أستميح القارئ عذرا لتعرضي في هذا المكان لأمور اقتصادية ومالية خلافا لما ألزمت نفسي به وهو أن لتلك الأمور مكانها الطبيعي في مقالات ولا أكتب في "ألفاظ ومعان" إلا غير ذلك، وعذري أن ما أكتبه الآن أصبح من الأمور الذائعة التي تحمل أحيانا أسماء زائفة ولا هدف لها إلا التصرف في غير ما تملك، فقد زادت أعداد المتعاملين مع البنوك في شكل ودائع وشهادات استثمار وصناديق استثمار·· إلخ، كما اتسع نطاق التأمينات الاجتماعية ليشمل الملايين من المواطنين، ونشطت شركات التأمين في ميدان الاستثمار في مشروعات تحت الإنشاء تفتقد دراسة الجدوى وقد لا يكتمل بعضها أو تفوق تكاليف إنشائه أضعاف ما كان مقدرا عند الدعوة للاستثمار فيه·
وبعد أن أوضحنا مثالب الجهاز المصرفي نتعرض الى مجموعة أخرى من الشركات التي تجازف بأموال الناس، وهي شركات التأمين وصناديق التأمين الخاصة وما أشبهها، فما تحت يد إدارة كل منها جموع من الأقساط التي يدفعها أصحاب بوليصة التأمين شهريا أو سنويا، والمفروض أن تعنى الإدارة بتنمية هذه الأموال تعويضا عن تراجع القوة الشرائية للعملة أو مواجهة كارثة تستدعي سداد حقوق مئات أو ألوف من المؤمنين في أيام معدودات فتعجز لقصور ما لديها من أصول سائلة أو يسيرة التسييل، وكما قلنا بالنسبة للبنوك: المفروض أن المالك حر في التصرف فيما يملك، ولكن من يدير أموال الغير فلابد أن يتقيد بالقواعد القانونية والعرفية، وأن تكون تصرفاته تحت رقابة خارجية "حكومية أو هيئة محترمة وذات خبرة"، ولم أسمع يوما خلال الثلاثين سنة الماضية عن اعتراض رقابي على تصرفات شركة أو صندوق، مع أن ظروف عملي مكنتني من التعرف على حالتين صارختين: الأولى أن شركة تأمين قطاع عام أسهمت بعشرة ملايين جنيه في مشروع تأسيس "فندق عالي" علي كورنيش النيل، وقد أفلست الشركة صاحبة المشروع وسحبت الشركة العالمية وعدها بمنح الفندق الذي لم يكتمل اسمها، ولا أدري كم ناب شركة التأمين من التصفية، والمثل الثاني: رئيس سابق لشركة مقاولات ضخمة كان يستثمر مباشرة وبقرار منه وحده أموال صندوق معاشات العاملين·
أما المأخذ الجوهري على قطاع التأمين في مصر فهو التقصير الشديد في مجال التأمينات العامة والمنشآت الكبرى غير مؤمن عليها: السكك الحديدية، شركات نقل الركاب والبضائع، الأبراج السكنية·· إلخ وحين لقي 350 من أبناء الصعيد مصرعهم في حريق شنيع التهم عربات بأكملها، لم تنل أسرهم إلا "صدقة" من وزارة الشؤون الاجتماعية "نحو ألف جنيه"، فهل هذا هو ثمن حياة المواطن المصري؟ وتدخل الشركات في مساومة مع طالب التأمين الذي يريد قسطا أقل من المعتاد، فتوافق شركة التأمين مقابل تخفيض كبير لسقف التعويض، وحين احترق فندق شيراتون المطار تبين أن عليه تأمين سقفه 50,000 دولار فقط، أما الضحايا فلم ينلهم شيء· |