضية أثرى وأكبر من أن تغطيها سلسلة المقالات والحوارات التي دارت!! فهي أولا تمس أمن الوطن وأمانه، وهي ثانيا تنتهك الدين وتتهم الإسلام بما ليس فيه وبما هو منه براء!! فالأخبار المتلاحقة مخيفة ومقلقة والشكوك تلاحقنا جميعا حول إمكانية الحكومة احتواء قضية كهذه عانت منها دول أخرى لها باع طويل وخبرة أطول في التعامل مع قضايا العنف، وخاصة ما يتعلق منها بعنف جماعات الإسلام السياسي!! يستعرض الدكتور "حسنين توفيق إبراهيم" في كتابه "ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية" الصادر في العام 1992 بعضا من ملامح هذا العنف حيث يذكر بأن مصادر الدراسة قد أوردت 78 حدثا من أحداث العنف مارستها بعض الجماعات والتنظيمات الإسلامية في تسعة أقطار عربية هي: سوريا (50) ومصر (8) والجزائر (8) والعراق (4) وتونس (1) والمغرب (1) والسعودية (3) والبحرين (2) واليمن (1)·
ويعكس اتساع نطاق أعمال العنف التي مارستها الجماعات الإسلامية حقيقة ظاهرة الإحياء الإسلامي التي تصاعدت منذ مطلع السبعينيات· وقد اتخذت هذه الظاهرة مظاهر متعددة أهمها تنامي تنظيمات إسلامية مسيسة تتبنى فكرا انقلابيا يقوم على أساس تكفير النظم الحاكمة والعمل على تغييرها بالقوة ولقد مثلت هذه الظاهرة تحديا كبيرا للنظم الحاكمة في الأقطار العربية، إذ شككت في أسس ومصادر شرعيتها من منطلقات عقيدية، وانتقدت سياساتها وممارساتها على المستويين الداخلي والخارجي، كما امتلكت القدرة على تعبئة قطاعات عريضة، وبخاصة من الشباب ضدها، ورفعت راية الرفض والتحدي في مواجهتها!! كما يطرح الكاتب بعضا من الأسباب التي تفسر سبب تزايد انخراط المواطنين وبخاصة الشباب في هذه التنظيمات الإسلامية كسهولة الخطاب الإسلامي ويسره، فالجماعات الإسلامية غالبا ما تقدم إجابات سهلة لمشكلات المجتمع إذ تختزل سبب المشكلات بالبعد عن الله!!
وأيضا في طبيعة النظم العربية التي استطاعت أن تواجه التيارات اليسارية، وتبرر إجراءات قمعها أكثر من قدرتها على ممارسة هذا المسلك إزاء الجماعات الإسلامية، ذلك لأن أغلب هذه النظم تتجه نحو الاعتماد على الإسلام كمصدر لشرعيتها!! ولقد تعددت سياسات النظم العربية وردود أفعالها إزاء الجماعات الإسلامية· فبعضها قبل بتلك الجماعات طالما ظلت أنشطتها قاصرة على أعمال الدعوة الى الإسلام، وأخرى سعت الى ادماج الجماعات الدينية في أجهزة الدولة!! بينما شجعت نظم أخرى أو على الأقل تغاضت عن أنشطة بعض الجماعات الإسلامية المسيسة، لتوظيفها سياسيا في ضرب وتحجيم القوى اليسارية وهو أسلوب يعرف في التحليل السياسي باسم "خلق" الصراعات المتوازنة· إذ يتجه النظام الى موازنة قوة اجتماعية بأخرى، وضرب تيار سياسي بآخر دون أن يتدخل بشكل فعلي ومباشر· وبهذه الطريقة يتم إنهاك كل القوى في المجتمع، ويتمكن النظام من أن يتحكم في كل خيوط اللعبة السياسية!!
حادثة طالبة المعهد التطبيقي تأتي لتشكل تحولا خطيرا ومخيفا في أسلوب ونهج (الحوار) في هذا الوطن!! والحادثة بتفاصيلها تؤكد هوية مرتكبيها وانتمائهم الفكري والسياسي!! وإذا كانت هذه الحادثة قد أثارت قلقا وخوفا على المستويين الرسمي والشعبي· فإنها كذلك قد أثارت أسف الجميع بسبب حملة الدفاع المبطن زورا بالخوف على الإسلام، والذي رفعه وأعلنه أقطاب ورموز التنظيمات الإسلامية من حملة "صكوك الغفران"· الذين أدانتهم من قبل حوادث مشابهة ساهموا من خلالها في التغرير بفتية "الصحوة" الصغار الذين توهموا بأن العنف هو مدخلهم لإصلاح المجتمع وتقويمه!!
لقد ساهمت الحكومة في هذا الوطن، وانطلاقا من مفهوم "خلق الصراعات المتوازنة" في رعاية وحماية التنظيمات والجمعيات الإسلامية منذ مطلع السبعينيات!! ومن الطبيعي أن تنمو تلك التنظيمات وتزدهر بفعل الرعاية الحكومية، وأن تصبح لها مؤسساتها الاقتصادية القوية، والسياسية المؤثرة وأن يمتد نفوذها لتسقط تحته مؤسسات تعليمية ومالية وإعلامية حكومية وخاصة!! بمعنى آخر، لقد أكملت تلك التنظيمات بناء بنيتها التحتية!! وهي الآن بصدد بناء جبهتها النضالية والتي بدأت بالفعل بإحصاء عدد ضحاياها في المواجهات الابتدائية مع الدولة والمجتمع!! مما يجعلنا جميعا نقف حذرين أمام مواجهة سيقع فيها الجميع ضحايا وبلا استثناء!! فهل نطمح في أن يكون بين المتواجهين عقلاء يسعون لخلق "حوارات متوازنة" بدلا من "صراعات الحكومة المتوازنة"!! |