أتذكر أني قبل خمس سنوات كتبت مقالة بعنوان "طالبان خوارج هذا العصر"، وكان ذلك بعد المجازر التي ارتكبها الطالبان بعد أن استتبت لهم الأمور في أفغانستان بمساعدة المخابرات الأمريكية والباكستانية· لم يكتب لهذه المقالة أن تنشر لأن المسؤول عن المقالات في الجريدة قال إنه لا يستطيع نشر المقالة لأنها ستثير شريحة كبيرة من القراء المؤيدين لنهج طالبان والذين يعتبرون حكومة طالبان تمثل نموذج الخلافة الراشدة في العصر الحديث، وكانوا يرون أن لملا عمر بيعة في أعناقهم باعتباره خليفة المسلمين، وكانوا يرون أن "الشيخ" أسامة بن لادن يمثل نموذج المسلم المجاهد المحامي عن ديار المسلمين·
هناك سؤال يحير الكثير من الناس وهو ما سر انجذاب شريحة واسعة من المسلمين للفكر المتطرف الذي مثله الملا عمر وابن لادن ومن بعدهما الزرقاوي وبقية رموز الفكر التكفيري المتطرف، ولماذا غزا هذا الفكر المتشدد العالم من أقصاه الى أقصاه ولاقى قبولا واسعا بين الشباب بحيث اعتبر أنه يمثل تيار "الصحوة الإسلامية"؟ أعتقد أن الانتشار الواسع للتيار الفكري المتطرف في العقدين الماضيين يعود الى سببين رئيسيين، مع عدم إغفال وجود أسباب أخرى أقل تأثيرا·
السبب الأول أن بعض الحكومات العربية ومعها أجهزة استخبارات دول عظمى كانت تشجع هذا التيار الفكري لأنها كانت تريد أن تستخدمه لمصالحها الخاصة، ولذلك أتاحت الفرصة "لدعاة" هذا الفكر في نشر فكرهم وأغدقت عليهم ملايين الدولارات، ولذلك انتشروا في كل بقاع الأرض تحت عناوين "الدعوة الى الإسلام"، ووجدوا في الشعوب التي كانت تعيش جهلا وفقرا مدقعا المادة الخام التي يمكن أن يحقنوا فيها مبادئهم المتطرفة، فتشرب "المهتدون الجدد" بهذه المبادئ، وفي بعض الأحيان أصبحوا أكثر تطرفا وتشددا ممن "هداهم"·
قبل سنوات عدة كنت أصلي في المسجد النبوي وكان يجلس بجانبي رجل نيجيري يعمل في سفارة بلاده في تركيا، وبعد عبارات التعارف سألته عن التيارات الفكرية في بلاده ونسبة ما يشكله من يحملون الفكر المتطرف من مجموع السكان في نيجيريا، فأجابني بأنه نتيجة لسيل "الدعاة" الذي يفدون الى نيجيريا من الدول الإسلامية وبالأخص من السعودية فإن عدد من يتعاطفون مع هذا الفكر يربو الآن على الخمسة ملايين، وهم أكثر تطرفا وتشددا حتى ممن حقنوهم بهذا الفكر·
ما قاله الشخص النيجيري يجرنا الى السبب الثاني لانتشار هذا الفكر المتطرف ورموزه وهو أنه وبجانب الغطاء السياسي والأمني الذي وفرته الدول الحاضنة لهم والإمكانات الهائلة المتوافرة لدعاة هذا الفكر فإن القائمين على هذا الفكر - والحق يقال - كانوا شعلة من النشاط والحيوية وكانوا يعملون بلا كلل ولا ملل لنشر أفكارهم ومعتقداتهم، ووجدوا في جهل الناس بدينهم البيئة الخصبة لنشر ما يعتقدونه· غالبية الناس البسطاء مثل الإناء الفارغ الذي يمكن ملؤه بسهولة بأي سائل، ودعاة هذا الفكر تهيأت لهم الظروف وكانوا من النشاط بحيث ملأوا هذا الإناء بأفكارهم المتطرفة· الحقيقة المرة أنه ليس من السهل إفراغ هذا الإناء من محتواه بسهولة، وعلي الذين تسببوا في ملئه تحمل النتيجة· |