حاول المجرم صدام حسين دائماً أن يُشبِّه نفسه بالزعيم الراحل جمال عبدالناصر، بل هو يحاول أن يحتل مكانة جمال ويستولي على تراثه الوطني والقومي الخالد ويغتصب كل ما أنجزه عبدالناصر خلال حياته الحافلة بالعطاء والكفاح وذلك عبر فبركة قصص وروايات زائفة ومعارك وهمية وادعاءات فارغة، وعن طريق النفخ في شخصيته الفاسدة وتضخيمها وأنه القائد الضرورة للأمة العربية، وقائد الحملة الإيمانية مستخدماً شعارات الوحدة العربية وتحرير فلسطين واستعارة المفاهيم التي تشكل القاعدة الفكرية الناصرية وفي الوقت ذاته يبذل الجهود ويحبك المؤامرات من أجل الإساءة لعبدالناصر والناصرية ومحاولة إلغائه أو تهميشه والحلول محله!
حدث ذلك بعد وفاة عبدالناصر، أما قبل وفاته فإنه كان يدبر المؤامرات ضد عبدالناصر والناصرية كتيار فكري ونهج وحدوي عروبي بل وخطط ودبّر مؤامرة لقتل عبدالناصر والتي سنروي تفاصيلها فيما بعد، بعد أن بقيت سراً مكتوماً عمره أكثر من 31 عاماً· ومازلنا نتذكر تصريحات صدام حسين على مدى فترة السبعينات وهو يشتم فيها جمال عبدالناصر ويحمّله مسؤولية انهيار الموقف العربي عام 1967 وعلاقته مع هنري كيسنجر·
وقبل ذلك اتهام عبدالناصر بالتآمر على حزب البعث والتسبب بالانفصال وفشل تجربة الوحدة بين سورية ومصر·· لكن صدام حسين عام 1980 أعاد النظر في سياسته الدعائية محاولاً التراضي مع أغلب الأقطاب والاتجاهات لكي يتفرغ لحربه مع إيران ويؤمن وحدة الجبهة الداخلية والدولية أيضاً·· وفي إطار هذه المحاولة حيث لم يعد صدام يشعر بالمنافسة مع جمال عبدالناصر، حاول أن يصعد إلى المركب القومي ذاته في إيحاء بأنه مكمل المسيرة القومية وهو عبدالناصر الجديد··!
ولهذا حاول صدام أن يغازل القوميين العرب وأطلق اسم عبدالناصر على إحدى ساحات بغداد وأطلق اسم كمال جنبلاط على ساحة أخرى·· (ثم رفع اسم جنبلاط بعد وفاته)!
وفي ذروة هذه الصحوة الصدامية المزيفة إزاء عبدالناصر صدر أمر رئاسي لوزارة الثقافة والإعلام للقيام وعلى الفور بتكليف أبرز النحاتين العراقيين لإقامة تمثال كبير للرئيس الراحل جمال عبدالناصر يوضع في الساحة الخاصة به في بغداد·· وتحرك الوزير فوراً وقبل أن يصل الأمر إلى القاهرة·· صدرت التعليمات الوزارة للمستشار الصحافي العراقي في القاهرة بالهاتف، وكان آنذاك السيد داود الفرحان، للمبادرة بالاتصال فوراً بعائلة عبدالناصر وإبلاغها بهذا الخبر السعيد·· وهكذا كان داود الفرحان بعد وقت قصير جداً في ضيافة العائلة محققاً بذلك رغبة شخصية محببة إلى قلبه فهو أيضاً من عشاق عبدالناصر وكان يطمح أن يقترن اسمه بعمل صحافي حقيقي بعيداً عن (التكليفات) الشخصية خارج نطاق عمله!!
لماذا لم ينفذ أمر صدام
بإقامة تمثال لعبدالناصر؟!
ولكي ينفذ التمثال بدقة عالية وحسب تعليمات الرئاسة والرئيس والوزارة والوزير وخصوصاً السيد الوكيل نوري المرسومي (قومي سابق) ومازال على حبه لعبدالناصر ولعل هذه هي حسنته الوحيدة· حمل الفرحان معه من بيت عبدالناصر أجمل بدلاته المدنية وربطة عنقه ومنديله وحذاءه وجواربه وقميصه وأشياء أخرى وضعها في حقيبة خاصة وصلت بعد أيام إلى مكتب الوزير في أول رحلة للخطوط الجوية العراقية من القاهرة إلى بغداد·
وانتهت الحرب العراقية الإيرانية ولم ينفذ التمثال لأن الرئيس القائد على ما يبدو طلب التريث·· وبعد سنوات طويلة وبالضبط في عام 1997 تذكر “القائد الحكيم” مرة أخرى جمال عبدالناصر·· وأزعجته الإشاعات التي أشارت إلى أن خالد عبدالناصر يروم إصدار كتاب “مذكرات” يشير في أحد فصوله إلى أن والده استقبل ذات مرة شابا أسمر برفقته (·····) علم خالد بأنه بعثي يدعى صدام حسين·
وصدرت الأوامر من جهاز المخابرات لوزارة الثقافة والإعلام للتحري عن مصداقية هذا الخبر واقترحت إحدى الجهات على صدام حسين توجيه الدعوة لولدي عبدالناصر خالد وشقيقه الأصغر وفعلاً تم ذلك وتكررت زيارات خالد وشقيقه وتمت تسوية الأمر·· وأسفرت اللقاءات المباشرة مع صدام إلى صدور أوامر شخصية لوزير التجارة العراقي محمد مهدي صالح لتسهيل مهمة أبناء عبدالناصر في إبرام صفقات تجارية لتصدير سلع للعراق لمصلحتهما في إطار مذكرة التفاهم (النفط مقابل الغذاء والدواء) وعقدت الصفقة وكانت للأسف مثار استغراب في مصر والعراق حيث خيب خالد وشقيقه آمال أنصار عبدالناصر في تعاونهم مع الطاغية مقابل حفنة دولارات كما استنكرتها قوى المعارضة العراقية وخصوصاً الأحزاب القومية الناصرية كالتجمع الوحدوي الناصري والحزب الطليعي الاشتراكي الناصري في العراق والحزب الاشتراكي العربي في العراق بزعامة الدكتور مبدر الويس·
واستمر صدام في هذه اللعبة وأطلق اسم جمال عبدالناصر على فرع حزب البعث في الأعظمية في بغداد وهي المدينة العراقية التي كانت معقلاً لحركة القوميين العرب·· هذا ما حدث في العلن عام 1999 أما في السر فقد جرت حملات اعتقال واسعة لرموز القوميين العرب نفذها جهاز المخابرات وأسفرت عن تجنيد الشخصيات الضعيفة منها لأغراض التجسس على رفاقهم مقابل إطلاق سراحهم·
ولم ينفذ تمثال عبدالناصر، فبادر السيد داود الفرحان لكتابة مقال في صحف عدي صدام عام 1997 يتساءل فيه ليس عن تعطيل مشروع التمثال بل عن مصير الحقيبة المفقودة بين الرئاسة ووزارة الإعلام وهي تحمل القيافة الكاملة لعبدالناصر·· وانتشر خبر الفضيحة وتبادل البعض الاتهامات والهمس وأسدل الستار مجددا على الحقيبة المفقودة على أن يبدأ العرض الجديد حين يتذكر صدام حسين عبدالناصر مرة أخرى في أزمة جديدة!!
هل يوجد شبه بين حياة عبدالناصر وصدام؟!
صدام حسين كما أسلفنا يحاول دائماً أن يشبه نفسه بعبدالناصر ويرى أنه يتطابق معه في سلوكه القيادي القومي وزهده في الحياة وابتعاده عن مظاهر الترف هو أسرته وأقاربه وحاشيته أيضاً! إن حياة صدام وبذخه وإفراطه الخرافي في إهدار وتبديد ثروة العراق على بناء القصور وغيرها وعلى عائلته وأقاربه وعصاباته في داخل العراق وخارجه والتي أصبحت معروفة بتفاصيلها وأسرارها ومشاعة للجميع ومن أجل المقارنة بين حياة الرجلين، سنعرض لثلاثة مجالات فقط من حياة الزعيم ناصر ونترك لذكاء القارئ اكتشاف مدى التقارب أو التباعد بين الرجلين!
في بيت متواضع عاش جمال عبدالناصر وأسرته
بيت عبدالناصر في منشية البكري، كان فيما سبق بيت ناظر المدرسة الثانوية العسكرية مكونا من طابق واحد تحيط به حديقة وفيما بعد تم بناء طابق ثان للبيت، والبيت يتكون من الباب الرئيسي في الدور الأرضي، تدخل منه إلى صالة كبيرة وفي منتصف الصالة توجد مائدة مستديرة من الرخام اعتادت أسرة عبدالناصر أن تضع فوقها (فازة) ممتلئة بالزهور· إلى اليسار باب تدخل منه إلى حجرة مكتب عبدالناصر في الدور الأرضي، وإلى اليمين حجرة كانت تستخدم لاستقبال الضيوف الرسميين· ولكن عندما امتلأ بيت ناصر بالأطفال وأصبح يشكو من شقاوتهم والضجة المستمرة التي يحدثونها كأي أب مصري، اقترح عليه سكرتيره بناء دور ثان في البيت، لكن عبدالناصر لم يتحمس للفكرة لأنه كان لا يرغب في تحميل الدولة عبء راحته الشخصية، فبيته كان يتبع الأشغال العسكرية وهي التي تتحمل نفقات إقامة الطابق الثاني· لكن المشير عبدالحكيم عامر وسكرتير ناصر استغلا فرصة سفر الزعيم إلى المعمورة في اجازة وقاما بنقل كل ما يخص أسرة عبدالناصر من البيت إلى قصر الطاهرة بما في ذلك ملابس عبدالناصر وقاما ببناء الطابق الثاني· وبالمصادفة قطع عبدالناصر الإجازة وعاد إلى القاهرة فجأة وكان ما حدث سببا في أن يغضب بشدة لدرجة أنه قال لسكرتيره: لو أنك كررت ذلك ثانية فلن تستمر معي في العمل·
ولم يستمر ناصر في قصر الطاهرة طويلاً فقد عاد سريعاً إلى بيته· وعندما أمره الأطباء بممارسة الرياضة، أضاف للبيت ملعب تنس صغيرا وكان الاقتراح أن يبني حمام سباحة لكنه رفض بسبب ارتفاع التكلفة· وظل بيت عبدالناصر بلا مصعد إلى قبل وفاته بعام، فالبيت مكون من طابقين ومن غير المنطقي أن يكلف الدولة ثمن مصعد كما كان يعتقد، لكنه اضطر لتركيب المصعد بعد إصابته بأول أزمة قلبية حيث أمره الأطباء بالامتناع عن استخدام السلم وكانت حجرة ناصر ومكتبه في الطابق الثاني·
العمل من 16 إلى 20 ساعة يومياً
كان عبدالناصر يعمل من 16 إلى 20 ساعة يومياً وكان أول من يستقيظ في البيت، عادة في الساعة السادسة أو السابعة صباحا، يتناول إفطاره وحده: شاي وجبن وخبز ولبن وطبق من الفول المدمس، بعد ذلك يذهب إلى مكتبه الذي يقع في الجانب الآخر من البيت· أما تحية زوجته فتستيقظ بعده وتتناول إفطارها مع الأبناء وقبل أن يبلغ الأطفال سن دخول المدرسة كانت تتولى هي تعليم الدروس الأولى في اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية وكان عبدالناصر يخصص لزوجته تحية وقتاً خاصاً يقضيه معها ساعة الغداء فكانا يتناولان هذه الوجبة معاً وكانت المكالمات الهاتفية ممنوعة إلا في الأحوال الاستثنائية وبعد الدردشة مع زوجته، كان الرئيس يقرأ بعض الأوراق والتقارير ثم يعود إلى عمله في الخامسة بعد العصر ويترك تحية تتناول عشاءها مع الأولاد·· هكذا كان عبدالناصر يعيش داخل أسرته يطلع على أدق تفاصيلهم، يناقشهم ويلعب معهم الشطرنج ويحلم معهم بالمستقبل مثل أي مواطن بسيط·
ممنوع الوساطة ولو لبنت الرئيس
حصلت منى ابنة الرئيس عبدالناصر على مجموع ضعيف في الثانوية العامة وبرغم قدرته على استثنائها، رفض ناصر أن تدخل الجامعة وتمت معاملتها مثل الطلبة الذين حصلوا على المجموع نفسه، فالتحقت بالجامعة الأمريكية وكانت ملجأ أصحاب المجاميع المنخفضة في ذلك الوقت وبعد التخرج رفض إلحاقها بأي عمل أو التوسط لها وسعت هي بنفسها - كغيرها - للعمل فاتصلت برئيس مجلس إدارة دار المعارف السيد أبو النجا وكانت تخفي في مكالمتها أنها ابنة عبدالناصر حيث قدمت نفسها له باسم (منى جمال) ولم يدرك أنها ابنة الرئيس إلا بعد أن زارته في المكتب، وقد رفض رئيس مجلس إدارة دار المعارف تعيينها إلا بعد التشاور مع هيكل الذي كان يتولى الإشراف على دار المعارف في ذلك الوقت الذي اقترح عليه أن يعينها براتب يماثل راتب أي موظف بمؤهلاتها وبالفعل تم تعيينها بـ 35 جنيهاً وعندما تركت العمل في دار المعارف لم يكن راتبها يتجاوز 65 جنيهاً بعد 6 سنوات من العمل·
عبدالناصر: أنا فقير
هدى ومنى ابنتا عبدالناصر كانتا مدعوتين لحفل عيد ميلاد إحدى صديقاتهما وعزّ عليهما، وهما ابنتا الرئيس، الذهاب إلى الحفل بالفساتين نفسها التي اعتادتا الظهور بها في حفلات سابقة فطلبت البنتان وأمهما السيدة تحية شراء فساتين جديدة للبنتين وكان رد عبدالناصر: لسنا عائلة غنية علشان تلبسوا في كل حفلة فستان·· أنا فقير··ودخلت عليه هدى حجرته يوماً وكان يستعد لسماع أغنية أم كلثوم هذه ليلتي فنظرت بإعجاب إلى جهاز التسجيل وطلبت شراء جهاز مثله فرد عليها عبدالناصر “إن شاء الله” أجيبهولك بعدما نطرد اليهود· |