هل كان بالإمكان تجاوز آثار سقوط النظام البعثي في العراق، بمعنى آخر هل كان ولا يزال بيد قوات التحالف تحقيق الأمن والاستقرار المنتظر في العراق؟ أسئلة كثيرة تطل علينا في كل مرة يتأزم فيها الوضع الأمني في العراق، آخرها كان في مجازر كربلاء والكاظمية الدموية التي ضاعفت من مناخ عاشوراء الحزين·

أثناء جولته الأخيرة في الكويت والعراق قال وزير الدولة لشؤون الدفاع البريطاني إن الإرهابيين استغلوا الاحتفال بيوم عاشوراء وقاموا بعملياتهم تلك، مؤكدا أن قوات التحالف لم تتدخل في ذلك الاحتفال إيمانا منها بالحريات والديمقراطية، ولأن العراقيين هم من يجب أن ينظموا شؤون بلادهم، كما أشار الوزير الى أن كلا من بريطانيا والولايات المتحدة ملتزمة بتسليم السلطة للعراقيين في نهاية يونيو المقبل مبينا بأنهم كانوا قد عقدوا اجتماعات خاصة أخيرا مع السلطة الانتقالية لترتيب هذه المسألة، وأنهم سوف يبذلون كل ما بوسعهم حتى يتم تسليم السلطة للعراقيين في الموعد المحدد·

في كتابه "العراق هوامش من التاريخ والمقاومة" يبرز الكاتب والأديب والاقتصادي عبدالرحمن منيف الذي رحل عنا أخيرا بعض من الجوانب المهمة من تاريخ العراق، وقد جاءت تلك الهوامش أثناء تحضيره لرواية "أرض السواد" وهي الرواية الأقرب لرائعته الخماسية "مدن الملح" وقد تكونت لديه مجموعة من الهوامش المهمة في تكوين ذاكرة تاريخية متأملا على حد تعبيره هذا البلد الذي يتعرض لأقسى محنة في تاريخه، قد تعيد كتابة تاريخ من نمط جديد، هو تاريخ المنتصر·

يبدأ عبدالرحمن منيف بتدوين نسخته من التاريخ في كتابه الصادر في 2003 فيقول: "بعد أن تم الاستيلاء على العراق بكامله ودخل القائد البريطاني الجنرال "مود" بغداد في آذا 1917 قال كلمته المشهورة مخاطبا الشعب العراقي: "لقد جئتكم محررا لا فاتحا" ومنذ ذلك التاريخ أخذ الإنجليز يقيمون في العراق حكما مباشرا وتولوا بأنفسهم الإدارة والسيطرة على الثروة بما في ذلك إقامة الجهاز الإداري وفرض الضرائب وتعيين حكام المناطق·

ومنيف هنا يشير ولا شك الى شكوكه في احتمال أن تسلم قوات التحالف زمام الأمور الى العراقيين·

وفي زاوية أخرى من هوامش عبدالرحمن منيف التاريخية يذكر ما يلي: "بعد ثورة تموز 1958 ولأن التحالف الذي عجل بقيامها ثم ساندها بعد أن قامت كان هشا ويفتقر الى مقومات البقاء والاستمرار فقد اضطربت الثورة منذ مراحلها الأولى ثم انزلقت الى الصراعات الجانبية فالضياع ثم السقوط، وهكذا ضاعت هذه الفرصة ومعها المرحلة التاريخية في تقديم صورة وصيغة عما يجب أن يكون عليه العراق وبدأت سلسلة من التجارب المليئة بالثغرات والأخطاء ولعل أبرزها عدم قدرة القوى السياسية والاجتماعية على التحاور والاتفاق على برنامج الحد الأدنى، وبالتالي إقامة تحالف وطني يمكّن من إنضاج صيغة تساعد على بناء عراق جديد، كانت كل قوة من القوى السياسية تفترض أنها وحدها التي تملك الحقيقة والمصداقية وأنها وحدها المؤهلة لقيادة العراق ولذلك فهي غير مستعدة للاعتراف بالقوى السياسية الأخرى لمحاورتها·· لإشراكها في السلطة، وهذا أدى الى انغلاق القوى السياسية، والى قيام حروب فيما بينها"

ويرى "منيف" أن المناخ كان متاحا للعراق لأن يقيم صيغة للتعامل فيما بين القوى السياسية تدوم طويلا لو امتلكت هذه القوى وعيا كافيا، وقرأت بدقة وضعها والظروف المحيطة بها، لكن العزلة التي عاشتها تلك القوى قبل الثورة وخوفها المبالغ فيه جعلها تغرق في الأوهام وتعجز عن إدارة حوار إيجابي فيما بينها من أجل الوصول الى القواسم المشتركة·

نتمنى ألا يكون ذلك مخزنا في الذاكرة العراقية وألا ترتكب القوى السياسية في العراق خطأ تاريخيا يضاف الى هوامش "منيف" التاريخية، فالمخرج الوحيد الآن أمام العراق هو في إدارة حوار عقلاني بين كل القوى السياسية، لأن غياب هذا الحوار أو إدارته بصورة شكلية سيحمل العراق المزيد من المآزق السياسية وسيضيف الى هوامش "منيف" التاريخية هامشا عنوانه الفشل من جديد في اقتناص الفرص التي يوفرها التاريخ في مساره!!

 suad.m@taleea.com