يعتقد الكثير من المثقفين الأساسيين في العالم أن القراءة هي أفضل وسيلة لتنمية الثقافة ونشر التنوير·· لكن ما نوع القراءة التي تسمح بتعزيز الثقافة، هل هي قراءة الصحف والدوريات أم هي قراءة المجلات الرصينة والكتب؟ ثم أي كتب؟ ولا شك أن هناك من يعتقد بأن التطورات التقنية الحديثة مثل الإنترنت قد تحد من قراءة الكتب، كما أن وسائل الاتصالات والإعلام ربما عطلت ملكة القراءة لدى أفراد عديدين في مجتمعات كثيرة هل هذا صحيح؟ إن بيانات دور النشر في الدول المتقدمة تؤكد أن الإقبال على الكتب مازال قويا، وهناك مئات الآلاف من النسخ تطبع لأي رواية كتاب جذاب، بل إن طبعات عديدة تظهر لمثل تلك الكتب، بل أكثر من ذلك أن عددا من الكتاب الذين أصدروا بعض الكتب تمكنوا من جمع ثروات طائلة مقابل إنتاجهم الفكري والثقافي·· بيد أن مسألة القراءة تتفاوت من مجتمع إلى آخر وكلما ارتفعت درجة التحضر ومستويات التعليم كلما زاد الإقبال على القراءة الجادة، وهذا يحدث حتى داخل المجتمع الواحد·· لا يعني ذلك أن أولئك المنهمكين في القراءة لا يتابعون ما ينشر في الصحف أو يطبع على شاشات الإنترنت أو أنهم لا يشاهدون ما يبث على القنوات التلفزيونية بل على العكس من ذلك فأغلبيتهم متابعون جيدون يحرصون على التعرف على ما يجري حولهم·
يقود هذا الاسترسال في موضوع الثقافة والقراءة إلى مسألة نوعية القراءة، هناك مراقبون يعتقدون أن انتشار صحف الإثارة، أو التابلويد، التي تعتمد على استمالة القراء بأخبار ومعلومات عن حوادث مثيرة أو بنشر إشاعات، قد دهورت التثقيف في البلدان الصناعية·· توجد الآن، صحف يومية ومجلات تهتم كثيرا في نشر تلك الأخبار الخاصة والحسية والتي تتعلق بالشخصيات العامة والمشهورة، توجد في مدن كثيرة مثل لندن ونيويورك وباريس وفرانكفورت وغيرها، ومن المثير للاهتمام أن تلك الصحف والمجلات توزع أكثر من الصحف الرصينة في بلدانها، ولا يقتصر الأمر على البلدان المتطورة بل انتشر الأمر إلى آسيا وبلدان أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد يلاحظ المرء أن بلدانا الخليج قد لحقت بلدان أخرى في انتشار هذه الظاهرة حيث توجد صحف تهتم بالجريمة أو أخبار النجوم، كما أن صحفا يومية تقليدية أخذت تهتم بنشر قضايا الإثارة من أجل زيادة التوزيع للتمكن من كسب الإعلانات، الإثارة لا تعتمد بالضرورة على المسائل المتعارف عليها مثل الجرائم وقضايا الجنس بل ربما تعتمد على إثارة مواضيع سياسية تهدف إلى كهربة الأجواء وبذر الخلافات بين أطراف المجتمع السياسي، أو تبني قضايا التطرف الديني أو العقائد أحيانا أخرى، ولا جدال بأن غياب الموقف السياسي للكثير من هذه الصحف يساعد على انتشار مواضيع الإثارة بجميع أنواعها·
أعود لموضوع الثقافة والقراءة وأؤكد أنه بصرف النظر عن طبيعة القراءة فإن القارىء الجاد سيجد طريقه إلى الثقافة الجادة والتي تمكنه من تطوير ملكاته الفكرية وتعزز قدراته على إنتاج الثقافة في المجالات والتخصصات التي يجيدها، ولا يمكن لأي كاتب أن يكون قادرا على تعزيز قدراته في الكتابة إذا عجز عن القراءة والمتابعة للإصدارات الثقافية·· وليس الكتاب وحدهم تلزمهم القراءة بل إن جميع المهنيين لابد أن يراعوا المتابعة لما يصدر وما يكتب في مجالات تخصصهم، كما أن الثقافة العامة والمتنوعة يحتاج إليها الفنانون والممثلون والرسامون، ولا يمكن أن يكون هناك إنسان قادر على الإبداع في تخصصه أو مجال عمله دون أن يقرأ ويتابع ما ينشر، من دون ذلك ستبدو السطحية في أدائه·· وربما تفسر هذه الحقائق ما يبدو من عدم قدرةالمحاورين ومقدمي البرامج الحوارية في تلفزيونات المنطقة على الإلمام بالقضايا التي يستعرضونها ويتحاورون حولها، إن عدم التحضير والقراءة حول المواضيع تفسر الكثير من نقاط الضعف في تلك البرامج وتجعلها مرهونة برغبات المشاهدين والمستمعين دون التزام بالحد الأدنى من تكريس الوعي وضمان نشر الحقائق، وعندما نتحدث عن الثقافة والقراءة لابد من التطرق إلى معارض الكتب التي تنتشر في البلدان الخليجية والعربية والتعرف على نوعية الكتب التي تجذب رواد هذه المعارض، بداية يجب التأكيد على أن هذه المعارض تعاني من قسوة الرقابة الحكومية على ما يعرض من كتب فيها، وهناك محرمات تتعلق بالسياسة والدين والأخلاق كما يفهمها مراقبو الكتب، هذه المحددات عرضت الكثير من المعارض للفشل أو عدم مشاركة الكثير من دور النشر فيها، حيث تواجه مصادرة بعض إصداراتها دون إنذارات مسبقة، وقد عانى معرض الكتاب في الكويت خلال السنوات العشر الماضية مشكلات بسبب الرقابة وكذلك نظرا لتدخلات من أعضاء مجلس الأمة والتي تلاقي تملقا واستجابة من الجهات الرقابية في الحكومة، وكل ذلك أدى إلى تراجع عرض الكتب القيمة والجادة وازدهار الكتب التي تعتني بالأمور السطحية والخزعبلات، ونجد الآن الكثير من قراء الكتب العربية في الكويت وعددا آخر من دول الخليج يحرصون على متابعة الكتب والروايات واقتنائها من دور النشر في بيروت أو القاهرة أو لندن·· هذه الأوضاع جعلت من معارض الكتب في الكويت احتفاليات لا تعني كثيرا للمثقفين الجادين·
بعد ذلك تأتي مسألة اللغة حيث إن من يمتلك ناصية القراءة باللغات الأجنبية، وخصوصا الإنجليزية أو الفرنسية، يستطيع أن يطور قدراته الثقافية بشكل أفضل، ولسوء الحظ لا توجد في البلدان العربية حركة ترجمة مقتدرة تستطيع أن تمكن قارىء العربية من متابعة الإنتاج الثقافي في البلدان المتطورة، ولا يمكن اعتبار ما يترجم من تلك الإصدارات الأجنبية كافيا لنشر الوعي والمعرفة· وأستطيع أن أزعم أن جزءا كبيرا من التخلف الثقافي الذي نعاني منه في عالمنا يعود لعدم التواصل ولفقر الترجمة، وإذا كان المثقفون العرب بأغلبيتهم لا يقرؤون ما يكتب بتلك اللغات فكيف يمكن أن نلوم القراء العاديين على تدني درجة ثقافتهم ومعرفتهم بما يدور في العالم؟ إن إشكالية القراءة، إذا متشعبة ومعقدة تستلزم وعيا بمتطلبات الانتقال إلى مرحلة متقدمة في الواقع الثقافي، وهذا يستوجب الاهتمام بالتعليم والثقافة كعناصر أساسية في العملية التنموية وتحرير الإنسان من الخرافة والعبودية الفكرية وتمكين العرب من التواصل مع الإبداع المعرفي في مختلف البلدان·
tameemi@taleea.com |