لم أكن أتصور - منذ سنوات قليلة خلت - أن يحظى الكمبيوتر بالمكانة التي يحظاها في حياتي الآن، ذلك أن هذا الجهاز العجيب، أصبح بالنسبة لي، وسيلة للإنتاج والمتعة في آن معا، شأني في ذلك شأن الملايين من أبناء هذه المعمورة· ولقد تعلمت الكمبيوتر على كبر، رغم أنني عاصرت تطوره وأنا في ريعان الشباب أيام الدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية· وإنني أشفق على أولئك الذين يتعللون بالكبر حجة لعدم إقدامهم على تعلم أسرار هذا الجهاز، تلك الأسرار التي أضحت في متناول الجميع بسبب سعي الشركات المتنافسة لتبسيط استخدامه بغية ترويجه كسبا للمال· وكان الانتقال من الكتابة بالقلم إلى الطباعة المباشرة على الكمبيوتر كالانتقال من عصر إلى آخر بما يحمل ذلك من آلام التكيف والتعود على الجديد·
على أنني لم أكن غريبا على الطباعة بالآلة الكاتبة، إلا أن ذلك كان يقتصر على طباعة بعض "المناشير" في مناسبات سياسية معينة· لكن شتان ما بين الطباعة بالآلة الكاتبة العربية القديمة وبين الطباعة بالكمبيوتر· فإذا كان الكمبيوتر لم يسهل من الطباعة باللغة الانجليزية، حيث بقيت الأحرف تكتب مطبوعة كما هي، فإنه أدخل "ثورة" في الطباعة العربية، إذ ألغى ثلاثة أرباع تعقيداتها· فمن المعروف أن معظم الأحرف العربية تكتب على أربعة أشكال: الحرف في أول الكلمة، ووسطها، وآخرها، والحرف المستقل في آخر الكلمة، مثل حرف العين في علي وسعد وشمع وشعاع· وكان على الطباع في الآلة الكاتبة أن يحفظ أربعة مواقع للحرف الواحد، أما في الكمبيوتر فهناك موقع واحد للحرف فقط·
والأمر لا يقتصر على ذلك، بل يتعداه لمساعدة الكاتب في الإملاء، فما أصعب اللغة العربية نحوا وصرفا وقراءة وإملاء، ولو عمل أساتذة العربية بالذات المتخصصون منهم بالنحو جنبا إلى جنب مع واضعي برامج الكمبيوتر فقد يتوصل الطرفان لوضع مدقق نحوي يساعد كتاب العربية على الكتابة السليمة· لكن هذا غيض من فيض مما يقدمه الكمبيوتر مقارنة بالآلة الكاتبة القديمة، مثل القدرة على المسح والتخزين وغيرها من الخيارات التي يعجز المرء عن الإحاطة بها جميعا·
ولعل من أعظم الخدمات التي يقدمها الكمبيوتر إلى جانب ما ذكر هو أنه أصبح النافذة التي يطل من خلالها أكثر من ألف مليون شخص إلى عالم المعلومات المتمثل بشبكة الإنترنت بحسب جريدة النيويورك تايمز (11/17)· وأصبحت هذه الشبكة منذ عقد أهم وسيلة للتواصل بين البشر في القارات الخمس من خلال نقل المعلومات وتبادل الأخبار، بل أصبحت هذه الشبكة وسيلة للتبضع وحجز الفنادق والطائرات وللتبادل التجاري بين الأفراد والشركات· ويستطيع أي شخص الآن الدخول على مواقع كبريات الصحف وقراءتها، وتجازف أي صحيفة بمستقبلها كمشروع تجاري إن لم يكن لها موقع على الإنترنت·
وقد تكون شبكة الإنترنت إحدى الحسنات التي قدمتها البنتاغون للبشرية أو بالأحرى الحسنة الوحيدة، فقد كانت هذه الشبكة طوال الحرب الباردة وسيلة البنتاغون للاتصالات السرية التي لم يستطع السوفييت كشفها· وأمست هذه الشبكة، بعد أن كشف اللثام عنها حينما وضعت الحرب أوزارها، مفتوحة للجميع· وعلى مدار ثلاثين عاما كان شخص واحد يدير تلك الشبكة، وهو أستاذ ذو شعر طويل كذيل الفرس متخصص في علم الكمبيوتر ويدرس في جامعة جنوب كاليفورنيا واسمه جون بوستل· وتقول مجلة الفورن أفيرز عدد نوفمبر ديسمبر من هذا العام كما تعيد نشرها النيويورك تايمز (11/8) أن هذا الشخص كان يتخذ كل القرارات الفنية كإعطاء الدول رموز مواقعها من قبيل الرمز UK للمملكة المتحدة·
وفي العام 1998 ارتأت الحكومة الأمريكية نقل إدارة الشبكة إلى مؤسسة غير ربحية اسمها اختصارا "إيكان" ولها مجلس إدارة مكون من 15 شخصا· وما زالت هذه المؤسسة الأمريكية تتحكم في عمل الإنترنت وهو ما أثار حفيظة باقي دول العالم، ذلك أن تفردها بالسيطرة يثير كثيرا من المشاكل من قبيل المنازعات بين الدول على الرموز كاعتراض الصين على إعطاء تايوان رمزا مستقلا· ومنذ الثمانينات دعت اليونسكو إلى نظام عالمي جديد للاتصالات، وهو النظام الذي وضع في أواسط القرن التاسع عشر وتحديدا في العام 1865 بإنشاء الاتحاد الدولي للاتصالات الذي أصبح فيما بعد تحت مظلة الأمم المتحدة·
وحسب الفورن أفيرز فإن الداعين إلى السيطرة الحكومية لدول العالم على الإنترنت (كسيطرتها على مجالها الجوي مثلا) يحتجون بأن ذلك سيكون خطوة نحو خلق ديمقراطية متنوعة على الصعيد العالمي، في حين ترى الولايات المتحدة في ذلك خطوة إلى الوراء في سيطرة الدولة الوطنية على نظم الاتصالات· ولعل ما جرى في القمة العالمية للمعلومات الذي عقد في منتصف الشهر الفائت لدليل على عمق الخلاف بين العالم من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى· وقد أسفر اتفاق في اللحظات الأخيرة - كما تقول البي بي سي 11/17 - على بقاء السيطرة التقنية بشكل عام في يد الولايات المتحدة، مع إنشاء منتدى دولي لمناقشة قضايا الإنترنت·
وتحاول الأمم المتحدة أن تلعب دورا فاعلا في هذا المجال، حيث عيّن كوفي عنان في نوفمبر 2004 مجموعة عمل مكونة من أربعين شخصا للنظر في مسألة إدارة الإنترنت· ومن أهدافها أيضا دعم إنتاج كمبيوتر رخيص فضلا عن إشاعة استخدام شبكة الإنترنت وجعلها في متناول الجميع· فمن معطيات تقدمها جريدة الشرق الأوسط (11/15) يتبين أن %3 من الأفارقة %4 من الصينيين لديهم كمبيوترات مقابل %55 في أمريكا· أما بالنسبة لخدمة الإنترنت فهي تتوافر لـ %11 من سكان العالم فقط %90 من هؤلاء يقطنون في الدول المتقدمة·
ولعل الخبر السعيد الذي تمخض عن قمة تونس هو الإعلان عن إنتاج كمبيوتر محمول لا يتجاوز سعره المئة دولار الأمر الذي دعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى القول بفخر: "إن حلمنا بتحقيق جهاز كمبيوتر بأبخس الأثمان قد تحقق""·
alyusefi@taleea.com |